أقلام حرة

مذكرات مثقف عراقي في سنوات الحصار (3) / جواد كاظم غلوم

ويصعب جدا توفير الدواء اللازم لها، لكن الحصار ؛ ما اقبحه يتبعنا اينما حللنا فليبيا تعاني حصارا جويا جائرا وطائراتها رابضة كأنها معطلة ومطاراتها ساكنة  اما مصر فكانت تمنعنا من اجتياز اراضيها لاجل الوصول الى الاردن عبر ميناء /نويبع ثم الوصول الى ميناء العقبة وما لنا سوى الاتجاه غربا الى تونس ومن ثم السفر بالطائرة الى عمّان

ولكي نصل الى تونس من بنغازي علينا علينا قطع مسافة تزيد على 1400/كم برّا ثم الاقلاع بالطائرة صوب الاردن فمن اين لنا كلّ هذا المال وهذه القوة كي نقطع كل هذه المسافة الطويلة ؟!! بينما الطريق من بنغازي الى مصر برّاً زهيد الكلفة ولايتطلب سوى قطع مسافة 600/كم تقريبا، لكن المشكلة في الحكومة المصرية التي تمنع الرعايا العراقيين من الدخول الى اراضيها حتى بطريقة (الترانسيت) فما العمل؟؟

شاءت الصدفة الحسنة ان زار امين التعليم العام بنغازي واقام في احد الفنادق الراقية، ففكرت في لقائه وعرض بعض المشاكل التي نعانيها نحن العاملين في حقل التعليم والتي كانت ابرزها مشكلة السفر هذه التي تقضّ مضجعنا وفعلا قابلت سكرتيره الشخصي وتفهّم الامر فأشار لي بتقديم طلب وتعهّد  بإيصاله الى السيد الامين(الوزير) ،وخلال دقائق حررت طلبا  وكتبته على طاولة الاستعلامات في الفندق على عجل وذكرت فيه بعض مطاليبنا الملحّة وكان اهمها الضغط على الاشقاء المصريين بتسهيل سفرنا الى الاردن عبر ارضيهم ويبدو ان مسعاي قد نجح بعد ان وردتنا اخبار بان الحكومة المصرية قد وافقت على منحنا تأشيرة عبور (ترانسيت ) على ان ترافقنا مجموعة من الشرطة اول وصولنا الى معبر السلّوم للحدّ من تحركاتنا كأننا مجرمون عتاة ، نحن الاساتذة والمربّون رعاة العلم والادب ؛ نعم هكذا كانت تعاملنا السلطات المصرية كأناس مخفورين او سجناء ينقلون من سجن الى آخر، ورغم هذه الصحبة الشائنة فقد كان لهذا الخبر صدى طيبا لدى العراقيين المقيمين في ليبيا وبالاخص العاملين في المنطقة الشرقية القريبة من مصر ما دام يتيح لهم الوصول الى الاردن ثم العراق بدون قطع مسافات شاسعة جدا باتجاه تونس

في عمّان بقيت ثلاثة ايام كنت خلالها ازور اصدقائي من الاشقاء الاردنيين الذين كنت اعمل معهم وارى بعض معارفي من الاخوة العراقيين القاطنين في المملكة الاردنية وكم تفاجأت حين خلال الزيارة لمّا علمت برحيل الكثير منهم الى اوربا طلبا للجوء السياسي واللجوء الانساني وبعضهم فضّل الذهاب الى كندا واميركا الشمالية ليستقرّ هناك وفضلوا بلدان الثلج على بلدان الدفء...يا للغرابة

بعد إتمام عملي وزيارتي ،استقللت الحافلة المتجهة الى بغداد واخذت مقعدي في الصف الاخير ،رميت نفسي جنب اكوام الاكياس المعبأة بالخبز المرسل لأفواه اهلنا الجائعين مع صناديق المياه الغازية وكارتونات بسكويت" التوتو" المدهونة بالكريما البيضاء والتي يشتهيها المواطن العراقي مع اكواب الشاي المخلوط بنشارة الخشب المصطبغة بألوان سود بعد ان منعت السلطات اصحاب المخابز والافران - في فترة من الزمن الحالك- من صنع الكيك والمعجنات والحلويات والاقتصار على الخبز لشحّة الدقيق والسّكّر ؛نعم تلك هدايا العراقيين في الشتات لاهليهم وبصحبتها ورقة او ورقتين من فئة المئة دولار اذ كانت الورقة تساوي مئتان وخمسين الف دينار تقريبا في حين كنا نصرّف المئة دولار ايام السبعينات واوائل الثمانينات ب"ثلاثين ديناراً او أقلّ بقليل

