تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

أقلام حرة

دراما مثيرة: سوريا ومجلس الأمن والجامعة / عصام الياسري

فان اللاتسامح سيكون نقيضه بكل ما له علاقة بالتعصب والتطرف والغلو والغاء الآخر وتهميشه. التسامح يتعزز بالمعرفة والانفتاح والاتصال وحرية الفكر والضمير والمعتقد، وهو ما أخذ به اعلان مبادئ التسامح الصادر عن منظمة اليونسكو (منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة) في العام 1995 حين اعتبر يوم 16 تشرين الثاني (نوفمبر) من كل عام هو يوم التسامح العالمي. والتسامح ليس واجباً أخلاقياً فحسب، وانما واجب سياسي وقانوني أيضاً، وهو الفضيلة التي تيّسر قيام السلام، ويسهم في احلال ثقافة السلام محل ثقافة الحرب.

في كل الأحوال صار كل مَن يفهم بالسياسة، يدرك بالمطلق، بأن ما يحدث وما ينجر عليه من قتل ودمار في سوريا، لا علاقة له بمطلب "الإصلاح والتغيير". وإن ما يجري تحت ذريعة الحرية والديمقراطية تحركه أيادي أجنبية، تدفع بحكومات عربية لم تعرف يوماً معنى للديمقراطية والحرية التي يتحدثون عنها لتنقض على بلد له موروثه الثقافي والحضاري العريق. لقد جُندت قوى رجعية ودينية سلفية ضالة، لتخريب ما بناه الإنسان السوري بعرق جبينه على مدى عقود وبات الكلُّ يدرك بأن المعارضة السورية سواءٌ في الخارج أو الداخل، ومنها الصامتة التي تصنف نفسها على أنها وطنية، ستتحمل المسؤولية الأخلاقية والتاريخية هي أيضا، فيما لا قدر الله سقوط سوريا كالعراق.

صحيح أن سوريا بحاجة إلي إصلاح سياسي واقتصادي وثقافي شامل، أيضاً إصلاح مؤسسات الدولة، خاصة أجهزة المخابرات والأمن والشرطة التي فاض نفوذها عن حد إطاره، لكنها في واقع الحال ليست الدولة الوحيدة في المنطقة التي بحاجة إلي تحولات بنيوية جديدة، والسؤال: ألا يحتاج أي تغيير إلى زمن وأدوات ومراصد حرفية؟ أوليس كل الأطراف معنية لتحقيق مشروع كهذا بطرق سلمية أولاً، وبروح المسؤولية ثانياً؟ وهل يجوز للخصم رفض كل مقترح قبل معرفة النتائج؟ صحيح أيضاً بأن الإصلاح يحتاج إلي بيئة ومناخ يتلائم مع سيكولوجية وطموح كل الأطراف، المعارضة والنظام. وإذ كانت المعارضة بدورها لم تسهم في توفير هذا المناخ وتحيد عن الإلتزام لتتنصل عن مسؤولياتها، فليس من حقها أن تطالب الآخرين بمساواتها. إنه ليس من المنطق، ولا من الذكاء السياسي بمكان، أن ترفض المعارضة التي تدعي بأنها خبيرة بالمشهد السياسي، مبدأ الحوار، دون أن تعرج نحوه قليلاً حتى لو كان من باب الفضول. والحقيقة أن المعارضة السورية تريد احتكار حق التمثيل والقرار لوحدها، ولا تريد للآخرين أن يتمتعوا بحقوقهم. إنها ضيّعت فرص المشاركة لإحداث التجديد، وفقدت بسبب ممارساتها الخاطئة المصداقية وزمام المبادرة لأجل هيكلة الإصلاح بدل العنف والخراب.

والغريب في الأمر أن بعض أقطاب المعارضة التي عهدنا وطنيتها وتعلقها بوطنها، رغم تمتعها بثقافة فكرية وسياسية بالغة، ألا أنها قد وقعت بالفخ الذي نصبه أعداء سوريا في المنطقة وخارجها، وللأسف لم تدرك حجم المخاطر التي ستحيق ببلادها إذا ما تحققت الدعوة للتدخل الأجنبي الذي يريد له الحكام العرب وحلف الناتو أن يحصل. بإختصار فأنّ هدفهم الشروع بإحتلال سورية على "الطريقة العراقية". والغريب في الأمر أيضاً، أن بعض المثقفين والكتاب من السوريين والعرب، ومنذ بدء الأزمة في آذار 2011 راحوا يمطروننا بمقالاتهم النارية يومياً لتسويق مشروع "التدخل العسكري" الأجنبي، بحجة، أن الإصلاح والتغيير لا يمكن أن يتحقق إلا عبر هذه الوسيلة. لكن هل ستتوقف الرغبات عند تحقيقها؟ أم ستتعدى سقوط سوريا وهو المطلب الأساس؟ لقد تحول المثقف وللأسف إلى رافعة لتصعيد هيستيريا العنف والإرهاب ووسيلة تسخر لمآرب أخرى.

