أقلام حرة

حسني مبارك: الهروب من المحكمة من الفلقة في دار المقري إلى المؤبّد في ليمان طرة؟ / ادريس هاني

حسني مبارك ووزير الخارجية الأسبق اللواء حبيب العادلي ومسؤولين من أعوانه إلى المحاكمة يوم الأربعاء من أغسطس 2011م بالدائرة الخامسة جنايات جنوب القاهرة، كانت مصر كما لو أنّها تتهيّأ لعيد من أعيادها. لكن هذا لم يمنع شريحة واسعة من أبناء الثّورة من أن يتوجّسوا خيفة مما قد يحصل ذلك الصّباح. صادف أنّني كنت تلك الأيّام بالقاهرة حيث شاركتهم تلك الأحاسيس. نقاش طويل عريض في ميدان التّحرير وفي المقاهي والطّرقات. مصر تتكلّم سياسة عن آخرها. ليلتها سألت بعض النشطاء في ميدان التّحرير ومن شباب الثّورة، عن المتوقّع غدا من محاكمة حسني مبارك. بالنسبة للناشطة الحقوقية أمال الخزامي كان التّوجّس قائما. لقد توقّعت صورة عما سيحدث صبيحة يوم الغد؛ وقد بدا لي أنّ لها حدسا ثاقبا. لذا وجب توثيق توقّعها الذي وقع بالفعل، حيث قالت:

ـ إنّ أخوف ما نخافه غدا، أن يأتوا به ملقى على سرير في نوع من التمارض الممسرح، لاستعطاف الشّعب. صبيحة الغد توجهت صباحا إلى ميدان التحرير، وفي الطريق اقتنيت أغراضا من كشك تديره امرأة مصرية. كانت المرأة تصيح ملئ فيها وحولها مجموعة يتجاذبون الحديث عن المحاكمة، ومنهم من علا صوته احتجاجا على محاكمة حسني مبارك. صاحبة الكشك هي الأخرى تحتج بصوت رفيع:

ـ لم هذه الوحشية.. نحن عرب ونحن مصريين ومسلمين...عيب على مصر أن تحاكم شيخا عجوزا ومريضا..خلاص ربنا بيحاسبه...نتركه لربنا؟

بعضهم قال:

ـ يجب الاقتصاص منه.. هذا مجرم..لا رحمة.. وهل رحمنا هو ...

