أقلام حرة

الأهوار وسياسة فن الممكن

 "هي فن الممكن" .والسياسيون المحترفون في العالم كله يستفيدون من هذه القاعدة لتحقيق ما لا يمكن تحقيقه في ظروف العمل الطبيعية، ولذا تراهم يسخرون كل قواهم مدعومة بالإعلام والدعاية والقواعد الشعبية والشعارات البراقة لتضخيم حدث ما ورفعه أمام الأنظار رغم أنه قد لا يبدو واقعا على قدر كبير من الأهمية، وقد يلجأ ون إلى الكذب والخداع وربما يستغلون طيبة الطرف الآخر (المانح) وحتى حاجته لما يثبت به ويدعم جدية مشروعه للقائمين على تمويله سواء كانوا جهات حكومية أم أهلية، وهي عادة الجهات المانحة الدولية التي تتبنى تمويل مثل هذه المشاريع لأغراض إنسانية وسياسية واستخباراتية.

وعليه طالما نجح السياسيون في العالم بالحصول على مساعدات مالية ومعنوية كبيرة لبلدانهم بعد أن أقنعوا تلك الجهات بحججهم المدروسة بعناية ومكر سياسي عال لتبدوا متناغمة مع نوايا تلك المؤسسات والهيئات وتنال رضاهم وقبولهم  وموافقتهم على دعمها. وهو أمر لم نلمس له وجود في أجندات السياسيين العراقيين الذين يبدون على مستوى كبير من السذاجة وعاجزين كليا عن إجادة أي نوع من الفنون الإدارية، وبالتالي عاجزين عن توظيف هذه المنحة الطبيعية وتسخير فن الممكن السياسي لتحقيق فوائد مهما كانت محدودة، ولذا ترانا نخسر رهاناتنا غالبا رغم رجاحة حجتنا وصدق قضيتنا. ومن نماذج هذا الخسران موضوع جفاف  الأهوار العراقية ، تلك الهبة الإلهية نادرة الوجود التي باتت تحتضر وتقترب من الموت المؤكد بل ماتت أقسام كبيرة منها بعد أن قطعت شرايين حياتها دول الجوار العراقي تركيا وإيران وليس الاستكبار أو الاستعمار العالمي.

إن جفاف وتصحر الأهوار يعني تحرك أهلها نحو الداخل والقيام بهجرات جماعية إلى المدن القريبة بما يخل بميزان الحياة فيها سواء من حيث نقلهم لعادات وتقاليد الهور إلى مجتمع يحضى بقدر لا بأس به من التحضر والتمدن، أو إدخالهم لحيواناتهم إلى تلك المدن وراعيها في شوارعها وحدائقها وبساتينها مما يترك أثرا تدميريا على تلك المناطق إضافة إلى إخلال هذه الهجرة غير المنظمة بمعادلة النمو السكاني نتيجة تنامي الكثافة السكانية بشكل مفاجيء وغير طبيعي في مدن لها قدرة استيعاب محدود نتيجة تكوينها الجغرافي والديموغرافي، وفوق هذا وذاك تأثيرهم على نوع الخدمات في هذه المدن وهي بالأساس خدمات متدنية، وإرهاقهم للميزانيات المحلية وتحميلها كلفا إضافية ممكن أن توظف في إنجاز مشاريع خدمية لأهلها أو تؤثر على إنجاز المشاريع المخطط لها. ولما كان أغلب النازحين هم من العوائل الفقيرة فإنهم يلجأ ون عادة لبناء دور صغيرة متجاورة من الطين سرعان ما تنمو لتشكل قرى عشوائية تؤثر على التخطيط الأساس لتلك المدن.

وأهم اثر لتلك الهجرات أنها من ناحية تستلب حق شريحة مجتمعية ترتبط حياتها بالهور كما يرتبط السمك بالماء بعد أن عاشت فيه عبر التاريخ وألفت حياته وألف حياتهم. ومن ناحية أخرى تضر بالتنوع السكاني العراقي بما يفقده واحدة من خواصه التاريخية المهمة التي تركت بصمتها واضحة على تاريخ المنطقة. وهي منطقة حماية طبيعية طالما احتضنت بين حناياها الثوار وحمتهم من مطاردات الأنظمة الدموية وأنظمتها القمعية على مر التاريخ

إن هذه الهجرة الكبيرة التي تحتاج إلى دراسة تخصصية ومتابعة جادة لإيجاد الحلول الفورية  لها لأنها تؤكد على حقيقة الانهيار الاستيطاني الكبير الذي تعرضت له قرى تم بناؤها منذ عدة قرون حيث تفيد الإحصاءات الرسمية أن 44 قرية في البصرة والناصرية و36 قرية في النجف وبابل و24 في ميسان وواسط  هجرها سكانها كليا وهاجروا إلى المدن القريبة منهم وتحديدا إلى مراكز المحافظات.

ورغم كل النتائج الكارثية التي ترتبت على جفاف الأهوار ونزوح أهلها لم نسمع أو نرى أي برنامج أو متابعة لأي سياسي عراقي، أو لمجلس النواب العراقي أو لمجلس الرئاسة العراقي تبدي ولو اهتماما مصطنعا بهذه المسألة المصيرية.

لقد نظم أحد السياسيين الأمريكيين حملة لمكافحة الاحتباس الحراري قادته للحصول على جائزة نوبل بعد أن ساهمت جهوده في توعية المسئولين الدوليين لأهمية تنظيم انبعاث الغازات التي تؤثر على طبقة الأوزون وتساهم في زيادة الاحتباس لأن هناك في العالم اليوم كم كبير من المنظمات الدولية التي تهتم بحماية البيئة والتي هي على استعداد لتقديم كافة أنواع المساعدات في هذا الشأن، وكان بمقدور أي سياسي  عراقي استغلال هذه الخاصية والحصول على دعم دولي ومؤسساتي من خلال تنظيم حملة منسقة ومدعومة بالإعلام والدعاية لحماية الأهوار والحفاظ عليها سواء بمسمى الحفاظ على أنموذج بيئي فريد، أو حماية الحياة البرية والأنواع النادرة من الطيور المقيمة والمهاجرة،أ والحفاظ على منطقة مسطحات مائية عمرها آلاف السنين. فيثبتون من جهة للمواطن العراقي الذي انتخبهم وهو يحمل روحه على كفه أن لهم اهتمامات وطنية متنوعة وليس كما يتهم أعداؤهم، ويساهمون من جهة أخرى في إثبات اهتمامهم بالبيئة وحرصهم على الحياة الطبيعية وإجبار دول الجوار على جدولة توزيع مياه الأنهار التي نتشاطأ معهم بها بما يوفر كميات من الماء تساهم بالحفاظ على بقايا الأراضي الزراعية التي  تتعرض هي الأخرى للهجر بسبب شحة أو انعدام المصادر المائية، وتغذي الأهوار بكميات من المياه تبعد عنها خطر الموت والتصحر، بدل أن يظلوا مشغولين بالحراب الطائفي والركض خلف المناصب والمكتسبات الشخصية وزيادة الرواتب وتنوع الإيفادات ونقض قانون انتخابهم أو تأييده.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1257 الثلاثاء 15/12/2009)

 

 

في المثقف اليوم