أقلام حرة

إنطباعات / أمين يونس

ان يمنع إنتشار السرطان في الجسم " حصلت على الجرعة الاولى قبل ثلاثة أشهر خلال سفرتي الاولى الى ديار بكر، وهي عبارة عن إبرة صغيرة محفوظة في وعاءٍ مُجّمَد .. وهي كما الأشياء الأخرى الضرورية، غير متوفرة عندنا في اقليم كردستان " . إلا انني ومن خلال صديقي الذي رافقته، والذي له علاقات قديمة واسعة، مع السياسيين والمثقفين، من مُختلف الإتجاهات، في تلك المناطق ... إستمتعتُ باللقاءات والنقاشات وتبادل الأفكار والإكتشافات .. والتي سأحاول ان اُلخِصها أدناه مع ملاحظات عامة اُخرى :

- لن أستطيع الإبتعاد عن (المُقارنة)، فما ان تخرج من " سلوبي " المدينة الحدودية الصغيرة، وتسير بإتجاه قضاء " الجزيرة "، ستجد الغالبية العُظمى من الأراضي على جانبَي الطريق، محروثة ومزروعة بالقمح والشعير .. وكذلك من الجزيرة الى " نصيبين "، فعلى إمتداد البصر، ترى الأراضي السهلة الشاسعة مزروعة، ويبدو انهم لايكتفون بالأمطار الغير منتظمة، بل ان هنالك مرشات متوزعة على مسافات متساوية، كذلك رأينا الكثير من أماكن الزراعة المُغطاة، وحقول الدواجن والمواشي .. الأمر ينطبق على الكثير من الأراضي على جانبَي الطريق الممتد من نصيبين الى دياربكر، أو من " ميديات " الى دياربكر .. عموماً ان المسافة الممتدة من سلوبي الى ديار بكر والتي تتجاوز ال 250 كيلومتر، جعلَتْني أغبط أهالي تلك المناطق، الذين يعملون بِجِد في أراضيهم ويزرعون كُل شئ .. ناهيك عن المصانع والورش الصغيرة والمتوسطة .. فإذا علمنا، ان المناطق الكردية هذه في جنوب شرق تركيا، هي الأقل تطوراً وان الحكومات التركية ولا سيما في العقود الماضية، كانتْ تتعمد إهمالها وتركها عرضة للتخلف .. نكتشف، السبب في النمو السريع والمتصاعد للإقتصاد التركي على مُختلف الأصعدة .. فكُلما تتوغل أكثر في تركيا غرباً وشمالاً، تجد الصناعة والزراعة والسياحة أكثر تقدماً ...

ما يحز في النفس، هو ان، حتى المناطق الكردية في كردستان تركيا .. أكثر تطوراً بمراحل، من اقليم كردستان العراق .. وان البطالة نادرة هناك، وعندهم إكتفاء ذاتي في معظم المحاصيل الزراعية، ويستغلون أراضيهم ومياههم بصورةٍ جيدة، وان الحكومة تدعم الفلاحين وتشجعهم . في حين عندنا القطاع الزراعي في تدهورٍ منقطع النظير، وإعتمادنا شبه كلي على الإستيراد من دول الجوار .. وفي الواقع نفتقر كُليةً الى " الأمن الغذائي " من ناحية، ومن ناحيةٍ اُخرى، تعودنا على البطالة والبطر، نتيجة السياسات الخاطئة للإدارة في الأقليم .

- كعادتي، كنتُ أنهضُ مٌبكراً وأتمشى قليلاً في شوارع دياربكر .. وأرى عُمال التنظيف يكنسون الأرصفة وأطراف الشوارع .. تحدثت مع بعضهم وسألتهم عدة أسئلة، عن عملهم وأجورهم ومِنْ أين هُم ؟ لايوجد في المدينة التي نفوسها يربو على المليون نسمة، " والتي تُعادل مرتين ونصف نفوس مدينة مثل دهوك " .. لايوجد فيها عامل تنظيف واحد أجنبي .. فالجميع من أهالي المدينة واطرافها، سواء العائدين الى البلدية او العاملين في شركات التنظيف الخاصة .

- من اللافت انه لم يكن هنالك " إزدحام " في مركز المدينة التجاري والسياحي والطبي .. حيث ان حركة السيارات فيها إنسيابية الى حدٍ كبير، حتى في ساعات الذروة .. علماً انك نادراً ما تجد سيارة فخمة او حديثة .. وفي حين ان مركز مدينة دهوك على سبيل المثال، يُعاني من إختناقات مرورية في أغلب الفترات، وان عدد السيارات فيها يتجاوز عشرات الآلاف، أكاد اُجزم ان مدينة دياربكر ذات المليون نسمة، ليسَ فيها نصف عدد سيارات دهوك !. فإذا أضفنا الى ذلك، نسبة المساحات الخضراء والحدائق والأشجار المنتشرة في ديار بكر، نجد بسهولة، ان هواءها أنظف من دهوك .