في الشأن العراقي على سبيل المثال لا الحصر، اعتقدت المعارضة العراقية كما تعتقد اليوم المعارضة السورية، بأن التدخل الأجنبي، الطريق الأقصر نحو التغيير السياسي وتحقيق العدالة الاجتماعية. لكن ذلك لم يؤد في واقع الحال إلا إلى احتلال العراق ودماره، ولم يجلب غير العنف والإرهاب بدل الحرية والأمن والإستقرار كما زعموا. وكان من نتائجه، وهو الأخطر، إنعدام الحس الوطني لدى الكثير من العراقيين من مختلف الإتجاهات والميول، إلى درجة إن ذهب البعض من صفق للاحتلال إلى القول: أن بسطال (حذاء العسكري) جندي أمريكي يشرف مليون عراقي من "العوجة" (قرية عراقية مسقط رأس صدام) فيما راح مثقف عراقي يساري معارض إلى أبعد من ذلك قائلاً: سوف لن أعود إلى العراق حتى يحرث بسطال آخر جندي أمريكي أرض العراق، عندئذ سيكون نظيفاً من البعثيين.. أي نزعة فاشية هذه التي تعشش في عقول هولاء المعارضين الطامعين للسلطة عن طريق الإحتلال. إنها "فاشية معادي الفاشية" كما سماها المفكر جورج لوكاتش. إنني لا أعتقد بأن المشهد السوري سيكون مختلفاً عندما تصل للسلطة مثل هكذا معارضة مدججة بأفكار مخيفة لا تخلو من نزعة الإنتقام، وليس من قبيل الصدف أن يتبنى بعض أطراف معارضة الخارج ومؤيديهم في الداخل السوري مشروع التدخل العسكري الأجنبي لحسم الموقف بذات الطريقة التي شاهدناها في العراق.

أحد الأصدقاء من المعارضة السورية في الخارج، وهو مسؤول في هيئة التنسيق ويترأس مؤسسة حقوقية شاركنا سوية في ندوات تدور حول الإعلام وحقوق الإنسان والعراق في عدة دول. في الأشهر الأولي من الاحتلال زار من بعدي العراق ليطلع على ما حصل من فوضى وخراب وإنتهاك لحقوق الإنسان، وكتابة تقرير يرفع إلى مؤسسات عالمية. وللامانة فإن الرجل كان ولا يزال ضد الاحتلال والتدخل الأجنبي في شؤون الدول. وموقفه هذا ينسحب أيضاً على بلده سوريا، لكن هل يكفي هذا الموقف والدم السوري ينزف دون أن يكون، للرجل وغيره من المفكرين والمثقفين السوريين المعارضين الذين يتمتعون بمزيد من الوعي، دور لتوجيه الأزمة بعيداً عن الأجندة الخارجية "العربية والأجنبية" التي لا تريد إلا أن ترى عجز سوريا لتحقيق الإصلاح الحقيقي، وبالتالي إتساع رقعة الإرهاب والدمار لتتمكن الحركات الدينية السلفية من الوصول إلى السلطة وفتح الباب على مصراعيه أمام المطامع الإستعمارية وإسرائيل بالتحديد؟

لا أعتقد بأن إنساناً عاقلاً يحمل ذرة من الكرامة والحس الوطني، يقبل بالتواطؤ مع الأجنبي وبتحريض من حكام عرب فاسدين على مرّ العصور. لم يأتنا التاريخ بمثال واحد فيه يساوم شعب على مصالحه بحيث يطلب من دول أجنبية التدخل في بلاده لفض سيطرة أبناء جلدته عليه، لكن التاريخ حافل ببطولات شعوب لأجل إنتزاع إستقلالها من الهيمنة الإستعمارية. ما يثير الإستغراب أن عالمنا العربي يشهد منذ عقود نزوع أغلب الحكام العرب إلى تقديم المزيد من الخدمات للدول الأجنبية وأهمها الولايات المتحدة الأمريكية، والإعتماد في ذات الوقت على جيوشها التي تتمركز في قواعد عسكرية لديها، للحد من إتساع الصراع داخل مجتمعاتها بهدف ضمان مستقبل حكمها.

