أقلام حرة

هل المهرجانات تستنهض الثقافة العامة للمجتمع؟

امام بداية سليمة للثقافة الحقيقية هو خلط السياسة بالثقافة وسيطرتها شبه الكاملة عليها لاسباب عديدة منها ايديولوجية او تنظيمية بحتة او جهل عام بما تتطلبه الثقافة وجوهرها واستقلاليتها، ومن اجل استنهاض الشعب واستقامته وصحوته وقيامه من الكبوة ودفع المجتمع للعمل والحيوية والتغيير الدائم المطلوب واحداث التقدم في جميع المجالات دون استثناء، وهذا مربوط بشكل واضح بالخروج من الازمة الثقافية التي نحن فيه منذ مدة ليست بقليلة.

من يتمعن قليلا في الوضع القائم يتبادر الى ذهنه مجموعة من التساؤلات الهامة، والمخلص كل همه هو تجاوز هذا الواقع المرير والعبور بسلام نحو انبثاق بداية الخطوة الثقافية الصحيحة، ومنها؛ لماذا كل هذا الفراغ الذي تعيش فيه الثقافة بشكل عام والادب والفكر والمعرفة بشكل خاص ويدورون جميعا في الحلقة المفرغة، هل الحزب والايديولوجيا المسيطرة والسياسة المتبعة منذ عقود يمكن ان يحلوا محل المؤسسات الثقافية ويكوٌنوا مراكزا سياسية وثقافية في ان واحد، وهل تبنى المؤسسة الثقافية ومن ضمنها المثقف المنتج بمنح الجوائز الحزبية او الثقافية المدعومة من الجهات السياسية لاغراض اخرى، هل دعم الهيئات الثقافية والطبع والنشر التابع للاحزاب واغداقهم بالاموال والامكانيات والمكرمات والهدايا يدفع الى تاسيس وتوفير وبناء فضاء ثقافي صحي منتج ومهيج ومثير للعقول من اجل الخلق والابداع، وهل من الممكن ان تحل السياسة وما تحملها من الافكار والعقائد والشعارات والاهداف والايديولوجيا محل المؤسسات الثقافية وتنجح في اداء واجباتها المغايرة لها . كل هذه الاسئلة وغيرها تحتاج الى التمحص والتركيز في قراءة الواقع الثقافي من اجل تكثيف الجهود والعمل على بناء الركائز الثقافية الصحية للخروج من الازمة الخانقة التي وصلنا اليه من طمس الهوية الثقافية التي تعرضت له واستمرعقود الى ما وصلنا اليه ونحن الان وسط الوحل، وهذه ليست وليدة اليوم كما يعتقد البعض بل امتداد لما دابت السلطات السابقة عليه، واعتقد بعدما اشتدت الحال فنحن قريبون من الفرج، ولكن يجب ان تستهل البداية الصحيحة وهذه ما تحتاج الى تكاثف الجهود والتعاون لنجعل المرحلة بداية عصر ثقافي ناهض كما هو عصر سياسي جديد.

اذن البداية تكمن في العمل الجدي على بناء وسط صحي لخلق الحوار المنتج والمثمر وانتاج الوسط الواسع المنفتح لجميع الاختصاصات الثقافية من اجل تكوين وبناء نظرات ثقافية معرفية للحياة واحداث التغيير والالتزام باي شيء يضمن في جوهره ما يهم الحياة والمعرفة والمستوى الحضاري والانسانية والفكر والثقافة العامة غير المحدودة للمجتمع، وهذا عمل وواجب انساني وحضاري كبير للجميع قبل النخبة وقبل ان يكون واجبا ثقافيا بحتا. والقسط الاكبر منه يقع على عاتق المثقف بذاته وما يدركه من ايمانه بثقافته وفكره ويجب الا يكون بعيدا عن النقد والنقاش والحوار والتحليل والراي والمواقف الضرورية للمواضيع المختلفة لما هو فيه المجتمع والسلطة والظواهر والحوادث والحالات والمعرفة بشكل عام والتغييرات والمستوى الثقافي العام الذي نحن فيه، لكي لا يصنف ضمن الكسالى الموظفين في الدولة فقط ويكون تابعا لا خالقا .