كاد الشارع المصري أن ينقسم انقساما حادّا على نفسه. بالفعل أدركت أنّ السياسة عند المصريين ممزوجة بالعواطف والانفعال. لكن لا ننسى أنّ أبناء الثّورة كانوا على علم مسبق بأنّ مسرحية من هذا القبيل تدبّر. وإلاّ كيف عرفت منهم بليلة أنّ حسني مبارك سيحاكم وهو على سرير المرض. في كل المقاهي والمحلات كان النّاس يتجمهرون لمتابعة وقائع الفصل الأوّل من المحاكمة. ومنذ ذلك أدركت أن حسني مبارك لن يحاكم وفق رغبة الشّعب ، بل سيخضع لمحاكمة ممسرحة. عبّر الصديق مجدي أحمد حسين في استجواب على التلفزيون أحسن تعبير عن وجود مبارك في مستشفى سجن طرة، بأنّه من أسوأ المستشفيات لما كانوا في ذمة الاعتقال، لكنه اليوم تحول إلى خمس نجوم لما قاموا بإعادة إصلاحه بمبالغ طائلة ليعدّوه لنزول مبارك. لقد قدّر إذن لكل شيء أن يتم في مصر بعد الانتخابات. الانتخابات ما لها وما عليها. هكذا يتحدّد مصير السياسات والدستور والدّولة على مقاس الشخص الآتي من سديم اللّعبة الانتخابية. والآتي أيّا كان لونه السياسي وخلفيته الأيديولوجية، لن يكون بعيدا عن المجلس العسكري؛ إمّا بالنّّسب أو الصفقات السياسية.الشّارع المصري منقسم على نفسه وهو يتحدّث أكثر مما يتحدّث الماسكون باللعبة. سيفيق الشعب المصري وسيجد ما لم يكن له مكان في جغرافيا الكلام الثوروي؛ سيجد نفسه على وشك أن يرقى بأحمد شفيق إلى سدّة الرئاسة. استدرج المجلس الإخوان ودخلوا صفقة انقلبت عليهم ولم يعد بإمكانهم الخروج من استحقاقاتها. لا ينفع التّمرّد بعد فوات الأوان. العذرية السياسية للإخوان فقدت منذ الصفقات الأولى عشية الثورة. هذا كلام يطول، لكن ما يهمّنا هنا هو أن نذكّر بسؤال غدا شبه منسيّ: من وكيف سيحاكم الرئيس المخلوع، وهل يوجد في مشاريع المتبارين على كرسي الرئاسة من وعد بذلك؟ هذا من الممنوعات التي لا يجازف بها أحد يريد أن يعقد صفقة في المستقبل مع المجلس العسكري. لقد بات مكشوفا أنّ محاكمة حسني مبارك ستخضع لأقصى أنواع المماطلة. فلا واشنطن ولا تل أبيب ولا أطراف إقليمية ترغب في أن يواجه الرئيس المصري المخلوع استحقاقات المحكمة. ستكون المراهنة، مسايرة لنبض الشارع المصري، على ربح الوقت في انتظار أن يقضي الرئيس على فراش الموت. وربما إن ضغط الشّارع أكثر فسيتعرّض الرئيس المخلوع للتصفية. الذي حدث اليوم له صلة بمسار الانتخابات ومحاولة التحكم في الوقائع السياسي التي تحدد مصير الثّورة المصرية. صدر الحكم بنكهة سياسية عارمة متوقّعة لكنها ليست منطقية بالمفهوم القانوني والجنائي. فالإدانة والبراءة لا يتناقضان هنا في لغة قضاء يستولي عليه المجلس العسكري ويخضع لفساد العهد القديم. أما أحمد شفيق الذي أعلن كم هو معجب بمدرسة حسني مبارك وبأنه سيعيد الأمن للبلاد ويتوعد الثوار بما يذكّر بالنهج القمعي القديم، فهو كاد يحكم على مصيره الانتخابي لولا أن القضاء المصري وبمساندة من المجلس العسكري شاء للمحاكمة توقيتا يخدم الانتخابات في جانب أحمد شفيق ولا نقول أنه مرشحهم الوحيد، بل هو المرشح الأفضل؛ لكن المجلس رابح في كلتا الحالتين: مع شفيق ومع مرسي. فالثوار وبدافع اليأس قد يقبلون بمرسي بناء على حساب النسبة؛ أي أنّ هذا أهون من ذاك. لكن ليس في القنافذ أملس. فمنطق الصفقات قد يجعل من الإخوان حلفاء العسكر. لقد صدرت أحكام تدين مبارك والعادلي بالمؤبّد. بينما كان المتوقع بالنسبة للشعب وكذا أسر الضحايا هو الإعدام.لكن حصلت المفاجأة لمّا تم الحكم ببراءة باقي أعوان وزير الداخلية الستة وكذا أبناء الرئيس مبارك. ترى، هل كان الحكم بالمؤبّد على الرئيس ووزير داخليته المتهم بإصدار أوامر بقتل الثوار في ميدان التحرير مجرد تغطية تكتيكية على أحكام البراءة لباقي شركائهم في تنفيذ جريمة القتل وكذا الفساد المالي، في انتظار الطعن في تلك الأحكام من قبل دفاع المتهمين بما يخفف ويبرئ الرئيس؟ لقد كشفت الأحكام على أنّ النظام لم يتغيّر بل يناور ويمانع ضدّ التغيير. وما تبرئة مساعدي مسؤول الداخلية إلاّ إشارة للثوار والأمن لمزيد من القمع الذي ينتظر الثوار بمجرد أن تستقر اللعبة على أيّ كان من المنتخبين. يجب أن ندرك أنّ حسني مبارك نجا أكثر من مرة من المحاكمة. ولكم هذه الحقائق.

 