- في المستشفى الأهلي المتكون من ثمانية طوابق، الذي كنتُ اٌراجعه .. كان المرضى يتوافدون في كُل الأوقات وبزخمٍ كبير، وحيث ان أجور الفحص والتحاليل والسونرات .. لم تكن زهيدة .. فلقد إستغربتُ من الرواج الكبير وعدد المراجعين، وكيف يستطيعون تحَمُل النفقات ؟ وعند سؤالي عن ذلك، إكتشفتُ بأن أمثالي من " الأجانب " هُم فقط الذين يدفعون مثل هذه المبالغ، بينما المواطنون يحملون بطاقات " تامين صحي "، وتقوم الدولة بدفع أكثر من نصف التكاليف !. حقاً انه نظامٌ ينصف المواطنين ويخفف الضغط عن المستشفيات الحكومية ... في حين ان نظامنا الحالي في الأقليم، والذي هو" شكلاً "،يُوفر الرعاية الصحية والطبية، إلا انه في الحقيقة، لايُقدم سوى خدمات غير متكاملة لجزء بسيط من المجتمع ليسَ إلا .. بحيث تضطر الى اللجوء الى العيادات الخاصة والصيدليات الأهلية، وحتى الى دول الجوار .

- مدينة ديار بكر، ليست مثل اسطنبول او انقرة، لكنها أكثر تقدماً من سلوبي او الجزيرة او نصيبين، من الناحية الإجتماعية .. وللنساء فيها دورٌ متميز في كافة مجالات الحياة، فهي تعمل في المستشفيات والمكاتب والشركات والمحلات التجارية والفنادق .. بل وتكون في مقدمة المظاهرات والإحتجاجات الشعبية أيضاً ..

من الطبيعي، تماماً، ان تجد في ديار بكر، فتاة وشاب في المقهى او الساحات او حتى في المشارب، يتجاذبان اطراف حديثٍ حميم، او يُدخنان .. ولا أحد يلتفت اليهما " عدانا نحن القادمين من الأقليم ! "، حيث يثيرون فضولنا  وتساؤلاتنا وريبتنا ! .

 

......................

 

أسعفَني الحظ، وخَدَمتْني الصُدفة، بلقاء شخصيةٍ سياسية سورية كردية مُهمة .. حيث كان مُقيماً في نفس الفندق الذي كنت فيه . أبْلَغني صديقي بالنزول الى الصالة، للتعرف على بعض الشخصيات .. إعتقدتُ انهم سيكونون إثنين او ثلاثة من مُثقفي ديار بكر، لكنني تفاجأتُ بوجود أكثر من عشرة أشخاص .. سبقَ لي وأن تعرفتُ على ثلاثة منهم .. وكان الآخرون من كُرد سوريا، وبينهم رجلٌ مُسن، قالوا انه : حميد درويش . جلستُ بجانبهِ، ولم أتصّور في تلك اللحظة بأن الرجل هو نفسه، الذي قرأتُ عنه الكثير قبل أشهُر، في الأنترنيت، حين كنتُ أجمع معلومات لكتابةِ مقالٍ عن الاحزاب الكردية في سوريا ... وبعد إكتشافي ذلك ... بادرتُ الى سؤاله عن الوضع في سوريا، وعن توقعاته بإحتمالات عقد المؤتمر القومي الكردي، وعن " برهان غليون " المُفترَض كونه مثقفاً يسارياً، وموقفه السلبي من الكُرد في سوريا وتشبيههم بالجزائريين في فرنسا ؟ فقال : بأنه إلتقى مع غليون، وان الرجُل أنكرَ ذلك وأن الإعلام حّورَ أقواله وشّوهَ مُحتوى كلماته للصحيفة الالمانية .. " عندها وصلَ رجُلان من وجهاء ديار بكر جاءا، لإصطحابه الى دعوة عشاء حسبَ موعدٍ مُسبَق .. فإعتذرَ مِنّا وغادَر " .

صباح اليوم التالي .. عدتُ الى الفندق من جولةٍ صباحية، وكان السيد " عبد الحميد درويش " جالساً في الصالة مع شخصٍ آخر .. فسلمتُ عليهما وسألته هل أستطيع مشاركتكما ؟ . رّحبَ بكل بساطة وأريحية، وأشْعَرَني وكأننا أصدقاء بإسلوبه الودي غير المُتكلف . قلتُ لهُ، أود ان تحدثني عن بعض ذكرياتك .. قال : ان معظمها موجود في الكتب التي أصدرتها .. ولكني كنتُ اُحدِث الأخ عثمان، عن لقائي الأول بالمرحوم " علي عسكر " وجولتي معه في الجبال والوديان .. فسألته عن إجتماعه الأخير مع الامين العام للجامعة العربية " نبيل العربي " قبل فترةٍ قصيرة .. فقال، ان الرجل كان متجاوباً بصورةٍ ممتازة، مع طروحاتنا ومتفهماً للمشكلة الكردية في سوريا .

