أقلام حرة

رسالة خجولة للوطن

الساعة تشير الآن الى الخامسة فجراً وأنا وحق عينيكَ لم أنم، فحرقتي عليكَ لم تدع لجفنيَّ الكليلين فرصة لأغماضة هانئة أو لأغفاءة حالمة ولو للحظات .

وطني ..كيف لي أن أسألكَ عن أحوالك ؟! وأنا الذي اعلم كلَّ ساعة ماذا يجري فوق كل شبر من ترابك المقدّس، فلقد أدمنتُ اللهاث وراء أخباركَ واللحاق بها خلف الفضائيات وأصطيادها حتى بين الفواصل وبين الأعلانات .

وطني .. لا أريد ان ألبس بردة الوعّاظ وأملأ مسامعك بالفتاوى والنصح والمحاذير، فلقد أتعبتنا المنابر وحكاياها القديمة، ولكن تدفعني رغبة في أن أقول لكَ ما أراه .. أنا ادري أن كتفكَ لا يكلُّ من حمل بندقيتك اليقظة، فماسورتها لها ألف عين، لكنّ إغفاءة قد لا تطول سوى لحظات تكلّفكَ الكثير، قد تجعلكَ تنشلُ بقاياك من برك الدمِ التي تتركها مفخخات الحقد الظلامي وكأنـّها حفرٌ بالقلب ..وأدري إنك حين تستعيد بعضاً من صفاء روحك تعيدُ ردمها لتتحوّل بعد ايام الى حقول ورد نسغها ماء الجراح والوجع الآدمي ودموع الأمهات وحرقة أفئدتهنَّ .

وطني .. انا اعرف كم هي مهمّتكَ مستحيلة أن تقود شعباً لا يفهم اغلبه الحوار الاّ بالسكاكين والرصاص، وينظر الى مفردات الديمقراطية والحرية وحقوق الأنسان نظرة إستخفاف لا ترقى أن تكون حتى مبعثاً للتندّر ..أنا اعرف كل هذا وأدري أنك مصمّمٌ وبقدرة إستثنائية على إغرائه ليطرق باب الصح، وإعادة بناء أخلاقياته وفق معايير الأنسان المتمدّن الحضاري .. وليس بوسعي سوى أن أرفع قبّعتي تحيةً لمسعاك المستحيل .

وطني .. لماذا أنتَ عصيٌّ على النسيان؟ ..ولماذا علـّمتني ان أغُرمُ فيك حد الصبابة وجعلتني هشـّاً ضعيفاً تكاد تطيح بي أغنية تشتهيكَ من أحد مطربيك في الشتات ؟.. لماذا تركتني نهباً لهواجس الغربة وأنيابها العطشى؟ .. ولماذا انت جميلٌ بهذا الشكلُ ياوطني رغم أوحالكَ ودروبكَ المثقلة دفـّتيها بشواخص الأسمنت، وترابك الأحمر الذي لا يغادر سماءك وشمسكَ اللاهبة التي تحرقُ أجنحة الفراشات قبل أن تسقي الزهرات من رحيقها الحلو؟...

يوم أمس رأيتك وكأنّك تمشي معي على رصيف الغربة، حدّثتني عن متاعب قلبك فبكيتُ ..وحكيتَ لي عن أوجاع أهلنا هناك فجرت دموعي مدراراً لتغسل ملح احداقي الذي يلذعها كالجمر.. يوم أمس وانا واقفٌ في محطة الباص مرّت الحافلة امامي مسرعة وهالني إني رأيتكَ فيها وقد رفعت يدك لتحيتي .. فركضتُ ركضتُ  لكنّ قدميَّ لم تسعفاني في اللحاق ..فرجعتُ خائبا وشعوري أنّي قد أضعتُ وطن .

وطني .. إني حملتُكَ في حنايا الروح، وطبعتُ خارطتكَ على قلبي وشماً لا يمحى ...فكيف تركتكَ أنا وغيري وأنتَ تتلوّى كالذبيحة بين خناجرهم الظمأى للدم .. كيف تركناك وكلّ يوم يفجّرون فيك حقدهم الأسود..

وطني إنيّ خجلٌ منك ..وخجلٌ من باسقات نخيلك .. ومن جروف نهريك اليبيسة .. خجلٌ من ساحة التحرير والباعة الذين يفترشون أرصفتها .. وخجلٌ من مساطر العمّال في ساحة الطيران ..خجلٌ من نصب الحرّية ومن جواد سليم ..خجلٌ من صغارك الذين يطيرون كالعصافير بين الأزقة والبيوت ..خجلٌ ..خجلٌ ..خجلٌ.

ياوطني .. أنا عائد إليك .

 

[email protected]

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1196 الثلاثاء 13/10/2009)

 

في المثقف اليوم