حينما خضع حسني مبارك لوجبة الفلقة في المغرب

لحسني مبارك إذن تجربة مع المحكمة وسمت على مدى تاريخه المهني بالهروب والانفلات. ليس غريبا أن نشهد كلّ هذا الإلهاء الذي أحاط بمسار محاكمته.إنّ في جعبة هذا الرئيس ملفات حامية. فهو لاعب كبير في معادلة الشّرق الأوسط و شاهد على جميع مهازل السياسة الإقليمية. لكي ندرك إذا ما كان حسني مبارك سينال حكما قضائيا أم لا ، لا بدّ أن ندرك أنّ لحسني مبارك تجربة سابقة مع التحقيق والتّفلت من المحاكمة. وفي هذه التجربة المرّة التي لم يكشف عنها السّتار تأكّد أنّ حسني مبارك ليس شخصية عنيدة في التحقيق ولا شخصية قادرة على رفض الاعتراف. ولأنّه كذلك، سيصار إلى منع محاكمته والتماطل في مثوله أمام القضاء تحت عشرات الذرائع، وفي كل الحالات قد يتم استبداله بشبيه ، وحينئذ يسهل أن يؤدى دوره بامتياز طالما هو في حال المرض يجيب بالإشارة. هل نحن إذن أمام محاولة للهروب من المحاكمة؟ إنّ لحسني مبارك حكاية مع المحكمة أقدم بكثير من وقائع المحاكمة التي يخضع لها ذلك الفرعوني العجوز طريح فراش المرض. ومع ذلك لا أحد من المصريين بمن فيهم الفعاليات الكبرى يكاد يعرف أو حتى يصدّق أنّ الرئيس مبارك المخلوع سبق أن كان ضيفا على إحدى أسوأ السجون المغربية سيئة الذّكر. لقد كان من المفترض أن يحاكم حسني مبارك في ستينيات القرن الماضي في محكمة عسكرية مغربية على خلفية تورّط النّظام المصري يومها في حرب الرمال بين المغرب والجزائر. هي ليست حكاية بل إنّها جزء منسي من سيرة رئيس يمثل اليوم أمام محكمة سوف يطول أمدها من دون طائل. إنّ المصريين يجهلون هذا الجزء من ذاكرة مصر وسيرة مبارك. ذلك حينما اشتدت الحرب بين المغرب والجزائر سنة 1963م على خلفية نزاع حقيقي حول ترسيم الحدود، كان واضحا ذلك الانحياز السياسي والأيديولوجي للقيادة المصرية إلى صف الجزائر. هذه الأخيرة كانت قد بدأت تخسر الحرب نظرا للتّفوق العسكري المغربي أنذاك. لهذا الغرض أمدّ جمال عبد النّاصر الجيش الجزائري بعتاد عسكري لا سيما ما يتعلّق بسلاح الجو. مجموعة من طائرات الهيلكوبتر اتجهت مباشرة من مصر إلى الجزائر. وصادف أنّ واحدة من تلك الطّائرات التي كانت تقوم بعملية استطلاعية في منطقة تندوف، سقطت سهوا أو نتيجة عطب فنّي في منطقة محاميد الغزلان بالمغرب، وكانت تضمّ حوالي أربعة ضبّاط مصريين يقودهم العقيد يومها حسني مبارك.أكثر من ضابط عسكري مغربي كبير أكّد على هذه الواقعة مع تشابه ملحوظ في تفاصيل قصّة اعتقال الضّباط المصريين بمن فيهم حسني مبارك.الطيّار المغربي البارز صالح حشّاد سبق وأن تحدّث عن ظروف اعتقال حسني مبارك في برنامج شاهد على العصر على الهواء من تلفزيون الجزيرة. يقول حشّاد بأنّ الطائرة حينما وقعت بـ"أرفود"، أخبر القائد الذي منعها من الإقلاع، القيادة العسكرية في مراكش في شخص الجنرال أوفقير. هذا الأخير طلب من القائد الذي كان صديقا لحشّاد، بأن يحضر له هؤلاء الضّباط وإلاّ قطع رأسه. أحد الضّباط يحكي عن معاينته لأهالي منطقة محاميد الغزلان حيث حطّت الطائرة وقد أوثقوا الضباط الأربعة بحبال على جذوع النخيل، وربما أشبعوهم ضربا، كما ربطوا المروحة بالحبال خشية أن تستعيد الطّيران.خضع الضباط المصريين للاستنطاق في مراكش قبل أن ينتقلوا إلى معتقل دار المقري بالرباط . يحاول مصطفى العلوي الصحفي المغربي المخضرم في مذكراته حديثة الصدور: "مذكرات صحافي وثلاثة ملوك"، أن يثير هذا الموضوع في فصل من مذكراته تحت عنوان: يوم ألقي حسني مبارك ورفاقه في غرفة اعتقالي بدار المقري. يقول:" وبينما كنت نائما معصوب العينين، سمعت صخبا واهتزازا كالزلزال حول دار المقري، وحركة وصياحا وكأن الأمر يتعلق بهجوم على تلك الدّار. وإذا بباب الغرفة يفتح في تلك الساعة المتأخرة من الليل، فسارعت إلى الركون إلى أحد أركان