تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

أقلام حرة

ديمقراطية بلا ديمقراطيين

ولا نأتي بجديد حين نقول انه من دون الحرية فأن ركب الحضارة يتوقف ولن تستطيع الامم ان تمضي في طريقها بالحياة....واعرف ان الحرية شراب لا طعم له دون عدل (وعندي كما يقول الكواكبي: ان البلية فقداننا للحرية... وما ادرانا ما الحرية، هي ما حرمنا معناه حتى نسيناه وحرم علينا حتى استوحشناه).

 

نعم اساس الحرية اختلاف العقول ولو وضع الناس على مثال عقل واحد لما كان للحرية معنى، وما دام الناس يختلفون في طبيعة تكوينهم والعقول التي في رؤوسهم فان الحرية ستظل ابدا مطلبا من مطالب البشرية، وعودا على بدء لا بد ان نقول: ان الديمقراطي هو ذلك الانسان الذي لايسحق روح الحرية اذ وجدت فحسب ولكن عليه ان لا يمنع ولادتها، واية ديمقراطية هذه التي يتسنم فيها هذا الديمقراطي او هذا السياسي او ذاك ليجلس في كرسيه المحمول على ظهور جهله وهو يعلم ان جهلهم وحده سيجعله مثار سخرية الناس.

 

واية ديمقراطية هذه التي تعطي الناس الحرية كل الحرية وتحرمهم من بعض العدل، واية ديمقراطية هذه التي تسلب الجميع كل شيء وتحجب عنهم العدل بصورة من صور الحرية الخادعة، واي ديمقراطي هذا الذي يتخندق بالطائفة والقبيلة والمذهب والقومية والمال والجاه ويدير ظهره لوطنه، واية ديمقراطية هذه التي تخضع للطائفة والعرق والفيدرالية وتدير ظهرها للديمقراطية الحقة بوصفها طريق العلاج.

 

وهنا تتجسد ماهية الديمقراطية في الارتقاء بالوعي السياسي لاستيعاب الشراكة واضفاء صفة حق الاخر على مجمل التحديات المجتمعية التي تواجهها الديمقراطية مثلما يصادرها الديمقراطيون، فضلا عن الشعور بالامتداد السياسي والاستعداد للمشاركة السياسية ومكوناتها من المعارف والقيم والاتجاهات والتي ترتبط ارتباطا معنويا بالسلوك السياسي ذي الصلة الوثيقة بالفكر الديمقراطي واتباع مفرداته في مختلف المشاركات في الشان العام للبلد، خاصة وان المطالبة بالديمقراطية، ليس الغرض منها الوصول الى السلطة فحسب بل لغرض ممارسة الديمقراطية وتوسيع مفهوم المواطنة نفسه لانه الشكل الاخر لسيادة الامة التي تجد ارتباطها يتحقق من خلال الديمقراطية، لكنه يتلاشى ويضمحل بفعل عدم وجود ديمقراطيين.

 

