أقلام حرة

انتفاضة الشابندر .. خسرت حياتي / مهدي الصافي

ينحرف عن الغاية والهدف المراد منه إيقاد شعلتها من جديد، شعلة الأمل والعودة لتكملة المشوار، تظهر له مأساة السنون النائمة فوق حصير الفطرة البائسة، لأنها (اي الروح الطيبة المنبت) وقعت ضحية الخداع المقدس، بينما تغيب هذه الأحاسيس والمشاعر عن مخيلة الإنسان المستلقي على ظهر الاسترجاع أو المراجعة، فهي مليئة بالخدع الاجتماعية الغريزية،

كيف؟ ومتى؟ولماذا الانهيار والخسارة....

كل الأشكال والألوان والصور والمواقف والأحداث المساقة في اعترافات خسرت حياتي تكاد تكون مطابقة ومتطابقة مع الواقع (تبعا للأزمنة والأماكن المذكورة)،

ولكن أين تكمن المشكلة،

برأيي المتواضع إن سنة التناقض بين الفكر أو الثقافة، وبين الوظيفة أو العمل السياسي سنة دائمة، وصيرورة تاريخية متوارثة، والأسباب واضحة، ولكنها غير مشخصة تشخيصا دقيقا، لأنها متواصلة وغير محددة بزمن معين، كتبت وحاورت العديد من قيادات الدعوة حول خطأ تكرار تجربة البعث بجمع رئاسة السلطة-الحكومة وقيادة حزب (السلطة) بشخص السيد رئيس الوزراء المالكي (مع انه شخصية متوازنة في الحزب والحكومة، إلا إن العمل الحزبي يختلف عن الإدارة الحكومية، لان احتمالية الإخفاق في الحكم، تنعكس أثاره ونتائجه سلبا على الحزب وقياداته وجماهيره وحتى تاريخيه)،

لان القوة والقدرة السياسية والشخصية في مراحل معينة تتجاوز حدود الالتزامات الحزبية أو الحركية، وتصبح أدوات السلطة مطرقة لتمييع الحزب وتجييره لصالح الطبقة المستفيدة منه، ولهذا تعد مسألة التزاحم الوظيفي احد أسباب الصراعات المحتدمة بين قيادات أي حزب يصل إلى سدة الحكم،

نعود إلى سنة الخلافات بين المفكرين ومنظري الأحزاب السياسية، وبين قيادات الواجهة الأمامية، المفكرون بطبيعتهم مشغولون بالأدوات المعرفية والفكرية، لايبحثون عن مكاسب وظيفية تحجم من أفق الفكر الذي يحملونه، وتحد من حرية الحركة العقلية والثقافية أو المعرفية عموما (إنهم منشغلون بالفكر ولا يصلحون للقيادة، هكذا يصورهم الجناح الأخر)،

بينما تندفع الشخصيات النفعية إلى واجهة القيادة لان عقولها غير مشغولة بشيء (لعلها تستغل بعض أوقات الفراغ بالمطالعة لتمسح عنها عيب الجهل والحرج الذي قد تواجهه عند مجالس الادباء والفكر والثقافة)، وهذه السمة أو الحالة الشبه طبيعية تكاد تكون حالة كونية،

لان المفكرين الذين ركبوا عربة السلطان قديما وحديثا، داستهم عجلاتها فيما بعد،

 (والأمثلة كثيرة في أوربا والعالم العربي قديما وحديثا)، أين الخلل؟

الخلل يكمن في أصحاب القوة الفكرية الهائلة، هم وحدهم المسئولون عن هذه الفجوة التي شغلت وأتعبت الشعوب سنين طوال،

وسمحت لمراهقي السياسة بالتطفل والتطاول على مصائر الأمة، والعبث بمصالحها القومية والوطنية،

لماذا سمحتم باتساع الثغرة التي دخلت منها الثعالب؟

أين كانت البرامج والمناهج والأيديولوجيات السياسية والأخلاقية وحتى الدينية عن هذه المأساة؟

، عمائم وجباه سود خارجة عن العقيدة والدين والمبادئ الإسلامية ....

انتفاضة أو ثورة الشابندر ثورة خارج التاريخ، ومتأخرة كثيرا،

مفيدة تفتح لنا دفاتر عتيقة، لكنها لاتملك قوة التغيير الثوري (قد يكون لها قوة في المستقبل)،

نحن أبناء الهجرة الثالثة (الهجرة الأولى قبل الثمانين-الثانية بعد الثمانين-الثالثة بعد التسعين، الخ.) عرفنا هذه الأمور عن كثب، لأن جماهير انتفاضة عام 1991 هم احد ضحايا هذه اللعبة الفاشلة،

 (وقلنا حينها كم نحن شعب بائس -بديل صدام كارثة، كارثة ليس لأنهم رعناء كبقية الحكام المستبدين، بل لانهم لايعرفون فن إدارة الحكم، ليس جميعهم بالطبع ولكنها النسبة الأكبر)،

ولكن تبقى مسألة إقناع الشارع العراقي، المغيب تماما عن الوعي، والمبعد عمدا عن التعرف على صورة واقعه ومستقبله المجهول..

