أقلام حرة

أزمة المستشارين .. وعقدة نقص المسؤول / مهدي الصافي

تتأثر بالبيئات الحاضنة لها (البيت وتربية الأسرة-المدرسة وطبيعة الكادر التدريسي وأخلاقه-الشارع ومستوى ثقافة الجيران-النمط اليومي الرسمي للحياة والوظيفة-الموروث الديني والطائفي والعرقي-الخ.)، تنعكس سلبا على مجمل الأحداث المحيطة بالإنسان والمجتمع،  وتؤثر بطبيعة التصرفات الشخصية العملية أو المباشرة.

عندما يصبح المواطن العادي مسؤولا، يعود إلى نقطة البداية، يخرج كل عقده وأمراضه التي مر بها فيسقطها على الآخرين، اي انه يشعر براحة نفسية عندما يرى الآخرين يغرقون في المعاناة التي رسخت في ذهنه منذ الطفولة، لان الفقر والمعاناة قد حفرت في ذاكرته صورة المأساة المتكررة أمامه، ولذلك كان البخل رفيق درب اغلب الفقراء (الفقراء وليس الطبقة المتوسطة) الذين أصبحوا أغنياء فيما بعد، تعجبت كثيرا من أسعار السيارات المستعملة أو العادية في الدول الغربية، بينما كانت هي احد أهم أحلام الإنسان العراقي في أواسط القرن الماضي وصولا إلى عام 2003 (في ظل غياب وسائل النقل المريحة العامة والخاصة)،

ولذلك تجد إن أكثر فلاسفة العالم عقلانية وواقعية وروحانية هم أبناء الطبقات المتوسطة أو الغنية، بينما تجد قسوة الطرح وتشدد الأفكار عند فقراءهم، ومن هنا أيضا يمكن ملاحظة بشاعة نتائج الثورات (وهي غالبا ما تكون ثورات الفقراء) والانتفاضات الجماهيرية ووقعها على الشارع (قتل وسحل وتقطيع الرقاب والأوصال-الثورة الفرنسية-الثورة الروسية-الثورات والانقلابات العربية-الانقلابات العسكرية في أفريقيا ودول شرق أسيا-أمريكا اللاتينية-الخ.)،

من هنا تعد الحضارة الغربية مسألة معالجة أزمة البطالة والفقر في بلدانها من أهم الأولويات الحكومية والقضايا الملحة (فهي توفر الضمان الاجتماعي والصحي والتعليمي مجانا للفقراء وذوي الدخل المحدود،  لأنها تريد درئ خطر أو مخاطر زحف المشاكل والجرائم المنتشرة في الأحياء العشوائية، وتعدها أوبئة يجب الحد من تأثيرها على بقية المناطق الامنة-فنرى مثلا عندما قللت الإدارات الأمريكية السابقة بعض تلك الخدمات ارتفعت نسبة الجرائم عندهم)،

وهذا ما يحصل اليوم في العراق وبعض الدول العربية من ارتفاع ملحوظ بنسب وطبيعة الجرائم المنظمة (وصغر أعمار منفذيها من المراهقين)

المقدمة المشار فيها إلى أثار رعونة المسئولين على المجتمع، تؤكد على أهمية دور المستشارين الذي تحتاجه الدوائر الحكومة الرسمية وغيرها، الدور المغيب والمهمل أو المعطل حاليا، بينما كانت مسؤولية قيادة المشاريع التوسعية والمحلية للإمبراطوريات العظيمة القديمة والحديثة تقع على عاتق المستشارين (أو الوزراء)،

اما المشكلة الطافحة اليوم فتكمن في شخصية المسؤول، الذي يعتقد انه يجب عليه ان لايظهر أمام مستشاريه بأنه بحاجة إليهم أو اقل وعيا منهم (هذا إن كان المستشارين ذو كفاءة وخبرة وحنكة سياسية، واجتماعية، واقتصادية،  وعسكرية،  الخ.)،

كان صدام المقبور يحيط نفسه بجيش من المستشارين العسكريين، ولكنه عندما قرر غزو الكويت لم يستشر حتى وزير دفاعه أو قيادة الأركان، اختار ان يستشار أغبى العسكريين، كان يستمع في المجالات والقضايا الأخرى للمستشارين،  لكنه يسرق منهم المعلومات ولايرد على مقترحاتهم، يستمع يعلق ويضيف ويتلقف أشياء قد تفوته،  لكن القرار الأول والأخير له هو وحده، مايحصل في سوريا والبحرين والسعودية ومن قبل ليبيا والعراق،  هو تكرار لسيناريو المستشارين وعقدة نقص المسؤول،

لايستمع إلا عند وقوع الكارثة، بينما استطاع المستشارون في مصر وتونس ان ينقذوا شعبهم من كوارث نتائج الثورات، فكانت ثورات شبه سلمية جنبت الشعب والمسؤول المستبد انهار الدماء المتوقعة،  فيما لو تعنت الأخير وتمسك بكرسي الحكم.