هل نذكر الاخرين ان الحرية بكل مسمياتها من حرية الفكر والعقيدة والرأي والعمل هي التي تطلق العنان للمجتمع وتفتح سريرة الوطنية الحق بلا تدجيل او محاباة او تمويه فلا يقول المرء شيئا وهو يعتقد خلافه، والحرية والديمقراطية التي نسعى لتوكيدها هي تلك الحرية التي يجهر فيها المواطن والفرد ويصح ان نطلق عليه الشعب الصادق والصريح والشجاع، اذ ان هناك علاقة ارتباطية جادة بين مدى مساحة الحرية للمواطنين وبين الممارسة الديمقراطية، فكلما زادت مساحة الحريات والممارسات الديمقراطية اضفت نوعا من الشرعية والمصداقية على حرية الراي والتعبير والممارسة الاعلامية الحرة في وسائل الاتصال والاعلام كافة، خاصة وان التقدم التقني والتكنولوجي له اثره على طبيعة العلاقات التي تربط بين كل من منتج الرسالة الاعلامية وموزعها والجمهور المستهدف، وندرك اهمية فقدان مثل هذا التواصل بعدم وجود ديمقراطي يتناغم مع متطلبات الديمقراطية ويحاول صناعة جيل ديمقراطي بعيد عن التجاذب والطمع واللهث وراء تحقيق المطامع الشخصية وطلب السلطة عندها لا يكون للديمقراطية والحرية مكان ملموس، اذ يتناسق مدى تطور الاداء الاعلامي بمدى انتهاج الديمقراطية اسلوبا للحياة وممارسة حقيقية، لان المجال الاعلامي لا يمكن ان يتطور الا بترسيخ دينامكي وتراكم منفتح للحريات الفردية والجماعية، ويمكن للمؤسسات الاعلامية ان تتحول نتيجة للديمقراطية الى سبب رئيس في اغناء سيرورة الديمقراطية بنقد اداء المؤسسات السياسية التي تروج لغير الديمقراطيين واسماع اصوات التعدد الاتية من المجتمع المدني، لان الاعلام سليل الديمقراطية وهو المكمل الحقيقي لتطوير الفعل الديمقراطي مثلما هو المصنع لعقول ديمقراطية تسجل لحظتها التاريخية في التعاطي مع المتغيرات بروح رياضية وليس بتنميط الديمقراطيين، وانتفاء الديمقراطية وتنميطها في ظل عدم وجود ديمقراطيين يرسخون مبادئها، كما ان التطور المعلوماتي والاتصالي له دور كبير في التحول الديمقراطي بين المواطنين وبعضهم ببعض او بينهم وبين حكوماتهم لايجادها نظاما تبادليا تشاركيا يساعد الافراد على ان يكونوا اكثر ايجابية وفعالية في محيط تعاملهم في مجتمعاتهم عبر حرية ابداء الرأي واحترام الرأي الاخر، وحرية الاختيار والمفاضلة في الانتخابات والتشريعات ذات الصلة باتخاذ القرارات المهمة في مجتمعاتهم لان الاعلام المتطور له فعاليته في ارساء دعائم الديمقراطية وابراز دور الديمقراطيين.

 

ان صناعة ديمقراطي يتطلب الوقوف على النسق القيمي لمفهوم الحرية، اذ ان الممارسة الديمقراطية تتجاوز الاشكال التنظيمية المرتبطة بها الى اعتبارات قيمية ومنظومة من المفاهيم والافكار، عادة ما يعبر عنها بالثقافة السياسية او الميول السياسية، حتى لا تصبح المؤسسات الديمقراطية نبتا مصطنعا لا تستند الى جذور في الواقع الاجتماعي يمكنها ان تصونه وتدعمه وتحميه فانه يمكن تدعيم الثقافة السياسية لدى المواطنين بغرس القيم السياسية واكسابهم اتجاهات ايجابية نحوها، ولكنها مع طالب السياسة تخضع لمتطلبات الجشع والاستغلال والازدواجية السياسية في التعامل مع القضايا المختلفة.

 

ان النسق الاجتماعي والمجتمعي وحاجاته، يتعارض مع الحاجات الوظيفية لافراده من الفاعلين المشاركين او مع التكامل والاندماج المستقر لطبيعة وتعامل الاخر، وان المتأمل في نسق الديمقراطية الذي نعيشه اليوم يدفعنا الى امعان النظر في النظرة الضيقة للسياسيين الذين يمكن وصفهم بانهم غير ديمقراطيين، كما ان انتهاج الديمقراطية اسلوبا يؤكد مشاركة سياسية حقيقية لافراد الشعب، تمكنهم من حكم انفسهم بانفسهم، ولكن تنتفي المشاركة السياسية الحقيقية لافراد الشعب، وتداول السلطة وبالتالي تنتفي الديمقراطية، لان السلطة ستكون هي سلطة الطبقة الحاكمة، سلطة الاقلية المسيطرة على الثروة وتملك القوة، تظل الاغلبية محرومة وتفتقد جوهر الديمقراطية حيث الحرية والعدالة والمساواة، محرومة من الحقوق الانسانية المشروعة بسبب ما يحدث من فقدان المجتمع الى ديمقراطيين.

