أقلام حرة

المركزية لا تحل المشاكل الكبرى بل تعيد التاريخ الماساوي للعراق

مرحلة من انها اختلفت فيها الاولويات في العمل وتشابهت المهمات الرئيسية، وكانت الخصوصيات متطابقة لحد كبير بين السلطات ومتشابهة وثابتة في جيمع المراحل، بسبب الاصرار والتثبيت في الحكم المستندعلى المركزية والتهميش ما يخص الاطراف وما يحتويه المجتمع  من المكونات المختلفة، مهما اختلفت مسميات الدولة من الملكية الى الجمهورية، الا ان التطبيق العملي للنظام السياسي العام والاهداف العامة كانت متشبهة في جميع المراحل التاريخية، وهذا ما يثبت ان المباديء الاساسية والاعمدة والمرتكزات كانت مبنية على الخطا لانها لم تجلب للشعب العراقي في النهاية غير الويلات والمآسي المتكررة، ولم تساعده على تنظيمه وترتيب اموره وتطوره، ولم يحس الفرد العراقي في اية مرحلة بالمواطنة الحقيقية وبوجود الافاق المضيئة لتقدمه وتنمية وطنه وكانه عاش في الظلام وفي ظل انعدام الحرية والديموقراطية الحقيقية. وما فرض فوقيا ومركزيا من قبل السلطات المتعاقبة وما عملت على ان تبني العراق عليه هو من اجل فرض كيانه المعلٌب والمصنوع من عقليات معدودة في من كافة جوانبه ومحاولتها لفرض النظام بالقوة بعيدا عن الاقتناع والايمان بالوطن والوطنية النابع من الجوهر الفكري العقيدي الصحيح، فجلب معها الضيم للعراقيين، وهو نتيجة طبيعية لاتباع المركزية القحة المفروضة فوقيا دون ارادة الاكثرية، وهي المعبرة عن الهوية الوحيدة الرؤيا والنظر والمضمون  التعبير. وعلى الرغم من استخجام القوة بجميع اشكالها الا ان الكيان العراقي  المتعدد الجوانب لم يكتمل طيل اكثر من ثمانين عاما والذي كان من المفروض ان يكتمل ذاتيا .

 

المرحلة الحالية بعد سقوط اعتى دكتاتورية، فان الاوضاع غير مستقرة لاسبابها المختلفة، من توارث العقليات والترسبات التي وفرتها لنا المراحل السابقة المستندة على المركزية والاستعباد والاستعلاء، الى اصدار الاوامر الفوقية دون اي اعتبار للاختلافات والامنيات ومصالح الفئات والمكونات. والحالة الانية طبيعية ان قرانا الواقع وتاريخ العراق واستمرار الانظمة السياسية على ارتكاب الاخطاء المتكررة من الجوانب الفكرية العقيدية وطرق تنظيم الامور ومنظومة النظام السياسي ومحاولتها فرض هوية معينة على العراق بعيدا عن تقييم الاوضاع الاجتماعية والسياسية العامة وما تتمتع بها المكونات المختلفة للشعب العراقي الموزائيكي التركيب، وما يجري في هذا الزمن لا يمكن محوه بين ليلة وضحاها، وانما المخلفات التي تركتها الانظمة السابقة وبالاخص النظام الدكتاتوري لا يمكن تلافيها بسهولة في فترة قياسية وفي ظل الظروف الدولية والاقليمية والداخلية والعقلية الحالية الشائبة والتي تؤثر عليها جهات متعددة عدا ما ابقاها لنا النظام البعثي واذياله. وما اتسم به الفرد العراقي هو احساسه بالاغتراب المستمر منذ نشوء الدولة العراقية واختلاف منحنيات المستوى الثقافي العام للشعب وعدم ترسيخ الديموقراطية والقيم والمباديء العامة لها في ظل المركزية المفرطة المؤدية في اكثر الاحيان الى الدكتاتورية باشكالها المختلفة، وفي جو سيطر عليه استعلاء مكون واحد على الاخرين وفي ظل وجود درحات متفوتة ومتباينة للمواطنة بين افراد الشعب، وهذا ما جلب الحالات غير الصحية في تصرفات وتعاملات المكونات والمواطنين مع بعضهم وسيطرة الافكار الضيقة على عقلياتهم وترجموها الى الواقع بحذافيرها، مما نتج ما زادت الطين بلة. ان ادعاء احد الاطراف في ما يؤمن به هو لصالح الجميع وتصرفه وتعامله مع العراق على انه صاحب الملك والباقون هم الرعية دون توفر ادنى مستوى للمساواة في ظل المركزية، مستغلا بقائه في السلطة لسنين عجاف على الشعب وما وقعت على كاهله من الماسي في ظل المركزية، وفرض الحكم على مختلف المكونات بالحديد والنار دون استرضاء، لم يخلف ذلك سوى الدمار والخراب. ولم يكتمل بناء الدولة العراقية طيل هذه العقود لعدم صحة اساس ما بنيت عليه الدولة وسيطرة فئة دون اخرى وهي التي اعتبرت نفسها صاحبة الدولة والسلطة فلم يبق اي مجال للصراع على السلطة او التنافس على بناء الدولة المدنية الحديثة التعددية الديموقراطية، كما بحدث الان رغم الشوائب، بل كانت الدولة تعيش تحت الاحكام العرفية باستمرار وان لم تعلن الحكومة ذلك، وكان المجتمع مقسم الى مواطنين من الدرجات المختلفة المتسلسلة، ولهذا لم يهضم بعض الفئات حتى اليوم ما يراه من اشتراك جميع الفئات في السلطة والحكم وكانه ملكه وسرق منه بالاكراه وقسرا .

