أقلام حرة

مرحبا ... لا مرحبا بالحوار

وقد وجد العالم أن الطريق الأسلم لتمتين أواصر الإنسانية في العالم  ممكن أن يأتي من الحوار بعد أن أثبتت الطرق الأخرى فشلها حيث كانت النتائج الكارثية للحربين العالميتين الأولى والثانية من أكبر الأدلة على فشل استخدام القوة في عصر لم يعد فيه وجودا للضعفاء بعد أن نجحت شركات صناعة الأسلحة بإتخام مستودعات الدول الفقيرة والغنية على السواء بأنواع  مختلفة من ألأسلحة والأعتدة الأكثر دمارا على مر التاريخ. وبعد أن ثبت أن هناك تباينا بين الأديان المختلفة  والحضارات المتنوعة ممكن أن يقود العالم إلى حافة الهاوية إذا ما أستغل لخلق نزاع مهما كان محدودا. وبعد أن أثبتت التجارب أن أصحاب كل حضارة وأتباع كل دين يعتقدون أنهم فقط على حق والآخر على باطل، أو في الأقل أنهم الأفضل. ومع أن هذه الحقيقة ليست وليدة الساعة حيث جاء عن الإمام جعفر الصادق كما يروي ذلك صاحب تحف العقول أنه قال: (ثلاث خلال يقول كل إنسان أنه على صواب منها: دينه الذي يعتقده، وهواه الذي يستعلي عليه، وتدبيره في أموره) إلا أن هذا التماهي يبدو اليوم أشد خطورة من أي عصر آخر، فمثل هذه الخصوصيات ممكن أن تكون سببا لحدوث توتر وخلاف يقود إلى صراع ونزاع وسلام غير مستقر كما يسميه المختصون في تحليل الصراع .

 

وفي مجال آخر أكبر وأكثر سعة من السابق عرف المختصون الحضارة بأنها مجموع معتقدات وأخلاق وسلوك شعب ما وهي بمجموعها تصبح أقرب للمدنية كلما اقتربت به نحو المعايير العلمية والمنطقية والعكس صحيح. بمعنى أنها تدخل مدخل الجزئيات الثلاث الأولى وبالتالي ممكن أن تكون سببا للنزاع مثل سابقتها.

 

أما على أرض الواقع فقد تسببت كل هذه الاختلافات بوقوع نزاعات تحولت إلى صراعات دموية  عانت منها البشرية طويلا لدرجة أنها بحثت في أفضل السبل وأنجعها لتتجنب حدوثها من جديد. وقد تفتقت الأذهان عن وسيلة قديمة جديدة اسمها (الحوار)  في محاولة لتقريب الأطراف من بعضها  ومن الموازين الأخلاقية والعقلية عسى أن ينجح ذلك في خلق فكر يقود إلى حياة أكثر أمنا وسلاما. فهل من الممكن حل مشاكل العالم العالقة بالحوار؟ قبل الإجابة على هذا السؤال من اللائق أن نعرف رأي اللغة العربية بمعنى الحوار لأن ذلك يقودنا لمعرفة الجواب.

 

ولغتنا العربية بما معهود فيها من تخصصية واحترافية أعطت للحوار معان وتفرعات يختص كل منها بحالة تتناسب وطريقة إدارة الحوار. وقد جاء في معجم مقاييس اللغة أن الحوار مأخوذ من الحور. وللحور معان ثلاث هي : اللون، والرجوع، ودوران الشيء. يطلق الحوار على ما يجري بين طرفين من سجال كلامي يسمع فيه كل طرف أجوبة لأسئلته ولذا قالت العرب عمن يعجز عن  الجواب: "لم يحر جوابا". أي لم يرد على السؤال. وفي تاج العروس أن الحوار يشمل: الاحتجاج، والجدال، و ألمراء، والمكابرة، والمناظرة.. ومعنى الاحتجاج :إقامة الحجة لإثبات المطلوب، والحجة هي القصد، بمعنى الرهان والدليل. أما إذا لم يكن للحوار موقفا محددا ودليلا ناهضا  فيسمى "جدالا" ومعناه الإتقان وشدة الخصومة. والجدال هو النقاش المتبادل الذي يحاول كل طرف فيه إثبات ادعائه وإبطال ادعاء الآخر. ومعنى ألمراء: الصلابة والشدة، ويأتي بمعنى الشك، ويطلق على كل جدال مقرون بالشك والريبة.أما المكابرة فهي النقاش بإنكار وعناد ورغبة في الغلبة وإنكار وجحد لحق الآخر.

