أقلام حرة

وطأة المخيال والمُتصور الديني / جابر مسلماني

في الفكر والثقافة والاجتماع والسياسة ضمن عملية تفاعلية متراكمة ومعقده، تحتم على المرء الانسياق مع مجرى التيارات المنبثقة في سياق عملية التكون والتشكل الداخليين، ما يؤدي الى الإدغام والاندماج بين المعطيات المسبقة بدوائر صلابتها ومناطق ضعفها وقوتها وانهيارها وعملية البناء عليها والنظر من خلالها عندهم، منظار قد أُعد سابقا لإلتقاط مشهدٍ يحدث الآن.

ليس هناك فكر في العالم على الإطلاق مهما كان مصدره ومهما علا بريقه الا وقد اصابته لوثة المخيال، الفكر كله والثقافة كلها عندما تترجل عن عرشها ومناطقها العليا، عندما تمشي على تراب الواقع، في التاريخ، وتتنازعها القراءات، ووجهات النظر، وطرائق المقاربة، تنتج مجموعة معقدة من علاقات التمازج والتمايز ودوائر لا بأس بها من الفوقيات الطائرة غير المتصله، عمليات لا تنتهي من الانزياحات ولو ببطئ ستؤدي الى استحداث مناطق ليست أصيلة وليست منبثقة "بمشروعية" واضحة لا لبس فيها عن النصوص المؤسسة للفكر نفسه وللإيديولوجيا ذاتها، (هنا يمكن فعل الكثير وحصاد الكثير والتحلل من هيمنة الكثير).

لا شك في حقيقة كلية مفادها، إن أي ثقافة عقلانية منتجة عن نظام عقل نوعي- عقول نوعية بالابداع والاتباع بإبداع، لا بتقليد أو استظهار او استنساخ او إختلاب- هذه الثقافة بحد ذاتها بقواعدها وقوانينها وإحالة سيولة أفكارها الى الأسس والمنطلقات المتولدة عنها هي أصلب وأقرب الى إمكانية حصول عملية المساءلة والنقد والاجابة والبحث، والوضوح والارتكاز والاقناع من "منظومات الأفكار والتصورات " والتصديقات اللاحقة المنبثقة عن فلسفات إحالية مطلقة الى مناطق لا يمكن مساءلتها بحسب مرتكزات قوانينها ومظاهر خطابها وقبلياته وملحقاته – الاخيره مكمن الرهان -على دوائر لا يمكن نقاشها ولا يمكن تبديلها، أقصى ما بالامكان هو عمليات تجميلية تبريرية تسييلية في أوعية المعاصر ومتطلباته الراهنة والحثيثة دون الوصول الى مكانٍ قد يكون مرتجى ومطلوبا وضروريا ومنطقيا ومُلحا.

هو إنكماش رهيب، ليس واضحا في دوائر المتلقي الطبيعي، غير المركب، فرداَ أو جماعة، وأحيانا كثيرة عند آليات الوصل والاتصال، هي سكونية لكنها سائرة تمشي!، من المهم والمطلوب بإلحاح أن ندرك انها غير متروكة لشأنها وقدرها من خلال مناطق أخرى وسيادات أخرى تمشي دون أن تتعرض لإصابات مركزية عميقة بنيوية في سيرها الحثيث، السكونية ليست من ملاحقها وعوارضها وملامحها، لأنها ممسكة، ولأنها حرة من أي قيد يعيقها أو يعيق أنسلاخ مُؤسِسات أو شيئا من مؤسِسات عجلاتها المتسارعة مع بنياتها الفوقية المنتجة عنها، إذ لا أبدية فيها يمكنها القطيعة أو نصف قطيعة أو ربعها بالنقد والتقييم والتقويم والمساءلة أيضا، وبإختصار إمكانية التفكيك والتركيب التحتيان والفوقيان .