انتفاضة أو ثورة الشابندر، ثورة إصلاحية جذرية، يشترك فيها العديد من المثقفين والمفكرين والسياسيين الوطنيين، مع إنها اشتراكات وإبداعات وانجازات شخصية مبعثرة، لكنها يجب إن تستغل لبناء قاعدة سياسية وفكرية رصينة، تحمل للأجيال الواعدة خارطة طريق صحيحة،

وليست ورقة إصلاح توافقية لإرضاء الأخر وفقا لقاعدة (أعطيك وتعطيني-أغطي فعلك وغطي فعلي)، تٌخلصنا من الفوضى، وتبعد عنا شبح الانزلاقات الاثنية والطائفية والعرقية،

تؤسس لدولة تأخذ على عاتقها صناعة امة تؤمن بالمواطنة الخالصة النقية من الانتماءات والاعتبارات الفئوية،

تنظر إلى الإمام بعيون الشعب، وليس بمنظار الحاكم وحاشيته....

كيف يخسر المفكر حياته؟

يخسرها عندما يوظفها في المسارات والاتجاهات والاعتبارات الخاطئة، وفقا لحسابات اعتباطية ظرفية غير مستندة على قاعدة الحقائق ......

اما إذا كانت موظفة توظيفا طبيعيا، تهتم بقضايا المجتمع الإنساني المحلي والإقليمي والعالمي، فلا خسران في مسيرتها، بل ارثها باق ينتقل عبر الأجيال دون واسطة،

ولكن لنكن صريحين جدا، إن مايحدث في العراق والعالم العربي كارثة إنسانية وأخلاقية واجتماعية وتاريخية، تكاد تكون لوثة حضارية لا يمكن الخلاص منها، وهي كراهية اقتراب رجال وقيادات الدول العربية الحديثة على الأقل (أصحاب القرارات السلطوية) من المفكرين والمثقفين والمبدعين الآخرين،

 (في احد المرات استغربت وأنا أتحدث إلى احدى العجائز الأجنبيات حول حرب العراق الأخيرة 2003، وهي أستاذة في التاريخ وجدتها تتحدث عن مبدأ إنساني واقعي حديث ولد بعد كوارث الحربين العالميتين، هو رفض مبدأ الحرب تحت أية ذريعة، قلت كيف ..أين انتم ..لانسمع عنكم ...ولانراكم..كيف ولكم كل هذا الفكر الانساني، قالت نحن مغيبين ولانملك الأدوات الإعلامية، نعترض، ونواجه، ونحتج، ونعمل اللقاءات والندوات، ولكن بهدوء، لأننا لانستطيع مواجهة الحكومة والمجتمع المؤيد للحرب..عقول مفكرة نيرة في العالم الغربي محبة للخير والسلام لكنها محاربة وتكرههم أحزاب السلطة..بالمناسبة هل يعرف العرب إن أكثر مفكري العالم دفاعا عن حقوق الشعب الفلسطيني هم من أصول يهودية؟)،

مخاوف متوارثة دمرت الأمة العربية ومسخت شعوبها، حتى استفاقت بعد الخراب، تحت نبضات وإشارات الفيسبوك،

لا لشيء، إلا لان الحاكم الذي يعمل مع القوى الامبريالية عرف ما يريده الأسياد منه، يريدونه ان يكون حمل وديع، عليه ان لا يظهر عضلاته الفكرية والثقافية أمامهم، لأنهم أهل عمل وفعل لا قول فقط (كما يحصل عندنا يوضع حجر أساس المشروع والباقي على الله)،

هكذا هي حضارتهم المادية، كل شيء مقنن ومبرمج حتى الإنسان، ومن هنا لانجد مثالا واقعيا تخلص جزئيا من هذه المعضلة إلا الديمقراطية المصرية، لأنها ولدت من رحم الثورة الشعبية البعيدة عن يد الاستعمار، وهكذا تونس، مع إنهما محاربتان وتنتظرهما أوقات عصيبة في المستقبل، وستفشل حتما أو تتعثر التجربة اليمنية، والليبية، والسورية إن تحقق فيها التغيير، لأنها تلوثت بلوثة التدخلات الخارجية الشبيهة بالتجربة العراقية...

ثورة الشابندر، ثورة حقيقية، بغض النظر عن فكرة مع أو ضد، تبنت رأي كل إنسان نذر عمره ووقته وجهده وعقله في سبيل إنقاذ الأمة، أو إنقاذ الشعب العراقي، ثورة عرت زيف الجلباب المقدس، وعباءة الغدر، مع إنها تحدثت عن حلقة واحدة من حلقات الانهيار العراقي،

إلا إنها حلقة رئيسية في صناعة القرار العراقي الرسمي الجديد، حلقة مثلت طائفة محرومة مهملة ومنكوبة، لم تجد من ينقذها من الحرمان، فقررت الهيجان الشامل، تسير كل عام ألآلاف الأميال إلى ارض الشهداء كربلاء بحثا عن الفرج...

