تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

أقلام حرة

مراد بوكرزازة على خطى أسلافه (قسنطينة امرأة حياتي) / فاطمة الزهراء بولعراس

أنفاسها بعد العاصفة الثلجية التي خلخلت زمانها ومكانها....ربما كانت تلك ابتسامة شوق وتحية مودة ووفاء تتميز به جيجل في استقبال ضيوفها  ربما أيضا إبرازا لألفة مع هذا الكاتب القسنطيني الذي كان عاش فيها ثلاث سنوات (مديرا لإذاعتها الجهوية)

في دار الثقافة (عمر أوصديق) كان اللقاء الحميمي الصادق الذي وافق كثيرا تواضع هدا الكاتب (عرفت سره (التواضع) عندما أخبرَ أنه من أصول جيجلية وأن والديه من مواليد أولاد عسكرالشماء)...

دخل مراد بوكرزازة القاعة بتلقائية..تحاور بلطف وهدوء وكأنه في بيته....قرأ فصلا من روايته (ليل الغريب) ذلك الذي قال أنه الأقرب إلى قلبه لكني أعتقد أن كل النصوص أقرب إلى قلبه إن لم تكن قلبه ذاته.....

على خطى مالك حداد وأحلام مستغانمي تحدث عن قسنطينة التي يحيها (ومن لا يحب قسنطينة؟؟)...طريقته في الحديث عنها مختلفة فيها خوف...فيها رجاء....فيها تضرع وهيبة ... (لا أتنفس الهواء إلا في قسنطينة) يقول بوكرزازة الذي يعرفها كما يعرف اسمه..يعرف لياليها...ونهاراتها...يعرف نفاقها ..... يعرف خطاياها وخطيئتها....ولكنه...يحبها فقط ويمحو بجرة وله كل ما يعرفه ليذوب في كبرياء قسنطينة وتقيهقها المعروفين...

كان بوكرزازة بصمته يتدفق كلاما..وفي كلامه يتدفق صمتا....يسوق أمثلة في عمق الحب الذي يعتلج في صدره للمدينة الحبيبة ذات الجسور والصخور؟؟فهو قد يفرط في عشرين نوعا من الأجبان السويسرية والفرنسية معروضة أمامه وفي أرقى مطاعم باريس ليقبع في مكان ما في قسنطينة يلتهم (صحفة حمص) (دوبل زيت) بلذة لن يشعر بها إلا هناك... كما أنه اشتاق وهو في أرقى شوارعها(باريس) لشاي بالنعناع في مقهى بائس على طاولة (مهترئة) يقدمه نادل كسول ولا مبال (كما في كل مقاهي قسنطينة وربما في مقاهي الجزائر كلها)

مراد بوكرزازة ذلك الصامت الذي يتكلم بقلبه ويستمع إلى ضحكات المدينة المعربدة وأناتها وزفراتها ويهيم في رقصها والتوائها بعد أن وقع في حبائلها وشدته بحبالها ولا يريد انفكاكا

ورغم أنه لا ينكر جذوره الجيجلية إلا أنه ودون تردد ينتصر(وهو أشد ما يكون فخرا) لحبيبته الأولى والأخيرة (قسنطينة).....

تحدث أيضا عن طقوسه في الكتابة وقال أنه كائن ليلي (كما كل الكتاب) لا يكتب إلا عندما تنام كل الكائنات فيستسلم لما يمليه عليه الصمت من أنغام وما يعزفه  الظلام من روائع وما يردده الليل الساجي من حكمة.....وهو مؤمن بأنه سيعيش في نصوصه لأنه يكتب للجمال وينظر إلى الكون والناس بروحه (الجميلة) ويتساءل كيف يعمى يعض البشر عن جمال الطبيعة الساحرة في (أولاد عسكر) وكيف لم يمنعهم جمالها من ارتكاب تلك الفظائع بها (التي عاين آثارها بنفسه) وكيف لم يستوقفهم خرير الماء وحفيف الأوراق وهسهسات النسيم...وقال أنه متأكد أن من يحمل سكينا (بيد واحدة) ويضربك في ظهرك هو ذلك الذي لا يمتلك الشجاعة لكي يصفق للجمال (بكلتا يديه)؟؟؟