المشكلة الكارثية المستمرة في العراق، هي المستشارين وكفاءتهم في خدمة المسؤول والبلد (تبدأ من مستشاري المحافظين-والوزراء- والرئاسات الثلاث الجمهورية والوزراء والبرلمان مرورا باللجان الاستشارية لمشاريع التخطيط والبناء، وإنشاء مراكز البحوث الإستراتيجية، الخ)،

الكل أو البعض أعطى هذه المناصب وفقا لمبدأ المحاصصة الفاشل،  إلى الأقرباء والأصدقاء، والحواشي الحزبية والفئوية، استخفافا منهم بأهمية تلك المناصب، هذا فضلا عن إن عقدة النقص المرسخة والمتوارثة اجتماعيا وثقافيا عند المسؤول السياسي لاتسمح له بتطوير كادره الاستشاري،

بحيث إن الشخص الاستشاري الكفء يضطر تحت هذه الرؤية القمعية المتخلفة للمسؤول، إن ينزل بمستواه الوظيفي والعقلي إلى درجات الاستيعاب المحدودة للشخص المعني بتلك المهمة (أي المسؤول)،

يقال إن احد الوزراء في عهد النظام البائد، أراد ان يقنع الدكتاتور بالاستقالة المؤقتة (بعد إن سأل الطاغية وزراءه حول جريمة حلبجة) من الرئاسة حتى يرفع اسمه من فضيحة قصف حلبجة بالأسلحة الكيميائية،  فقطع رأسه الطاغية(وهذه رسالة إن الاستشارة يجب إن لا تتعدى حدود عقل الشخص المخاطب، بينما في دول الغرب يترك المسؤول إدارة الدولة لمستشاريه، بحيث تكون عملية الظهور في العلن وأمام وسائل الإعلام، وكتابة  الخطب الرسمية، وكذلك مسألة رسم السياسة الداخلية والخارجية مناط بكادره الاستشاري، لذلك يعتبر الكادر الاستشاري ورقة مهمة في الحملات الانتخابية)

هل تمتلك الحكومة العراقية (وبقية الرئاسات الجمهورية والبرلمان) المثقلة بتعدد وتشابك الأدوار والصلاحيات مجلس استشاري رصين، يخطط ويدير ويمنهج ويرسم للمسؤول أو لرئيس الوزراء طريق الإدارة الحكومية السليمة، أم هو أمر متروك للصدفة والظروف، فإذا كان هناك جيش من المستشارين للحكومة،

 أين هي النتائج على ارض الواقع،

فالعراق أكثر دولة في العالم تنتشر فيها ظاهرة الغوغاء السياسي، نرى تكرار يومي لسوق السياسية، أعضاء مجالس المحافظات يصرحون-أعضاء البرلمان يصرحون-قادة الشرطة يصرحون-الوزراء ومستشاريهم يصرحون-مستشاري رئيس الوزراء والجمهورية يصرحون، تارة ينفون وتارة أخرى يؤكدون، وقادة الأحزاب يصرحون (صرح القيادي الفلاني في التيار أو الكتلة الفلانية)، وهكذا تستمر لعبة التصريحات، حتى صارت بلادنا من أكثر دول العالم ثرثرة، ينشغل فيها المسؤول بالتصريح فقط أكثر من  الفعل أو العمل،

طيب ماذا يكون حال البلد إذا كان فيه المستشارين والمسؤولين على مستوى واحد من التخلف والجهل؟

، أو لنقل على مستوى واحد من الخبرات الإدارية والثقافية البسيطة، وليس لهم باع طويل في مجال العمل الوظيفي الحديث، أو ممن تنقصهم الكفاءة العقلية والعلمية والنفسية الساندة والداعمة للإبداع البشري الفطري، تلك التي تسميها الحضارة الحديثة بالإلهام ...

فهل هناك حل قريب لتلك المعضلة، أم ستبقى عقدة النقص هي من يبعد المسؤول عن فكرة اختيار مستشاريه الأكفاء،  ولكن ليس على غرار النصائح الميكافيلية الخبيثة.....

 

مهدي الصافي

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2214 الاربعاء 29/ 08 / 2012)


في المثقف اليوم