أقلام حرة

المعلمة

 والمدراء العامين للتربية في عموم العراق ولكل المعلمين والمدرسين العراقيين عسى أن يتعلموا منها شيئا مفيدا يؤسسون بناء عليه نظاما تعليميا جديدا بعيد عن الطرق البدائية التي لا زال العمل بها جاريا منذ أن تم بناء أول مدرسة في العراق ولحد هذا التاريخ، والتي رغم بدائيتها لم تسلم من التخريب والتدمير والتبديل والإلغاء حتى باتت العملية التربوية برمتها لا ترقى إلى مستوى الأسلوب الملائي  الذي كان معمولا به أيام العثمانيين، وتحولت مدارسنا بموجبه إلى أدوات تخريبية أكثر منها مراكز بنائية ولاسيما بعد التخريب المتعمد الذي أوقعه النظام ألبعثي بمجمل العملية التربوية في العراق والذي لم نعمل على تغييره منذ التغيير في 2003 ولغاية هذا التاريخ.

فمن المثير للجدل أن العملية التربوية لم تحض بعد التغيير بالاهتمام الكافي رغم تخلفها وافتقارها للكثير من المستلزمات الضرورية، بل فقدت بعض الميزات التي كانت تتوفر لها في الأزمان الماضية، حيث كثر عدد مدارس الطين في المناطق الجنوبية، وتزايد عدد الطلاب في الصف الواحد فوق المعدل المسموح به، وحتى عمليات الترميم التي أجريت على بعض المدارس تعرضت بسبب الفساد المالي والإداري وفشل مواد البناء التي يستوردها القطاع الخاص بالفحص ألمختبري إلى كثير من التشويه الذي ينعكس سلبا على مستوى الطالب العلمي والنفسي.

إن العراق الجديد بحاجة ماسة لبناء مراكز تربوية تقوم على أسس علمية تتساوق مع ما وصلت إليه في الغرب وفي الكثير من الدول المجاورة لنا، ونحن لا نريد التحدث عن كل هذه الحاجات ولكننا نريد التلميح إلى واحدة من الحاجات الضرورية في هذه العملية التجديدية أوحت بها هذه القصة الرائعة وأقصد بها ضرورة تنظيم سجل خاص للطالب منذ مرحلة الروضة ولحين تخرجه من المرحلة الثانوية تدرج فيه المعلومات الشخصية الحقيقية  التي تتيح لإدارة المدرسة وللمعلم معرفة التاريخ العائلي والطبي والنفسي والعلمي للطالب معرفة حقيقية مستقاة من مصادر موثوقة. والقصة الواقعية التي أريد إهدائها لكل المسئولين عن العملية التربوية في العراق تتحدث عن (تيدي ستودارد) أحد أشهر الأطباء العالميين والذي تمت تسمية أحد أهم الأجنحة في مستشفى (ميثوددست)  بولاية (أيوا)  في الولايات المتحدة الأمريكية بإسمه وهو مركز (ستودارد) لعلاج السرطان الذي يعد من أفضل مراكز العلاج  في الولايات المتحدة الأمريكية كلها.

{{حين وقفت معلمة الصف الخامس في أول يوم تستأنف فيه الدراسة، نظرت لتلاميذها وقالت: إنني أحبكم جميعاً. هكذا كما يفعل جميع المعلمين والمعلمات، ولكنها في داخلها استثنت تلميذاً كان يجلس في الصف الأمامي، يدعى تيدي ستودارد  درسته في العام السابق أيضا

  لقد راقبت السيدة تومسون الطفل تيدي خلال العام السابق، ولاحظت أنه لا يلعب مع بقية الأطفال،  وملابسه دائماً متسخة، بالإضافة إلى أنه يبدو شخصاً غير مبهج، وقد بلغ الأمر أنها كانت تجد متعة في تصحيح أوراقه بقلم أحمر عريض الخط، ثم تكتب عبارة "راسب" في أعلى تلك الأوراق.                                                       

وفي هذه المدرسة كان يطلب من المعلمين مراجعة السجلات الدراسية السابقة لكل تلميذ، فكانت تضع سجل الدرجات الخاص بتيدي في النهاية ثم لا تطلع عليه من شدة امتعاضها منه. ولكنها بينما كانت تراجع ملفه في هذا العام عن طريق الصدفة فوجئت بشيء ما!!

لقد كتب معلم تيدي في الصف الأول الابتدائي ما يلي: "تيدي طفل ذكي يتمتع بروح مرحة. إنه يؤدي عمله بعناية واهتمام، وبطريقة منظمة، كما أنه يتمتع بدماثة الأخلاق".

 وكتب عنه معلمه في الصف الثاني: "تيدي تلميذ نجيب، ومحبوب لدى زملائه في الصف، ولكنه منزعج وقلق بسبب إصابة والدته بمرض عضال، مما جعل الحياة في المنزل تسودها المعاناة والمشقة والتعب".

أما معلمه في الصف الثالث فقد كتب عنه: "لقد كان لوفاة أمه وقعا صعبا عليه.. لقد حاول الاجتهاد، وبذل أقصى ما يملك من جهود، ولكن والده لم يكن مهتماً، والحياة في منزله سرعان ما ستؤثر عليه إن لم تتخذ بعض الإجراءات".