 

بمعنى اخر، لو ظن احد ان المشاكل المستعصية نتيجة عدم فرض المركزية فانه مخطيء لحد النخاع، لا بل العكس صحيح تمام، وان المشاكل التي فرضت نفسها على الساحة نتيجة طبيعية للافرازات السلبية المتراكمة من فرض المركزية بالقوة الغاشمة دون اقتناع المكونات وفي غياب الوعي العام والمطالب الحقيقية من قبلهم.

 

اننا لو قيمنا الواقع الاجتماعي العام وما يتسم به المجتمع من الصفات ووضحنا مزاجه وقناعاته وايمانه ومدى وعيه السياسي العام، لا يمكن ان نصفه بانه يعيش وهو مدرك لما يمسه ويخصه وما يمكن ان تبنى عليه الدولة وما يجب ان تكون هويته، الا ان خطا المركزية في الحكم وسلبياتها المتراكمة تفرض عليه عدم العودة الى المربع الاول في بناء الدولة العراقية الحديثة، وما يجري له بعيدا عن ارادة مكونتاه المتعددة، وهذا ما ادى الى الصراعات المتشددة والمتطرفة الدموية بعيدا عن العقلانية المسالمة، وهذه نتيجة طبيعية لتراكم الاخطاء والخلل في البنية العرافية منذ تاسيسه، وليست بافرازات الظرف الطاريء ابدا. ان انعدام بناء الدولة الشرعية الجديثة المستندة على التمدن والحداثة والهوية الوطنية  المحكومة بقوة القانون والدستور نتيجة المركزية المفرطة التي فرضتها الدكتاتورية وبدرجات اخف في السلطات التي سبقتها، والاستناد على المركزية في بلد يتكون شعبه من مكونات مختلفة ومجتمع موزائيكي التركيب والبنية، ومختلف الجوهر والمظهر فلم يثمر الا الصراع الدموي والاحتراب والتناقضات والتخلف في النهاية.

 

الصحيح، ان الشعب وبالاخص المخضوعين لقرارات وقوانين السلطة الجائرة خلال العقود المنصرمة اتسمت بصفات اجتماعية لم تكن سائدة في العقود التي سبقتها من التملق والانتهازية ومحاربة القريبين والابتعاد عن الاعراف الاجتماعية والتقاليد والعادات من اجل المصالح الذاتية،  وما انوجدت من الوشاية والاعمال الكيدية التي كانت من بنات النظام الدكتاتوري حتى بين ابناء العائلة الواحدة، وكانت هذه الممارسات المتشددة ناتجة من الانانية وحب الذات للقيادات العراقية التي كانت اخلاقياتهم نابعة من صفات قئة معينة واحدة، وكان الرجل الاول مسيطر على فكر وذهنية الفرد العراقي بدلا مما تتطلبه الدولة وما تحويها من السمات، وهذا لم يحل بمركزية منتجة لنفس الحالة استنادا على الصفات التي يتسم به الشعب، والمطالبة بمحاولة الجهات كافة من التخلص منها،و مما اكتسبه خلال العقود السابقة، لا بل المركزية ازدادت العلات واختلقت الاجواء المؤدية الى العودة الى العتف  والاغتراب وتضييق الحريات وابعاد الديموقراطية الحقيقية في طريق الحكم والعودة الى الدكتاتورية مهما كانت نوعها، اي دكتاتورية فئة او مذهب او عرق او الاكثرية او دكتاتورية المظلوم امام الظالم، وسيعود الانسان العراقي تابعا مخنوعا لكاريزما الشخص الاول وعبادته بعيدا عن بناء الدولة الحديثة الحقيقية.