 

هكذا فهم أجدادنا معنى الحوار، أما نحن فقد أحدثنا بمعانيه وصوره من التشويه ما يكفي ليمسخ كل معانيه ويبدل كل صوره ويحوله إلى وسيلة لسلب حق الآخر حتى بالحياة ولذا حدث بيننا ما حدث!!

 

لكننا بعد أن اصطدمنا برواسي شامخات تمنع نفاذنا إلى الجانب الآخر ودخولنا قرن التحضر وعصر نهاية التاريخ كما يسميه فوكوياما عدنا لنبحث عن معانيه التي نسيناها لنتكيء عليها ونتخذها وسيلة لإسكات الآخر وربما لنيل رضاه، ولذا جاهدنا بعد أحداث 11 أيلول لإظهار وجهنا الحواري للعالم بعد أن أوقفنا من قبل رؤيته على وجه المكابرة . ومع أن العالم تقبل منا هذا السعي سواء بنوايا حسنة أو نوايا سيئة مبيتة، وأن ذلك ساهم في تبييض صورة الإسلام المتهم برعاية الإرهاب وتسويقه، إلا أننا أوقعنا أنفسنا في مطبات  وحفر دفعت الآخرين لتوجيه النقد واللوم الشديد لنا والتشكيك بمصداقية برامجنا بسبب الازدواجية في عملنا. وعلى سبيل المثال لا الحصر موقف منظمة حقوق الإنسان ( هيومن رايتس وتش) من المملكة السعودية التي رعت ثلاثة مؤتمرات لحوار الأديان عقد الأول منها على أراضي المملكة والثاني في مدريد والثالث قي نيويورك متهمتها بالازدواجية من حيث عدم سعيها لفتح حوار داخلي مع  أطراف محلية تبدو أكثر استحقاقا من إجراء حوار عالمي. ومثال آخر حضور كل الأطراف المعنية لمؤتمرات الحوار الدولية وعدم سعيها الجاد والفعلي لعقد مؤتمر يتابع مجريات الحالة العراقية التي يتقاتل العراقيون في أفيائها ويستخدمون الأسلحة دون بارقة أمل لإجراء حوار سواء كان داخلي أو بتدخل من الأطراف التي ترعى المؤتمرات العالمية وحتى المؤتمر اليتيم الذي عقد برعاية السعودية لم يجد من يستمع لمقرراته التي بقيت حبرا على ورق. وقد رسخ ذلك حقيقة وجود الازدواجية في مواقفنا.

 

أما واقعا فقد أثبتت التجارب أن المسلمين يقفون من الحوار مواقف متباينة منها  الرافضة ومنها المحرمة ومنها المجاملة وقليلون منا يدركون أن الحوار البناء المتمدن البناء هو الطرق الأمثل لحل مشاكلنا البينية والسبيل الأوحد لدخولنا إلى دنيا التحضر والتمدن والمعايشة، وبناء عليه هناك قلة قليلة رحبت بالحوار ولكن الغالبية تصرخ بعالي صوتها: لا مرحبا بالحوار!!

 

إن حسمنا لموضوع هذه الازدواجية وترجيحنا الجانب الصحيح سيكون مفتاح دخولنا الحياة المجتمعية الدولية وسيكون له الأثر الكبير في حفظ ماء وجهنا. كما أن الفرز بين من يقول مرحبا ومن يقول لا مرحبا بات من ضرورات العصر وضرورات التمدن والتقدم والرقي.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1238 الخميس 26/11/2009)

 

 

 

في المثقف اليوم