بينما كتب معلمه في الصف الرابع: "تيدي تلميذ منطو على نفسه، ولا يبدي الكثير من الرغبة في الدراسة، وليس لديه الكثير من الأصدقاء، وفي بعض الأحيان ينام أثناء الدرس".

وهنا أدركت السيدة تومسون المشكلة، فشعرت بالخجل والاستحياء من نفسها على ما بدر منها، وقد تأزم موقفها إلى الأسوأ عندما أحضر لها تلاميذها هدايا عيد الميلاد ملفوفة بأشرطة جميلة وورق براق، باستثناء تيدي. فقد كانت هديته ملفوفة بسماجة وعدم انتظام، بورق داكن اللون، مأخوذ من الأكياس التي توضع فيها البقالة، تألمت السيدة تومسون وهي تفتح هدية تيدي، وانفجر بعض التلاميذ بالضحك عندما وجدت فيها عقداً مؤلفاً من ماسات مزيفة ناقصة الأحجار، وقارورة عطر ليس فيها إلا الربع فقط..... ولكن سرعان ما كف التلاميذ عن الضحك عندما عبَّرت السيدة تومسون عن إعجابها الشديد بذلك العقد ثم لبسته ووضعت قطرات من العطر على معصمها. لم يذهب تيدي بعد الدراسة إلى منزله في ذلك اليوم. بل انتظر قليلاً من الوقت ليقابل السيدة تومسون ويقول لها: إن رائحتك اليوم مثل رائحة والدتي! !

وعندما غادر التلاميذ المدرسة، انفجرت السيدة تومسون بالبكاء لأن تيدي أحضر لها زجاجة العطر التي كانت والدته تستعملها، ووجد في معلمته رائحة أمه الراحلة!، ومنذ ذلك اليوم توقفت عن تدريس القراءة، والكتابة، والحساب، وبدأت بتدريس الأطفال المواد كافة "معلمة فصل"، وأولت اهتماماً خاصاً لتيدي وأغدقت عليه الكثير من العطف والحب، فبدأ  يستعيد نشاطه، وكلما شجعته كانت استجابته أسرع، وفي نهاية السنة الدراسية كان تيدي من أكثر التلاميذ تميزاً في الفصل، وأبرزهم ذكاء، وأصبح أحد التلاميذ المدللين عندها.

وبعد مضي عام وجدت السيدة تومسون مذكرة عند بابها من تيدي، يقول لها فيها: "إنك أفضل معلمة قابلها في حياتي".

مضت ست سنوات دون أن تتلقى أي مذكرة أخرى منه. ثم جاءتها مذكرة أخرى يقول  لها فيها أنه أكمل المرحلة الثانوية، وأحرز المرتبة الثالثة في فصله، وأنها حتى الآن لا زالت تحتل مكانة أفضل معلمة قابلها طيلة حياته.

وبعد انقضاء أربع سنوات تلقت خطاباً آخر منه يقول فيه: "إن الأشياء أصبحت صعبة، وإنه مقيم في الكلية لا يبرحها، وإنه سوف يتخرج قريباً من الجامعة بدرجة الشرف الأولى، وأكد لها كذلك في هذه الرسالة أنها أفضل وأحب معلمة عنده حتى الآن".

وبعد أربع سنوات أخرى، تلقت خطاباً آخر منه، وفي هذه المرة أوضح لها أنه بعد أن حصل على درجة البكالوريوس، قرر أن يتقدم قليلاً في الدراسة، وأكد لها مرة أخرى أنها أفضل وأحب معلمة قابلته طوال حياته، ولكن هذه المرة كان اسمه طويلاً بعض الشيء، دكتور ثيودور إف. ستودارد!!

لم تتوقف القصة عند هذا الحد، لقد جاءها خطاب آخر منه في ذلك الربيع، يقول فيه: "إنه قابل فتاة، وأنه سوف يتزوجها، وكما سبق أن أخبرها بأن والده قد توفي قبل عامين، وطلب منها أن تأتي لتجلس مكان والدته في حفل زواجه، وقد وافقت على الحضور والعجيب في الأمر أنها  عندما حضرت الحفل كانت ترتدي العقد نفسه الذي أهداه لها في عيد الميلاد منذ سنوات طويلة  وكانت إحدى أحجاره لا تزال ناقصة، والأكثر من ذلك أنه تأكد من تعطّرها بالعطر نفسه الذي ذَكّرهُ بأمه في آخر عيد ميلاد!!

واحتضن كل منهما الآخر، وهمس (دكتور ستودارد) في أذن السيدة تومسون قائلاً لها، أشكرك على ثقتك  بي وأشكرك أجزل الشكر على أن جعلتني أشعر بأنني مهم، وأنني يمكن أن أكون مبرزاً ومتميزاً.

فردت عليه السيدة تومسون والدموع تترقرق بعينيها: أنت مخطئ يا عزيزي، أنت من علمني كيف أكون معلمة مبرزة ومتميزة وناجحة، لأني لم أكن أعرف كيف أعلِّم تلاميذي، حتى قابلتك.}

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1224 الثلاثاء 10/11/2009)

 

 

في المثقف اليوم