كيف تنهض وتنفض غبار الزمن المر عنها، اذا كان فيها اللئيم والخبيث والمنافق والجاهل والعميل والارهابي، كان احد وزراء الطائفة يطلب بحقد من احد قيادي الحركة الإسلامية (قبل ان ينشق عنها ذات الوزير الفلتة) إثبات انه سياسي حتى يضيف إليه الخدمة التي انقطع عنها بسبب المنفى، بينما عاد البعثيين إلى وظائفهم بكامل سنين خدمتهم، والمهاجرون يتسكعون عند أبواب مديريات الهجرة دون حل!

كيف تسرقون الله عز وجل، وتدعون إنكم لازلتم مسلمين،

من يسرق المال العام والحقوق الشرعية يسرق الله عز وجل

من يتلاعب بثروات الشعب ويسرق قوتهم اليومي يسرق الله عز وجل

من يمر بموكبه عند تقاطع الطرق ويرى فقراء التشرد وأطفال الشوارع يغضب الله عز وجل

إن كارثة فشل إدارة الحركات الإسلامية للحكم في العراق (شيعة وسنة)، تعود لجملة من الأسباب، أهمها طبيعة المجتمع العراقي القبلية والعشائرية، المتناقضة بيئتها وتراثها وموروثاتها مع روح العصر ومبادئ الإسلام السمحة، (لذلك يشتهر العراق بكثرة أحداث الفرهود، أعمال السلب والنهب استمرت منذ العهد الملكي وحتى وقتنا الحاضر)،

والمتقاطعة نظمها العشائرية وأعرافها الخاصة بها مع النظم الإدارية الحكومية والمدنية، وكذلك ضعف ثقافة ووعي وعقلية بعض المتصدين للواجهة القيادية في تلك الأحزاب أو الحركات، إضافة إلى أسباب عديدة ليس هناك مجال لذكرها ألان، كانت قيادات الأحزاب والحركات الإسلامية تنظر عموما للشخص المطلوب اكتسابه إليهم من خلال تدينه، اي تبعا لمستوى الالتزام الديني، وليس وفقا لثقافته ووعيه السياسي، هذا لايمنع إنهم يهتمون أحيانا بالمثقفين المتدينين، ولكنهم يبقون تحت دائرة المراقبة، ضمن دائرة القمع والتحجيم، لأنهم لا يحبذون رؤوس أخرى تزاحمهم على كراسي القيادة، سنة الشرق القديمة المتجددة، ولعلها سنة الغرب ايضا (احد القيادات الإسلامية وهو في منصب سيادي افتقد احد حراسه عند صلاة الفجر مرة فطلب نقله من موقعه)، هذه المعايير معايير سهلة، يمكن لاي شخص ان يتجاوزها دون صعوبة، على العكس من شروط الانتماء الفكري للأحزاب العلمانية، التي لا تقف ولا تهتم كثيرا بشعارات الالتزامات الدينية والأخلاقية المشددة،

 (نقل لي احد الأشخاص قصة سرقته، قال كان ألحرامي يلح علي بإيقاظه في صلاة الليل، وتأخرت مرة عنه فلامني كثيرا..صلاة الليل وشخصية معروفة ..ثم يطلع حرامي..او مثل هذا الذي لبس العمامة فأكتشف انه شاذ جنسيا، أو ذاك الذي قصر لباسه وأطلق لحيته وادعى انه عائد إلى السلف الصالح فأصبح جزارا للأبرياء تحت فتاوى التكفير، كلا يحشر على نيته، يبتدع أساليب إجرامية سادية في القتل والتعذيب تحت تكبيرة الله اكبر، الخ)

هذه الحالة تجعل الصراع البيني داخل الأحزاب والحركات الإسلامية صراعا مصيريا (بين الجناح الفكري والثقافي-والجناح السياسي العملي)، يتجاوز حد العلاقة الأخوية والحزبية المفترضة في مثل تلك الحركات، تنزلق قيادات الجبهتين إلى ساحة المواجهة المباشرة،

كلا يكشف على طاولة التشريح عن أوراق وأسرار الأخر، تنزل بهم المقامات السياسية والاجتماعية والثقافية إلى مستويات متدنية، تنعكس سلبا على الطرفين، ولكن عندما تكون الحالة مأساوية تهدد مصير امة وشعب وكيان ودولة، تصبح ضرورة المواجهة حقا مقدسا، لمن يحمل بشرف هموم حزبه أو حركته أو وطنه (وبالأخص إذا كان فكر وثقافة الحزب أو الحركة إسلاميا)، ويأخذ على عاتقه مهمة التصدي للفوضى الأخلاقية والدينية والاجتماعية.....

يبقى مبدأ التقييم بين الحالتين في ميزان المحاكمة التاريخية لمسيرة تلك الأحزاب وتجربتها في الحكم، متروكة للشارع العراقي الذي يمكنه ان يستند في مراجعته للأحداث إلى نتائج تقييم أهل الخبرة، من أصحاب المدارس الفكرية، والمعرفية، والثقافية، والتاريخية (تاريخ وطبيعة تكون تلك الأحزاب، وكذلك وظروف عملها في الخارج).


مهدي الصافي

2012

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2210 السبت 25/ 08 / 2012)


في المثقف اليوم