 

لم يكن الاقتناع الكامل باحقاق الحق وتمتع كافة الجهات به وبما توفره الدولة الحقيقية للمواطن الكامل المواصفات حجر عثرة في بناء البلد في اي يوم كان، والهوية الخاصة لكل دولة هي التي تفرض نوع النظام وكيفية الحكم والجغرافية السياسية وطبيعة الحكم ومكوناته وثقافته العامة المختلفة وما تتمتع بها الفئات المتنوعة للشعب العراقي من الدواعم الرئيسية لبقاء الدولة حرة ديموقراطية مؤمنة لحقوق كافة المواطنين بالتساوي .

 

لو تكلمنا بكل صراحة ووضوح، ان الدولة العراقية ومنذ نشوئها بدايات القرن الماضي من قبل البرطانيا العظمى، والتي انبثقت بارادة خارجية دون قناعة وارادة المكونات الاساسية للشعب العراقي جميعا في ظل ظروف معروفة من النواحي الثقافية الاجتماعية السياسية، وكما هو المعلوم ما يبنى على الخطا فهو الخطا وينتج الخلل في البنية التي يكونها، وعندما يصر اي طرف على ان العراق الحديث مبني على الخطا فان اساس الدولة اتية من الخطا، فيجب على الجميع الاعتراف وتصحيح المسار مهما كلف الامر.

 

مكونات الشعب العراقي كما خلقها الله هم الكورد والشيعة والسنة والاخرين مهما تملص البعض، يمتلكون من الصفات المختلفة ولهم تاريخهم وطبيعتهم الاجتماعية وسماتهم المميزة وكانت هذه المكونات متكاملة ولهم لغتهم وارضهم وعاداتهم وتقاليدهم قبل انشاء الدولة العراقية من قبل بريطانيا العظمى في حينه.

 

اليوم على الجميع الاعتراف الكامل بما يتطلبه الواقع العراقي الجديد وما يفرضه المستقبل الصحيح للعراق، لكي يتمكن الجميع من المشاركة في بناء العراق بشكله الصحيح المتكامل وباسترضاء الجميع دون فرض اي شرط من اي طرف او مكون كان، لاعادة الحقوق والنظام الصحيح المتوافق الى جميع اصحابها وعودة النظام العراقي المترسخ على اساس قوي متكامل مبنى من جميع المكونات الى نصابه الصحيح، ولا يتم ذلك الا بعقليات متفتحة قابلة لموقف وراي الاخر وضامنة لحقوقه ومؤمنة بكيانه ومواطنته وعدم تسقيطه،و متسمة بروح التعايش والصراحة والتعاون، ومبعدة لصفة الاستعلاء التي اتسم بها فئة معينة دون اخرى لازالت الى اليوم تحن للماضي وما كان فيه، وقابلة للواقع الجديد بعيد عن الانانية والانتهازية.

 

اذا تقبلت هذه الاطراف العراق الجديد ومتطلباته ونزل كل منهم من عرش تخيلاته وما يجب ان يكون كل شي تحت سيطرته، والتي ترسخت في عقلياته تسمية الاخر بكلمات نابية، ستكون الطريق مفتوحا وامنا لبناء الدولة العراقية الفدرالية الديموقارطية الجديدة الضامنة لحقوق المواطنة رغم كل العوائق، والادعائات الباطلة تكمن وراء مطالبة البعض المركزية لتحقيق ما فاتته من الملذات التي استحوذت عليها خلال القرون المنصرمة، وهناك اقاليم قطعت اشواطا(رغم ممانعة البعض) في الديموقراطية والتقدم وتجسيد حقوق الانسان، ولم يعد الى الوراء، وهو الجزء الحيوي في ارساء الديموقراطية والفدرالية والحرية في العراق استنادا على القانون والدستور وما تتطلبه الحداثة والنوير والتقدم وما يتطلبه التمدن والعصرنة في ظل النظام العالمي الذي لا يمكن ان تغطى فيه اية جريمة او الظلمات لتُسحق الشعوب كما كان في السابق، ويجب ان يعطى لكل ذي حق حقه بعد بروز الارادة السليمة الحية، ومكونات العراق كافة( ولم نقل فئة واحدة كالاخرين) لهم تاريخ هائل ومليء بالمفاخر ولهم الحصة الكاملة الوافرة  في نشر الثقافة الكونية العامة، ولم يعد بعد اليوم من يفرض تصوراته على الاخرين، وليست هناك قوة هامشية واخرى رئيسية التي هي من صناعة العقلية الدكتاتورية وموروثاتها، والسلطة الاتحادية هي التي تفرض نفسها والهوية ستفرضها كافة مكونات المجتمع العراقي،  والتاريخ سيستمر ولابد للعقليات المستندة على عروش الماضي ان تعود الى رشدها، واولوية الجميع هو ترسيخ النظام الفدرالي الدديموقراطي التعددي، ولم يبق للمتعصبين المحاربين للنظام والدستور الا الخذلان والندم.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1219 الخميس 05/11/2009)

 

 

 

في المثقف اليوم