 

لقد عكس خذلان المواطن في تلبية حاجاته بعد الاحتلال الامريكي للعراق عجز الادعاءات والشعارات التي اطلقها الديمقراطيون في مواجهة التحديات التي اعقبت الاحتلال  وتكريس فكرة الديمقراطية التي لا يتبناها الديمقراطيون، فرقاء الساحة السياسية وازدواجية السلوك السياسي لدى بعض القوى السياسية افقدهم بريق التمتع بالديمقراطية مثلما انساهم فكرة العيش بحرية، في ظل فقدان خطاب مواطنة عراقية متماسك ينطلق من الديمقراطية وحقوق الانسان بصرف النظر عن الولاءات الحزبية والطائفية، وما زالت تحبو للوصول الى النضج الديمقراطي، فضلا عن تهميش المواطنة في الدولة الذي يشكل عائقا ونقصا في كفاءة الديمقراطيين من خلال نزوع العقل السياسي الى رفض كل ما يتعلق بالراي الاخر، وهنا يتجسد مفهوم لا ديمقراطية حقيقية بلا ديمقراطيين يقودونها.

 

ان تدهور حالة الديمقراطيين وعدم وجود قواعد شعبية لهم وافتقارهم لبرامج فعالة ترتقي بالمجتمع جعلت الاغلبية صامتة، اذ ان صمتها ادانة لجميع المسميات السياسية التي غابت عن الهم العراقي والتي فشلت في الحفاظ على لحمة الجسد الواحد، وجهلها وضعف ادائها اتجاه التحديات التي تواجه البلد من مخاطر الارهاب واستهداف الكفاءات والعقول والابرياء وتوجيه التهم الجاهزة بعضهم للبعض الاخر مما ولد شعورا لدى المراقب بان الديمقراطية التي سحبتها عجلات الاحتلال الزاحفة لم يكن يعتليها ديمقراطيون.

 

ان اشاعة روح ثقافة الاستحواذ والمظلومية واصطياد الفرص خاصة تبعد السياسي ان يكون ديمقراطيا لان الثقافة المقاومة للتقدم هي وريثة تراث نزعة الحكم المطلق، حتى وان اخذت صورة الديمقراطية الشعبية التي تحدث عنها علماء الاجتماع والتي تلغي جميع الضوابط التشريعية والمؤسساتية وتقضي هذه النظرة بان سلطة الملك المطلقة مصدرها الشعب، وثمة رؤية اخرى تتحدد بالثقافة التقدمية، اذ تقضي بان السلطة السياسية موزعة بين قطاعات مختلفة مع سيادة القانون، والسؤال الى اي مدى يتصف هذا الافتراض بالدقة؟

 

ان الديمقراطية نظام اجتماعي يؤكد قيمة الفرد وكرامته الشخصية الانسانية على اساس مشاركة اعضاء بجماعة في ادارة شؤونها، ولعل ذلك يتجسد في فكر المعارضين للديمقراطية الذين يستندون الى حجج تتلخص بان الديمقراطية تضع مقاليد الحكم في ايدي عامة الشعب، وهي طبقة فوضوية جاهلة باساليب الحكم ولوجود تباين بين بعض الافراد من حيث الاستعداد الذهني ومستوى التعليم والثقافة والاهتمام بالقضايا السياسية، ويرون ان الديمقراطية معناها.. حكومة الجهلاء وغير الاكفاء.. وهي ابرزنقاط ضعف الحكومات الديمقراطية، بينما عليهم النظر الى   النقطة الابرز في مواطن القوة اذ يذهب انصار الحكم الديمقراطي الى ان الديمقراطية هي النظام الوحيد الذي يجعل الحكام خاضعين للمسؤولية امام الشعب، والذي يضمن تمتع المواطنين بحقوقهم المدنية وتامين مصالحهم الشخصية، لانها قائمة على اساس مبدأ العدل والمساواة في الحقوق والواجبات.

 

والديمقراطية والديمقراطيون في العراق وان شح اولئك الذين يؤمنون بان الديمقراطية بلا قانون ناقصة وان الديمقراطية  في بعض الاحيان تصبح خدعة ويجب ان نخاف عليها من غير الديمقراطيين، وتحديدا علينا ان نخاف على الديمقراطية من استبداد الحكام بالقوانين وتغييرها او تفسيرها او تاويل بعضها بحسب اهوائهم.. فالديمقراطية كما نعرف هو ان تستمع الاكثرية السياسية للاكثرية الشعبية وتتفاعل مع مطالبها لا ان تحجبها وعلينا ان نفرق بين الديمقراطية التي تتعامل مع الناس بحسب احسابهم وانسابهم ومذاهبهم وقبائلهم لان مثل هذه الديمقراطية نفعية.. فالديمقراطيون الحقيقيون يجب ان يعرفوا بان الديمقراطية ليست تكريسا لفكرة الزعامة ولا هي مساحة للاستثار بالمنصب، لان الزعامة والمنصب ليس الهدف، والذين يصرفون كل جهودهم لها يزيفون مبادئ الديمقراطية ويضعون لاهوتا للمنافع الشخصية، لان الذين اعتقدوا بغير ما تعتقد الجماعة وكأنهم زعماء الشيطان او وكلاؤه، لان الديمقراطيين الحقيقيين او الديمقراطيين الذين نريدهم اولاء الذين عرفوا مطالب الناس وحاجاتهم واعتقدوا بها وليس الذين صغرت نفوسهم لان الديمقراطية والديمقراطيون هم اولاء الذين لايحوزون على رضا الافضلية بالرشا والهبات.