 سألته، هل هو متفائل عموماً بتغيير قادم في سوريا، وهل ان هذا التغيير قريبٌ في رأيهِ ؟ .. قال : ليسَ أمامنا خيار إلا ان نكون متفائلين .. لقد بذلنا جهوداَ كبيرة في الأشهر الماضية، وحتى قبل ذلك .. من اجل تقريب وجهات النظر، ولَم الشمل، وإيجاد أرضيات مُشتركة .. ليسَ فقط مع الفصائل الكردية الأخرى .. بل بين الكرد في سوريا، وبين المُعارضة السورية عموماً .

عبد الحميد درويش ... هذا الشيخ الجليل، الذي يسعى حثيثاً لبلوغ الثمانين .. بدلاً من أن يُكّرَمَ على تأريخهِ النضالي الطويل، وكُل ما قّدمه الى الحركة الوطنية السورية عموماً، والكردية خصوصاً، منذ شبابه المُبكر .. وبدلاً من أن يرتاح في سنواته الأخيرة .. فأنه لايستطيع العودة الى ديارهِ، لأنه مُلاحَق مِنْ قِبَل النظام البعثي .. رغم ان درويش، معروفٌ عنه، جنوحه للسلام، وحَل أعقد المشاكل بالتفاوض والتفاهم، ومَيله الى إيجاد مخرج مُنصِف للقضية الكردية، ضمن سوريا ديمقراطية حقيقية .. وتأريخه شاهد على ذلك ... ولكن هل يتحمل الوضع السوري المُضطرب، والنظام الإستبدادي البعثي، هكذا شخصيات سياسية مرموقة ؟!.

عبد الحميد درويش، رفيق " عثمان صبري " و " نور الدين ظاظا "، الذين أسسوا معاً في الخمسينيات، الحزب الديمقراطي الكردي .. وشارك بحيوية في النشاط السياسي منذ ذلك الوقت .. وحتى تبوأه منصب الامين العام لل " الحزب الديمقراطي التقدمي الكردي في سوريا " .. ونائب رئيس إعلان دمشق .. وله علاقات ممتازة مع معظم الساسة السوريين في المعارضة، وحتى في الموالاة .. إضافة الى إرتباطه الوثيق المعروف، مع الإتحاد الوطني الكردستاني وزعيمه جلال الطالباني، والقيادات الكردية العراقية الاخرى . هذا الرجُل الذي أرهَقتْه السنين، بادٍ عليه التعب وآثار المُعاناة، بمختلف أوجهها .. المعاناة المرضية، وقسوة التعامل سواء من السلطات السورية، أو حتى من بعض السياسيين الكُرد السوريين ! . فهنالك العديد من الشباب الكُرد في سوريا، كما يبدو .. غير راضين عن أداء كافة رموز الطبقة السياسية القديمة التقليدية، ويتهمونها بالنمطية، وتبعيتها وموالاتها للأحزاب الكردية العراقية وحزب العمال الكردستاني .. وبالطبع هذه الإتهامات، تشمل السيد درويش وحزبه، ايضاً .. بدرجةٍ او بأخرى !.

........................................

ذّكَرني وضع السيد " عبد الحميد درويش "، بالقادة الكُرد العراقيين، في نهاية السبعينيات والثمانينيات، حين كانوا يجوبون مُدن ايران وسوريا وغيرها .. بحثاً عن ملجأ، وعن دعمٍ، وأمل و تعاطف .. غير يائسين تماماً من النظام، بل محتفظين بشعرة مُعاوية معه .. مُنساقين أحياناً وراء " أوهام " المُصالحة والإصلاح والتفاوض !.

.......................................

يبدو، ان قَدَر بعض القادة الكُرد، يفرض عليهم حتمية المرور، بتجارب مريرة، وصعوبات جّمة، ومواقف قاسية ... لقد أثّرَ فِيَ " عبد الحميد درويش " في اللقاءات الأربعة القصيرة التي جمعتْني بهِ مُصادفةً .. فبِقدر ما عطفت عليه، اعجبتُ بمعنوياته العالية وثقافته وذاكرته الوقادة، وبساطته وتواضعه الجَم .

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :1997 الثلاثاء 10 / 01 / 2012)

 

 

في المثقف اليوم