 

8)

خلال إقامتي في مدينة بنغازي ما يزيد على خمس سنوات لم ألمس اية نشاطات ثقافية يشار اليها بالبنان فلا مهرجانات شعرية ولا معارض فنية او قاعات تعرض فيها لوحات تشكيلية او مسرحيات رغم وجود الكثير من الادباء (شعراء وكتّاب) ومجموعة من فناني التشكيل وحتى الملحنين والمطربين الصاعدين . واذا استثنينا بعض النشاطات المدرسية الخجولة وما تقوم به جامعة /قار يونس من نشاطات ومعارض كتب في بعض الاحيان فان الوضع الثقافي في تلك المدينة يكاد يكون محتضرا لأن معظم الأنشطة كانت تقام في طرابلس الغرب ومن الصعب جدا الاطلاع عليها لان العاصمة بعيدة عنّا بمسافة تزيد على الالف/كم وكان معظم مثقفينا العراقيين والعرب ومثقفي  بنغازي واساتذتهم يلجأون للقراءة بنهمٍ شديد ويقبلون على شراء الكتب التي ترد من القاهرة وتونس ولبنان وكنّا ننهل منها الكثير وكنا نتداول الكتاب النادر اذا قلّت نسخه ونعيره لاصدقائنا ونقرؤه بالتناوب..إضافة لمتابعة القنوات الفضائية التي اخذت تتسع  اواسط التسعينات  من القرن الماضي وتتناقل الاخباربكل تنوعاتها السياسية والادبية والفنيّة

وبعد شيوع الانترنيت ؛ صار ملاذنا اليومي والاساسي ومنفذنا للاتصال الخارجي بكل يسر وسهولة رغم غلاء خدماته وقتذاك حيث كنا نقضي الساعات الطوال امام شاشة الحاسوب نتصفح الجرائد والمجلات اليومية والاسبوعية الصادرة من العواصم العربية والاجنبية وبالاخص القاهرة وبيروت ولندن وباريس والاطلاع على الاخبار في مشارق الارض ومغاربها وكان قسم من الاخوة المثقفين ممن لايروقهم الجلوس امام الشاشة يلجأون الى المكتبة العامة في اوقات فراغهم وينكبّون على قراءة الكتب المُعارة في قاعة المكتبة ويمكن ايضا استعارتها خارج المكتبة لايام معدودة

اما الصحف اليومية الصادرة في ليبيا والتي لايتجاوز عددها اصابع اليد الواحدة فلم اجد احدا يبحث عنها او ارى شخصا تثير اهتمامه ويترقب صدورها سوى بعض الافراد اللصيقين بالسلطة من عناصر اللجان الثورية واللجان الشعبية لأنها بصراحة لاتسمن ولا تغني من جوع  وجلّ موضوعاتها السياسية والثقافية منها تتمحور حول فكر القائد والنظرية العالمية الثالثة التي" بشّر" بها

اما الشعارات فحديثها ذو شجون فالمثقف هناك اينما يولّي وجهه تصدمه الجمل المأخوذة من هذه النظرية الشوهاء وتراها قبالتك في المعهد وجدران المدارس والساحات والشوارع الرئيسية ودوائر الدولة والجداريات والاضواء البرّاقة وتكاد تعمي بصرك وبصيرتك وكأنها وضعت لغسيل مخّ الانسان وهدم وعيه .والاغرب من ذلك انك ترى بعض مثقفينا العرب الكبار يقبلون على العقيد بين فترة واخرى ويحطّون رحالهم في طرابلس ويلفّقون بعض المقالات والبحوث التي تتناول فكر وكتابات القائد ومؤلفاته وقصصه ورواياته مثل "تحيا دولة الحقراء" و"انتحار رائد فضاء " و" القرية القرية والارض الأرض" وتحميلها اكثر مما تحتمل بعدها يعود هذا المثقف (العضوي) الملتزم جدا الى بلاده محمّلا ببعض الفتات من مائدة قائد الفاتح من سبتمبر وليت هذا المدح والتبجيل والتفخيم يقابله عطاء مجزٍ ومال وفير ؛ انما هي مُنح بخسة وإقامة لبضعة ايام في فنادق العاصمة مثلما حدث مرةً في احد المؤتمرات حيث تمّ توزيع هواتف محمولة مع خطوطها الهاتفية للادباء الذين دعوا الى مناقشة ما كتبه القذافي وتم تنظيم ندوات موسعة وإعداد بحوث نقدية طويلة تطرقت الى خزعبلات وكتابات القائد ، والانكى ان هؤلاء المدعوّين والمفكرين هم من صفوة ادبائنا وكبارهم ولهم باع طويل في ميادين الادب ومنهم روائيون كبار ورؤساء لاتحاد الادباء والكتّاب في بلدانهم ونجوم لامعة في سماء الادب ، حقا كانت حساباتهم خاطئة وما ظنوا انهم يلاقون هذا الشحّ من القائد المفكّر الذي اشترى مديحهم بباخس الأثمان