 

ولا ديمقراطية بظل تغاضي الديمقراطيبن او انصافهم على الكثير من حالات الجوع والبطالة والفساد ونقص الخدمات، والديمقراطية لاتعني توفير امتيازات تتركز بيد ثلة من المظلومين سابقا والمستبدين لاحقا، والديمقراطية لا تعني سيادة مبدأ الغنائم والمكاسب وتوزيعها على المظلومين وهم قلة وتنسى فقراء الناس، والديمقراطيون هم اولاء الذين يقتنعون ان لا تصادم ولا صراع بين المذهب والطائفة والوطن، وبين العشيرة والوطن وبين المظلومية والوطن.

 

والديمقراطية التي نسعى اليها هي التي لا تلجئ الاخرين الى تاسيس قوانين تصطدم مع مفهوم الدولة لتنشئ بدلا عنها قوانين للطائفة والقومية والدين والقبيلة، بل هي التي تجعل من الاعراف والعادات والقيم الاجتماعية حاضنة لمفهوم الوطنية، والديمقراطيون الذين نرغب ونتمنى هم اولاء الذين لا يثأرون من المنصب ولا من الدولة ولا من السلطة ولا من الوطن، لان كل مشكلات الديمقراطية في العالم الثالث كان سببها هو ان المنصب يركب صاحبه وليس العكس... ايها السادة لا يكفي ان تكون الحرية مقررة في العراق في كتاباتنا واقوالنا وخطاباتنا وحواراتنا، بل يجب ان نعمل على ان تكون هي ديدن ممارستنا حكاما ومحكومين.

 

ايها السادة... ان الخراب الذي يعيشه العراق يكمن في جهل نسبة عظيمة من ساستنا وشعبنا بمفهوم الحرية وكان هذا الجهل سببا من الاسباب التي حالت دون الاستمتاع بالحرية والديمقراطية والتي كان العراقيون من بناة نظرياتها وعلى حكامنا في جميع مفاصل الدولة ان يعترفوا بان الديمقراطية هي التي تنتج ديمقراطيين يؤمنون بحرية الراي والقول والعقيدة والعمل وان يؤمنوا بالتداول السلمي ليس شعارا بل قولا لا ان يثأروا منه او يتصارعوا للثأر به.

 

(يقول المفكر جيفرسون أن افضل الحكومات في العالم هي اقلها حكما) ويضيف الفيلسوف جون ادمز بقوله لو راجعنا صفحات التاريخ لوجدنا الادلة الواضحة على ان الشعب حين يترك دون زاجر او رادع يصبح ظالما مستبدا وحشيا بربريا، وما بين منطق جيفرسون وادمز نستطيع ان نقول انه ليس صحيحا بان الانسان ما بين حرمانه من الحرية وممارسته لها مفطور على الشر، وان الحياة الطبيعية مجبولة بين الفوضى والنظام، وان الديمقراطية تبقى ناقصة بلا ديمقراطي حقيقي يحكم عبر صناديق الاقتراع ويتداول السلطة على وفق منطق الطبيعة والحياة المدنية ويرتقي المنصب وفق ارادة الشعب والقانون وان لا يثأر باسم الديمقراطية، اولئك الديمقراطيون الجدد الذين لايعرفون من الديمقراطية الا اسمها، وربما بسلوك اغلبيتهم سيجعل الجميع يديرون ظهرهم للديمقراطية منهجا وسلوكا في المجتمع العراقي المعاصر ويبكوا بعدها على اطلالها لانهم لم يفقهوا من مبادئ الديمقراطية الا حروفها. 

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1251 الاربعاء 09/12/2009)

 

 

في المثقف اليوم