طبعا هناك في كل فكر "مدرساني" أيضا، أو منظومة أفكار كلية، تحتيات لا يمكن المساس بها مع افتراض بقاء الفكر نفسه، هي مكوناته المركزية، عموده الفِقري، أساسياته، ما بها يكون ويمكن، إن أي مساس بها يعني قلبا لها وإنقلابا عليها، ففي الفكر الديني على سبيل المثال وليس حصرا، لا يمكن زحزحة المعطيات العقدية والقواعد التشريعية الأولى الواضحة البينة، على سبيل المثال لا الحصر.

ولكن في التفكير الديني نفسه، والفكر الديني غير الدين في نصوصه التأسيسية كما هو واضح، الأول بشري تحليلا وتفكيكا وتركيبا ونظرات وانتاجات، والثاني وحياني ولكنه صامت يتيح المجال ويعطي الفرصة بطبيعته للإجتهاد في الممكن من دوائر النصوص الخصبة وهنا تكمن حيويته، طبعا لا في معاقل الانغلاق والدوغمائيات والسكونيات والنظرات الارتكاسية الممسكة حتى بآليات النظرات الماضوية المنفكة عن ابداعات النص الديني المفتوح بوقار ورهبة، فلا علاقة للنمط الاجتماعي القديم وآليات نظراته لا بالدين نفسه آنذاك، ولا بالدين نفسه الآن، الدين معطى وحياني وقيمي وأخلاقي عابر لمحددات الزمان، لا كفكر ديني بل كدين، مجددا: الأول متحول، متطور، يمكنه أن يعاصر وأن يخلع بعض أثواب "تحليلاته" القديمه وأن يرتدي ثويا جديدا مواكبا وعصريا، لا يعني ذلك آنيته، بل ضرورة الدعوة الى تأصيله وتأمين تدفقه وانسيابه قيما وأخلاقا وارشادات تأخذ بيد الانسان وتخرجه من مضائقه، هي دعوة الأديان كلها، وهو ما يرتجى منها وينتظر.

من الصعب جدا في المدى المنظور والمتاخم له، القدرة على إعادة تشكيل عقل ديني أو فكر ديني –على كامل الجغرافيا الاسلامية-، خاليا من المآزق في منتجاته الفقهية المنحدرة بتوليدات قيصرية إرغامية من نصوصه الملتبسه "بلحاظات تاريخية حدثية" عند بعض النظرات المغلقة .

مما لا شك فيه هناك قراءات للدين في منتهى الجمال والاناقة والعقلانيه، والاحترام لكل إنسان مهما كان لونه ومشربه، ومهما كانت نظراته الكلية للكون والحياة .وفي أرشيف لقاءات الامام جعفر الصادق الحوارية فائض لمن يريد معرفة طرائق مقاربة الدين للذين لا ينتمون اليه، وكيفية ادارة الحوار الكوني والوجودي والحياتي معهم، وذلك موجود في كل الاديان والطوائف والمذاهب الدينية والوضعية أيضا.

إن المخيالات التصورية، والتهويمات غير المرتكزة على أصول راسخة، علّية ارتباطية ولو بوسائط منظومية، شكلت سببا قويا في ابتعاد الكثير من الناس عند الدين وعن الله أيضاَ!.

من المهم، ومن المطلوب ولو لمرة واحدة جريئة، بعيدا عن هجائيات أصحاب الخطاب الديني للآخر غير الديني أو غير الملتزم- كجزء من حلقة هجائيات عامة متقابلة تدل على إفلاس وتصحر في بعض المواقع والجيوب الدينية وغير الدينية أيضا -، من المهم أن يسأل الممسكون بـ "لخطاب الديني" أنفسهم، هل هم جزء أساسي من المأزق الكبير أم لا؟..

لا بد من عقد مصالحة مع إبداعات الانسان، والا فإن الحياة تمشي، ولكن لا على إيقاع الساكنين والمحنطين.

 

جابر مسلماني- لبنان

  

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2121 الثلاثاء  15 / 05 / 2012)

في المثقف اليوم