 

9)

بعد رفع الحصار الجوي على ليبيا وحلّ مشكلة " لوكربي" كنت اقضي اجازتي الصيفية في بغداد، كانت الطائرة تقلّني من بنغازي الى عمّان في غضون ساعتين وأبقى ساعات قصيرة لمراجعة المصرف وسحب شيء من رصيدي واتجه فورا الى استئجار سيارة تأخذني مع صحبي الى بغداد ورغم سعادتي في ليبيا حيث اقيم لكنني اترقب مجيء اجازتي على احرّ من الجمر وفور وصولي الى بغداد اتجه لزيارة والدتي المعبأة بامراض الشيخوخة واعطيها الدواء الذي جلبته لها من خارج الوطن اذ كان من الصعب جدا تأمين الدواء الناجع من صيدليات العاصمة ومستشفياتها بسبب ظروف الحصار المرير ، وكنت كلما احصل على دواء نادر شافٍ لها امسك بتلابيب المسافرين راجيا منهم ايصاله لها واذا تعذر ذلك ادّخره لها ريثما يأتي موعد مجيئي لزيارتها

اما المحطة الثانية التي ازورها في بغداد هو شارع المتنبي لأرى اصدقائي القدامى وشراء ما يمكن شراؤه من كتب نادرة لأعوض بها عن مكتبتي التي بعتها بثمن بخس في اول سفرتي لتغطية مصاريفي وتأمين وصولي هناك لكن عملية شراء الكتب النفيسة والنادرة ليست بالامر الهين والسهل وقتذاك حيث علمت بان البعض يقوم بتهريبها الى الدول المجاورة لاجل بيعها باضعاف سعرها وتكاد تكون المكتبات المعروفة والشهيرة  تخلو من نفائس الكتب والمجلدات بسبب مافيات الثقافة التي افرغت الشارع من كل ما هو مطلوب ولم تسلم حتى المخطوطات الهامة غير المحققة من عمليات التهريب المنظم وقد احسّت وزارة الاعلام وادركت خطورة هذه الظاهرة التي تهدف الى تفريغ العراق من كل المطبوعات الراقية وتم الايعاز لنقاط الحدود لمنع هذه الظاهرة ولكن بعد فوات الاوان

ونتيجة لهذه الندرة في المطبوعات وشحة الكتب التي يزداد الطلب عليها وبالاخص الممنوعة من التداول ؛ ظهرت في  بلادنا - وبالاخص لدى النخبة المثقفة- شريحة من الناس تقوم باستنساخ هذه الكتب بأيديهم  يسمونهم النسّاخين ، كان هؤلاء يسهرون الليالي الطوال لنسخ الكتب الممنوعة من التداول لتلبية رغبات القرّاء مقابل ثمن يزيد او ينقص وفق اهمية الكتاب وقيمته الفنية ولم يكن العثور على هؤلاء سهلا إلا من خلال بعض الاصدقاء والمعارف ممن يتعاملون معهم ولكن بحذر شديد خوفا من اعين السلطة التي كانت تنشر عناصرها الامنية في كل مكان حتى قبالة المكتبات وارصفة شارع المتنبي فما ان يتم تسريب كتاب ما ويعبر الى العراق رغم منعه حتى تتلقفه ايادي النسّاخين وفي غضون ايام قلائل ترى الكتاب يتداوله القرّاء بشكلٍ سرّيّ ويقبلون عليه اقبال الوحش الجائع امام فريسته وكأننا نعيد تلك المهنة التي كان يرتزق بها اجدادنا والتي كانت رائجة في العصر العباسي. نعم هكذا كان حال القاريء العراقي المثقف فاذا كانت القاهرة تكتب وتؤلف وبيروت تطبع وبغداد تقرأ- كما يقال- فان بغداد في حلكة حصارها اخذت تهرّب الكتاب وتستنسخه وتقرؤه؛ هي وحدها ترضع من ثديها وتغذي نفسها بنفسها فالمائدة خاوية ورفوف الكتب ونثار الارصفة كانت لاتحوي سوى الغثّ والهزيل من المطبوعات التي لاتروي ظمأ المتعطشين للثقافة الرفيعة

 

جواد كاظم غلوم

  

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2058 الثلاثاء 13 / 03 / 2012

في المثقف اليوم