تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

أقلام حرة

العراق و خروج الاحتلال الأمريكي / عصام الياسري

في نهاية العام 2011 مهزومة من العراق. وانقسم العراقيون في تقييمهم لخروج الغزاة من بلادهم، هذا إن كانت هذه القوات قد ترنحت بالفعل بَعِيدًا عن فرض الهيمنة والتدخل في شؤون العراق السياسية والاقتصادية. وإذا افترضنا كما يزعم، بأن المحتل قد خرج فعلاً من بلاد الرافدين، تبقى ثمة حقائق لا يمكن تجاهلها رغم مرور تسعة أعوام على التغيير: فالوضع السياسي في العراق لازال على درجة كبيرة من التعقيد. ولن يغيّر خروج الاحتلال من الأمر شيئاً، لا على المستوى السياسي أو الاقتصادي، ولا على مستوى مؤسسات الدولة وشرعيتها. كما أن عقلية وسلوك أصحاب السلطة في المنطقة الخضراء، الموسوم بالطائفية والشوفينية والهرولة وراء المصالح الشخصية والحزبية الضيقة، سوف لن تتغيّر ولن يهدأ لها بال إلا إفراغ العراق من مخزونه الثقافي والحضاري.

 

 هدف الاحتلال الأميركي للعراق منذ البداية كان فقط: لاحتكار موارد النفط والغاز ووضعه تحت سيطرة الشركات الأميركية والجيش. وأهم من هذا بسط سيطرته على العراق كونه موقعاً اِسْتِرَاتِيجِيًّ هام في المنطقة. ولأجل تمرير مشروعه الاستعماري، عمل في الأسابيع الأولى بعد الاحتلال على حل مؤسسات الدولة وكامل الجيش العراقي، وتم تسليم الجزء الشمالي من العراق إلى القوى الكردية الفاسدة، الذين اعتبروه إقطاعية "محمية" خاصة بهم. ولعبت إيران والأحزاب الكردية والشيعية الدينية العراقية دوراً أساسياً في دعم المخطط الأمريكي، وإن كان على حساب تدمير العراق وخرابه، بهدف تحقيق مآربها لأجل الوصول إلى السلطة والحصول على مكاسب فئوية. 

 

لقد بات واضحاً بأن انسحاب القوات الأمريكية من العراق لا يجسد انسحاباً كاملاً من هذا البلد الذي يعاني منذ فترة طويلة من الأزمات والمخاطر الاجتماعية والاقتصادية والبيئية. وإن إدارة اوباما وقيادة الجيش الأمريكي، لضمان مصالح الولايات المتحدة في العراق، ليس في وارد سحب جميع القوات العسكرية، أو التساهل بما يسمح للحكومة العراقية للتفاوض حول اتفاق جديد يتعرض لبقاء الآلاف من جنود الاحتلال الذين تم تحويلهم إلى موظفين في سفارتها، بموجب اتفاقات ضمنية سرية وقعت عام 2008 بين الطرفين، تلزم الطرف العراقي بقبول تواجد الخبراء والعسكريين الأمريكيين وضمان منحهم الحصانة كيما فعلوا. فضلاً عن احتفاظها بالعديد من الطائرات والجنود في الكويت والبحرين وأماكن أخرى في الشرق الأوسط بالإضافة إلى أفراد أجهزة الاستخبارات المركزية ووزارة الدفاع والخارجية الأميركية التي تلعب دوراً كبيراً في هذا الإطار من مقر السفارة في بغداد.

 

 رافق سحب القوات العسكرية الأمريكية من العراق، اشتداد الصراعات الطائفية والسياسية بين جميع أطراف ما يسمى بالعملية السياسية المستوردة من الخارج، والتي جاءت على أسس "طائفية توافقية" لا تصلح لبلد متعدد القوميات والديانات كالعراق. وفضلا عن أعمال العنف العرقي والديني وتفشي الصراع من أجل مصالح فئوية تجر البلاد نحو حرب أهلية محتملة، تزايدت التفجيرات وعمليات القتل في المدن العراقية كالعاصمة بغداد والفلوجة والموصل وكركوك وغيرها. لقد شهدت العملية السياسية منذ أن بدأت

صراعات لم تتوقف، وستشتد بعد أن أصدر رئيس الوزراء نوري المالكي مذكرة بعزل نائبه صالح المطلق وتحريك قضية قضائية بحق نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي، متهماً إياه بالإرهاب بدوافع طائفية. الأمر الذي نتج عنه مقاطعة "القائمة العراقية" البرلمان، وتجميد وزراءها في الحكومة متهمين المالكي بالديكتاتورية، بيد أن رئيس القائمة إياد علاوي ذهب باتجاه مطالبة الولايات المتحدة وتركيا وجامعة الدول العربية بالتدخل. بذلك أصبحت العملية السياسية برمتها على وشك الانهيار التام فيما يتجه العراق نحو مزيد من الفوضى.

 

لقد خرجت الأمور عن نطاق السيطرة. فالهاشمي هرب إلى "كردستان" في شمال العراق، والقيادات الكردية رفضت مطالب المالكي بتسليمه. فيما انتقل العديد من القيادات السنية إلى محافظة الأنبار خوفاً من فتك القوات والميليشيات المتحالفة مع الأحزاب الشيعية.