ولدفع أنظار المجتمعات بعيداً عن هذه الممارسات، لجأ وكلاء الإستعمار من الحكام العرب إلى أساليب جديدة لتأليب الرأي العام داخل المجتمعات بحجة التغيير كما بات معروفاً "بالربيع العربي" وفق خطط مرسومة هدفها "الفوضي الخلاقة"، وقد لعب المال والسلاح الذي تستثمره جهات عربية وأجنبية مشبوهة، دوراً بارزاً في زعزعة الأمن والإستقرار بشكل مفصلي كما هو في الشأن السوري بشكل واضح.


ولم يكتف بعض الحكام العرب بتأجيج الوضع بهذا الشكل المخيف، إنما ذهبوا أبعد من ذلك، فبدل أن ينزعوا فتيل الأزمة بطريقة منطقية، جعلوا الجامعة العربية طرفاً سيئاً في معالجة الموقف وما نتج عنه من ردود فعل داخلية وإقليمية ودولية، لم يثمر عنها سوى المزيد من الموت والدمار، كما لم يؤد إلى تنقية الأجواء وبدء حوار بين النظام وأطياف المعارضة. ويبدو أن قطر والسعودية تتلقيان الأوامر من الأوربيين والولايات المتحدة بهدف إسقاط النظام في سوريا بأي شكل من الأشكال، فيما الإصلاح الذي يزعمون لا يعنيهم بالمطلق. وبسبب الضغوط التي مورست من قبلهما ومن قبل الولايات المتحدة، على أمين عام الجامعة العربية، فما كان منه (الله أعلم ما لديهم عليه) إلا أن يتواطأ ويغيّر مواقفه بإستمرار، وبالتالي أجبر على تحويل الملف لمجلس الأمن، السؤال: ما هو الهدف من كل هذا إزاء الشأن السوري؟

الجامعة العربية منذ تأسيسها المشكوك فيه لم تأخذ موقفاٌ إيجابياً واحداً إزاء المصالح والقضايا العربية، بدءاً من فلسطين والجزائر ولبنان وإنتهاءً بالعراق والسودان. كما أن هيئة الأمم المتحدة ومجلس أمنها، منذ تأسيس المنظمة، لم ينصف العرب مرة واحدة في أي قضية كانت. اذن لماذا كل هذه الهرولة الهزيلة إلى مجلس الأمن وبهذه الطريقة المذلة، التي بدا فيها كل من حمد والعربي وكأنهما فئران يلتمسان جحراً يختبئا فيه ربما لإخفاء الخجل والعرق المتصبب من جسديهما. كان منظراً درامياً ساذجاً ونحن نشاهد كل منهما مرتبكاً أثناء إلقاء كلمته المليئة بالتناقضات والأخطاء اللغوية واللفظية. وكانا في وضع مثير للشفقة، أفقد جمالية اللغة العربية إيقاعها ومعانيها. فضلاً عن القول بأن الرجلين قد أعطيا المشاهد إنطباعاً بأنهما حقاً لا يمتان للعروبة بصلة بحيث لم يستطيعا قراءة نص عربي بسيط بطلاقة، فالعربية لها رجالها.

لم تكن جلسة مجلس الأمن مؤخراً بحضور حمد رئيس وزراء ووزير خارجية قطر ونبيل العربي أمين عام الجامعة العربية مثيرة للجدل وحسب، إنما إستطاعت فيها الدبلوماسية السورية بجدارة لأن تؤكد كفاءتها لمواجهة خصومها في أكبر محفل دولي، وتقوض مشاريعهم الداعية للإنقضاض على سوريا، البلد العربي بجغرافيته وشعبه.

إن جلسة مجلس الأمن بحق سوريا، سوف لن تكون الأخيرة، إنما بالتأكيد هي الأولي التي أطاحت من على مقدمة ومؤخرة أعراب الجامعة العربية ورقة التوت. كما أفقدت المعارضة السورية مصداقيتها ولم يبق ثمة معيار نستطيع أن نبني، ولا أقول نستنسخ، عليه آمالاً تنسجم مع ما كانت تزعم المعارضة والمتنفذون داخل أروقة ما يسمي بالجامعة العربية ومجلس الأمن، بأن ثورتهم "سلمية إصلاحية" إنما على العكس. إذ لا نزال نسمع على لسان كل هؤلاء تحريضات خطيرة تضر بأمن وإستقرار سوريا وشعبها. وإذا كانت المعارضة السورية تريد أن تحذو حذو المعارضة العراقية لغزو سوريا، لتسجل حالة طارئة جديدة، فقط لأجل إستلام السلطة، فعليها أن تضع حساباتها موضع الرهان، لأن في سوريا مجتمعات غيرها تملك من الرؤي والفكر والتراث، قادرة على التمييز بين الغث والسمين، لا تعترف بها ولا تريدها بأي حال من الأحوال.

 

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2032 الخميس 16 / 02 / 2012)

في المثقف اليوم