تحدث بوكرزازة عن البحر أيضا وكيف تعلق به من خلال ابنتيه الصغيرتين وكيف أنه أصبح مجبرا غلى إعادتهما من حين لآخر لهذه المدينة القديسة (جيجل) لإشباع حنينهما الطفولي لمدارجها الساحرة....

تأسف لمظاهر التفرقة التي لا تزال تفعل فعلها في أوساط الناس وكيف استطاعت أن تواصل هدم العلاقات بين أبناء الوطن الواحد والولاية الواحدة والمدينة الواحدة  ويستنكر كلمات مثل (البلْدية ....قب ابلاد... الريفيين..... المدنيين.....*) ويرى أنها كلمات فيها كثير من العنصرية وأن الجزائريين يجب أن يتجاوزا هذه التوافه خاصة وقد صهرتهم ثورة نوفمبر ولم يفرق بينهم المعمر وهو يستنزف دماءهم في جبال الجزائر ووديانها

يقول بوكرزازة أنه تحرر من كل الأخيلة بما فيها تلك المريضة..وأنه بات يتقبل أن يقرأ كما أريد له فهو إنسان له أخطاؤه وعثراته وإنسانيته كذلك...

بوكرزازة المهزوم (كما الجميع) يقاوم الهزيمة بطريقته...يكتبها... يبكيها... يبكي منها... يسخر منها....وربما هي من تسخر منه..؟؟ وينتهي إلى أن الإنسان مهزوم في النهاية

ترددت على لسانه أسماء من يحملهم في ذاكرته دون أن يدري (نزار قباني.....مالك حداد...أحلام مستغانمي....) ربما لم يذكر آخرين لأنهم ليسوا كمن ذكرهم يقاسمونه حب قسنطينة ويتعذبون (كماهو) بهواها المؤرق وقسوتها اللذيذة؟؟

كان الحضور المحتشم (كما دائما في المناسبات الأدبية) قويا بتجاوبه في الإصغاء إلى قراءات الكاتب وبعمق الحوار الذي ذكرتُ بعض تفاصيله أعلاه  وقويا باندفاعه لاقتناء بواكر أعمال الكاتب (ليل الغريب) (الربيع يخجل من العصافير)....

رغم كل ما ذكرته فأنا لازلت لم أوفق في التعبير عن انطباعاتي عن هذا الكاتب إلا أنني أستطيع القول أن ما أحسسته من العمق  في حديثه غطى على كل ما عداه هذا العمق الذي نستشعره  في كل المدن ذات الحضارة والتي يحملها الكاتب معه أينما حل أو ارتحل وكأنه في قلق دائم من أن يفقدها أو تفقده؟؟..كما أن هذا العمق جعلني أستشعر في نصوصه إيقاعات سريعة وموسيقى خفيفة لكنها جميلة رافقت كل نصوصه رغم استغراقها في السوداوية....

مهما يكن من أمر فأمسية الثلاثاء الماضي كانت جميلة... الأجمل منها روح الجمال التي دفعت الكاتب للحضور ليساهم  في تبدبد ذلك الصقيع  الذي لف المدينة لمدة تزيد عن الشهر

ومن يدري لعل بشائر الربيع التي ستهل طلائعها بعد يومين ستحمل لمدينة البحر هذه  كثيرا من الورود والعطور والأهم من ذلك كثيرا من الأمل في غد (أدبي) يشبها في أدبها الرفيع....

 

جيجل 27فيفري2012

 

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2048 السبت 03 / 03 / 2012)

في المثقف اليوم