الغرفة في خوف وارتعاش، ثم سمعت أصوات أجساد ومعها أصوات سلاسل بدا أنها مربوطة بها، وتوالت أصوات تلك الأجساد التي تلقى داخل الغرفة واحدا تلو الآخر. وفي كل مرة أسمع صوت السلاسل حين تضرب الأرض رفقة تلك الأجساد. ثم أغلق الباب وتوقفت الحركة، وهدأ الوضع لفترة قصيرة، قبل أن يشرع هؤلاء الوافدين الجدد في تبادل همسات وهمهمات، وإذا بواحد منهم يتحرك زاحفا ليبحث بيديه عما يوجد في تلك الغرفة، وضع يده عليّ ثم سحبها بسرعة وعاد إلى رفاقه ليخبرهم بلهجة مصرية:" فيه حد هنا". لقد كان الأمر يتعلّق بالضباط المصريين الذي ألقي عليهم الجيش المغربي القبض في موقع "حاسي البيضا" ومن بينهم الرئيس الحالي حسني مبارك"(ص 194). ويؤكّد"لومة" على هذا حينما يؤكّد على إحضار الضباط الأربعة إلى دار المقري، حيث كان المعتقل يعجّ بمجموعة من المناضلين من الاتحاد الوطني للقوات الشعبية من الذين اعتقلوا على خلفية مؤامرة 15 يوليوز 1963م، من بينهم الحبيب الفرقاني ومحمد المكناسي والفقيه البصري وأخرون. يذكر"لومة" أيضا بأنه تمّ وضع الضيوف المصريين في إحدى القاعات التي توجد في إحدى القاعات التي توجد في إحدى زوايا دار المقري، حيث كانت معتقلة في الزّاوية المقابلة، زوجة شيخ العرب "مينة" و إبنيها وأبيها. يتحدّث "لومة" أيضا عن وجود ضابط مصري قد رفض الإدلاء بأيّ معلومة للمحققين بناء على معاهدة جنيف الموقّعة سنة 1948م بخصوص أسرى الحرب. لكن حسني مبارك حسب لومة كان قد اعترف بكلّ شيء وقدّم معلومات كثيرة تحت وازع الخوف. وليس مستبعدا أن يكون المجلس العسكري اليوم يعلم مدى هشاشة الرئيس واستعداده لاعترافات خطيرة من شأنها أن تكشف عن اللعبة كلّها. إنّ مبارك لا يملك أن يخفي الحقائق إن هو خضع لتحقيق جاد ومحاكمة عادلة. وهذه تجربة التحقيق معه في المغرب بداية الستينات أكبر شاهد على ذلك. وكان قد حدّثني أحد أقرباء الفقيهي محمد؛ وقد كان هذا الأخير حينها في سنة 1963م يتولّى مهمّة رئيس الشّرطة القضائية في مراكش وورززات. ينقل لي هذا الصّديق وهو قريب المرحوم الفقيهي أخبارا حدّثه بها هذا الأخير بشأن حسني مبارك والضّباط الذين معه. حسب هذا الأخير، كان حسني مبارك قد تلقّى وجبة من الضّرب أثناء التّحقيق في المغرب. كان الفقيهي فيما أخبرني قريبه هو نفسه من تولّى التّحقيق مع مبارك ومن معه. وأنّه تعرّض للضرب وغسيل الدّماغ. وكان يعدونهم ليقدموهم إلى المحكمة العسكرية. أقول: لعلّه لهذا السبب، رفض هؤلاء الضباط وعلى رأسهم مبارك أن يعودوا إلى مصر يومئذ، بعد أن عاشوا بعد الاعتقال وضعا مريحا حيث عوّضوهم فترة السجن، بكثير من الحياة الرغدة. لا نستبعد إن كان المغرب قد سمح لمبارك بالمكوث الدائم في المغرب ، لكان طلب اللجوء وخان مصر !؟ ربما كان لعبد النّاصر دورا في نجاة حسني مبارك من المحاكمة العسكرية بالمغرب، نظرا لمكانته وتأثيره المعنوي الإقليمي والدّولي. لقد كان مبارك وزملاءه قد عدوا في عداد المفقودين ولم يعرفوا شيئا عن مصيرهم. فقبل أن يقوم الملك الحسن الثّاني بزيارة إلى القاهرة للقاء الرئيس جمال عبد الناصر ، بعث بالضباط الأربعة وفيهم حسني مبارك كهدية لعبد النّاصر، ولم يكن عبد النّاصر على علم بأنّهم كانوا محجوزين في المغرب. وحينها فتحت صفحة جديدة في العلاقات بين عبد النّاصر والمغرب. حينما نجا مبارك من دار المقري بالمغرب لم يكن يتوقّع أنه سيكون نزيلا يوما ما في ليمان طرة؛ السجن الذي أثّث التراجيديا السياسية المصرية المعاصرة، لا سيما وأنّ الإخوان المسلمين هم أكثر من يتذكّره والسجن الحربي؛ لكن بعد أن دخلت عليه إصلاحات ليجعلوا منه سجنا لخمس نجوم على شرف الرئيس المخلوع الذي لا يزال هاربا من المحاكمة العادلة.

   

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2140 الاحد  03 / 06 / 2012)

في المثقف اليوم