 

إن أخطر ما قام به الاحتلال الأميركي في العراق إثارة النعرات الطائفية والعرقية وإنماء الانتهازية والنفاق في نفوس من لا ضمير لهم في أوساط المجتمع العراقي. والأهم من هذا أتى برجالات للسلطة غير معروفين، لا موقع وتاريخ حافل لهم. كما لا يفهمون بالسياسة بقدر ما يدركون أساليب الغش والنهب وكيفية إستعمال السلطة لأجل مصالحهم. لقد تعاقبت على العراق منذ غزوه عام 2003 أربع حكومات، والعراقيون لا زالوا يعانون من الأوضاع. وترتكب العصابات الإرهابية المنظمة وميليشيات الأحزاب الطائفية ورجال الأمن والجيش والشرطة باسم الديمقراطية، أبشع الجرائم البشرية التي راح ضحيتها آلاف المواطنين الأبرياء من نساء ورجال وأطفال، علماء ومثقفين. ويتعرض الصبية للسجن والتعذيب ولاقى البعض حتفه وألقيت جثثهم في الشوارع والقمامة دون أن يبدي الاحتلال والمسؤولين العراقيين أي مبالاة. على نحو آخر تعرضت مجتمعات تسكن أحياءٍ محلية مختلطة، لها ذكرياتها وتراثها وتقاليدها ويسودها الوئام والعيش المشترك منذ مئات السنين لتطهير عرقي واجتماعي خطير. وتم بقوة المال والسلاح تقطيع أوصالها "ديموغرافياً" وتحويلها إلى كاتونات قومية ومذهبية معزولة.  

 

وإلى جانب تراكم التناقضات السياسية وتدهور الأوضاع على كل المستويات، كالدمار والبطالة وتراجع التعليم وإنعدام مراكز الدراسة والصحة والتطبيب، وإنتشار الفساد الإداري والمالي ونهب خيرات وممتلكات الدولة من قبل مسؤولين دون محاسبة أو عقاب، لا زال معظم الشعب العراقي غير مبال بما يحدث تجاه شأنه الوطني، بعيداً عن أي حراك يقود نحو مواجهة سياسية حقيقية تستهدف الإصلاح وتغيير الأوضاع بالشكل الذي يضمن مصالح الوطن والمواطن. بيد أنه لا يمل من عناء المشي على الأقدام مئات الأميال لأجل اللطم والتطبير.

 

إن العراق يتعرض جراء المخططات الاستعمارية لخطر الانهيار أو التقسيم كخيار مفتوح. في عام 2006 تقدم السناتور آنذاك ونائب الرئيس الحالي جوزيف بايدن بخطة لتقسيم العراق. ودعا بايدن لإنشاء دولة شيعية في الجنوب ودولة سنية في الوسط ودويلة كردية شمال البلاد، وفقا لمبدأ "فرق تسد" لتطبق الولايات المتحدة سيطرتها بالكامل على العراق وموارده. وبسبب تفاقم الأزمة السياسية وخروجها عن نطاق السيطرة، تعالت مطالب المحافظات ذات الأغلبية السنية مثل ديالى وصلاح الدين لتشكيل أقاليم " فدراليات" على غرار المنطقة الكردية التي تتمتع بحكم ذاتي يتجه نحو انتزاع أجزاء هامة من العراق مثل الموصل وكركوك وديالى بهدف الانفصال وتأسيس دولة كردية ذات سيادة، كما كشفت عن ذلك الوثائق السرية للقادة الأكراد.   

 

وعلى الرغم من إمكانياته الهائلة سيبقى العراق بسبب التدخل الأميركي واستمرار الميليشيات الطائفية في زعزعة الأمن، بلداً ضعيفاً غير مستقر، ما مِن شأن يكفل حمايته ليكون سيد نفسه. وسيبقى عرضة لمؤامرات خارجية وتدخل إقليمي "إيراني تركي" سافر، وخطر نشوب حرب بين المجموعات العرقية الأكثر رجعية. بيد أن على أبنائه المخلصين تقع مسؤولية درء هذه المخاطر ووضع حدٍّ للتخندق السياسي الذي يشكل سبباً لعدم استقرار البلاد وتطورها في كافة المجالات. إن الانتقال بالعراق نحو الأفضل، يقتضي تحقيق جملة قضايا جوهرية أهمها: تفعيل القضاء وتشريع قانون للأحزاب وآخر للانتخابات، وإعادة النظر بالدستور وتعديله بما ينسجم وطبيعة المجتمع العراقي ومستقبله، أيضا، إقرار مركزية الدولة. الأمر الذي سيقود إلى إنهاء تقاسم السلطة على نحو "طائفي توافقي" والانتقال من أسلوب المقايضة السياسية إلى مبدأ "حكومة الأكثرية البرلمانية" ومن ثم ترسيخ التعددية الحزبية وتأطير دور المعارضة والصحافة والإعلام. الطريق الوحيد لإنقاذ العراق وأهله.

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2027 السبت 11 / 02 / 2012)


في المثقف اليوم