أقلام حرة

إمرأةٌ من بغداد / امين يونس

وعلى مدى ثلاثة أيام اُقيمتْ مراسم العزاء على أرواح الشهداء، في حُسينية الزِوية / كرادة داخل في العاصمة بغداد .. وحسب اليوميات البغدادية المأساوية في السنوات الماضية، فأن الحدث هذا (عادي)، بل هو مُمِل من كُثرة التكرار، يحدث إنفجارٌ مُرّوِع في مكانٍ ما .. يتساقط القتلى والجرحى، وتتناثر الأشلاء .. تتنافس الجهات الامنية المَعنِية، على تزويد الإعلاميين والمحطات الفضائية، ببعض التفاصيل .. فهذا يقول انها كانتْ سيارة مُفخخة، وذاك يّدعي ان إنتحارياً عربي الجنسية فّجَر نفسه، وآخر يؤكِد ان عبوة ناسفة كانتْ مزروعة هناك .. وتُشّكَل لِجان للتقصي ومعرفة الجُناة والمتواطئين والمُقصرين .. والبحث عن الحقيقة .. التي سوف تضيع بالتأكيد! .

[ قبلَ يومَين وردني إيميل، من أحد الذين حضروا العزاء، وكان شاهداً على ما يلي: من الطبيعي، ان كبار المسؤولين وصِغارهم، " يحرصون " على حضور العزاء، لكي (يستعرضوا) أمام الحاضرين ويُظهِروا أنفسهم .. تسبقهم أرتال الحمايات المُدججة بالسلاح وقافلة من السيارات رُباعية الدفع .. وبالضرورة مجموعة من المُصورين حتى ينشروا كَرم، والأخلاق الحميدة للمسؤول المحترم ! .. يتم قبلها إستدعاء ذّوي الضحايا .. فهنالك إحتمالٌ ان يُوّزِع المسؤول الكبير، بعضاً من عطاياه عليهم ويَمُنَ عليهم بما يجود .

من ضمن ذَوي الضحايا، كانتْ هنالك إمرأة متلفعة بالسَواد ومعها خمسة أطفال، أكبرهم لايتجاوز الخامسة عشرة .. قُتِلَ زوجها في تلك العملية الإرهابية، وزوجها كانَ يُمارس عملاً بسيطاً في المفوضية ب (أجور يومية)، أي لم يكن مُستشاراً او خبيراً او موظفاً كبيراً، بل انه لم يكن حتى مُنتسباً رسمياً، وانما يعمل منذ مدة بأجرٍ يومي، وكان محبوباً من الجميع ... كان رئيس المفوضية وكِبار موظفيها ومجموعة من النواب ووكلاء الوزارات، جالسين في العزاء .. حين نهضتْ هذه المرأة وتقدمتْ الى أمام لتواجههم ... طبعاً تَوّقعَ الجميع ان المرأة المنكوبة الفقيرة، ستطالب بتعويضٍ ومساعدة، لكي تستطيع مواجهة الحياة، لاسيما وعندها خمسة أطفال تيتموا... إلا انها قالتْ: ان المرحوم زوجها، كان قد إشتركَ مع بعض زملائهِ في " جمعية "، وكان هو مَنْ إستلم الجمعية الاولى والبالغة مليون دينار " حوالي 850 دولار "، قبلَ ثلاثة أيام فقط، وهي تريد ان يرقد الفقيد في قبره بسلام، وتُعيد المبلغ الى زملائه .. ثم أخرجتْ من تحت عبائتها، كيساً صغيراً يحوي مليون دينار ووضعته على المنضدة الصغيرة .. وعادتْ الى مكانها بِكُل أباء ..] !!.

 

.........................

خّيبَتْ هذه المرأة العراقية الباسلة، توقعات معظم المسؤولين الجالسين، الذين كانوا جاهزين لإستعراض مكرماتهم أمام الكاميرات، وإطلاق الوعود الرنانة... لم تطلب شيئاً على الإطلاق .. أهانَتْهُم في الصميم .. لم تتكلم كثيراً، لم تُثَرثِر .. جملتَين قصيرتَين قالتهما، وعادتْ الى مكانها .. لكنها في الحقيقة، قالتْ الكثير الكثير، بِصمْتِها الجميل، بقامَتِها المنتصبة، بكبريائها الطبيعية، بأنَفَتِها غير المُصطنَعة، برباطة جأشها  .. قالتْ لهم : أنا أنظفُ مِنكُم، أنا أصدقُ منكم، انا لا أرضى ان أصرف على اطفالي، نقوداً ليستْ لي!.

أكاد أجزم، بأنني أعرف هذه المرأة حق المعرفة ... فلم يبق مكانٌ في العراق، لم أشاهده وأعيش فيه لفترة، طيلة الأربعين سنة الماضية .. بِحُكم الوظيفة او الاعمال الحُرة او الخدمة العسكرية ... رأيتُ هذه المرأة في الفاو والعمارة، رأيتها في الشامية والفلوجة، في الشرقاط وبعقوبة، كما في السليمانية وسامراء والنجف ... الخ . هذه المرأة الشامخة الباسلة القوية النزيهة ... هي القاعدة وليستْ الإستثناء .. ان الفقراء عموماً أكثر نزاهةً من الاغنياء .. لست بحاجة الى القول، ان هنالك القليل من الفقراء النصابين السُراق، وكذلك هنالك أثرياءٌ شُرفاء .. ولكن أعتقد، عموماً ان الفقراء أكثر نزاهة وإستقامة ... والأغنياء أكثر جشعاً .. وأعتقد أيضاً، ان النساء الفقيرات في العراق خاصةً، أكثر قوةً وبسالة من الرجال عموماً !.

سيدتي النبيلة .. العراقية الفقيرة النزيهة، يا اُم اليتامى .. ان دمعتك الصافية، جديرة ان تتحولَ الى سيلٍ عارم " في يومٍ قريب آتٍ ".. يُغرِق كُل هؤلاء الأوباش السارقين، ناهبي أموال الشعب، الفاسدين المُنافقين ... هذه الطبقة المُتحكمة على رِقاب الناس منذ سنين !.

  

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2029 الاثنين 13 / 02 / 2012)

في المثقف اليوم