اذن كل ما في الامر هو اعادة النظر من قبل المثقف في عمله وتصرفاته ومواقفه قبل بناء المؤسسات الثقافية المامولة من اجل خلع الثوب الذي خطه له السلطات المتتالية، وهذا احساس وشعور ذاتي نابع من الدوافع الثقافية التي يحملها المثقف قبل غيره، وليس بمسالة الجلسات والدواوين الثقافية واجراء المهرجانات المغرضة وتقديم الجوائز، لان جميع المثقفين يحتاجون الى ذلك سنويا لدفعهم نحو الابداع دون استثناء او ما تقام اليوم لمجموعة معينة دون اخرى ولاهداف مختلفة بعضه بعيدة جدا عن الثقافة والمثقف، والشواذ التي تحصل دائما من ما وراء هذه المهرجانات من الاحزاب والجهات السياسية والافكار والايديولوجيات المعينة واعمالهم، ومنهم من لا يحمل خلفية معرفية ثقافية عامة وواسعة ولم يتميزوا بابداعاتهم وبوجود بنى تحتية او فوقية لادارة تلك العملية المعقدة والتي يجب ان تكون مستقلة بحد ذاتها دون اي تدخل فكري او عقيدي او ايديولوجي من الاخر كما نشاهد في كافة المهرجانات لحد اليوم سوى كانت لاسباب ذاتي او موضوعية وان لم يعترف من يقدم عليها،  وما نشاهد من المهرجانات القليلة نسبيا لم تكن ورائها الا اغراض مخفية وتستوضح تلك من تقييم النتاجات المقدمة وصنع الكتاب والادباء والاسماء المعينين من اجل الاسم والشهرة فقط ليستفيدوا منه عقيديا وحزبيا وفكريا وسياسيا، ومن اجل اهداف ضيقة بعيدة عن الاهداف السامية التي يجب ان تحملها الثقافة، وهذا جهل بالثقافة او تزوير للثقافة الحقيقية المنشودة وبقصد. ان هذه الاوساط التي تهتم بهذه المواضيع في الوقت الحاضر يشبه ما يعمله هو بفتح الدواوين الاجتماعية والحزبية ولا تمت بمضمون واهداف المراكز الثقافية بصلة، لا بل يحتلون مساحات شاسعة من التخلف ويعيشون على هامش الحياة الحرة والعالم والتغييرات المعرفية والثقافية الحديثة والفكر الحداثوي والعمل المعرفي والثقافي الاصيل العام ايضا.

 الثقافة العامة المثمرة المامولة لم تنبثق بعيدا عن الاعلام الحر وفي وسط وارضية مناسبة متجسدة للتعبير عن الراي والمواقف وعدم الدوران في حلقات مفرغة كما تحصل البيوم، وهذا لا يتم بتوحيد النظرة والشمولية في العمل او نفي الاخر وتسقيطه كما حصل من قبل ولا بالانعزال ونفي ما موجود كما يحصل اليوم، بل الجميل في وجود الثقافات المختلفة والاهداف المتقاربة او البعيدة والافاق الواضحة، وهو كل ما يهم الانسان وسعادته قبل اي شيء اخر. اي الحرية بمعنى الكلمة لكافة المجالات وفي فضاء ثقافي واسع مفتوح وبعيدا عن الدواوين والمهرجانات المهرجة، او الاهمال وجعل كل ما يخص الثقافة في الهوامش، او فسح المجال الضيق وكما يحصل اليوم ويمنون به على المواطن على انه الحرية والديموقراطية وكأنه المكرمة. فحرية  التعبير ليست بسماح للكلام والنقاش  فقط او عدمه او الفوضى والقمع او المنح السخية من الاموال والهدايا، لا بل الحرية والديموقراطية الحقيقية هي في حرية التعبير من النظرات المختلفة للحياة وما فيها والاهتمام بما يطرح والاستجابة له والمتابعة لما ينتج والاعتراف باستقلالية المؤسسات والمراكز الثقافية كما هو الاهتمام والتثمين للمعرفة العامة للمجتع والنخبة، وتوجه نحو الانفتاح والحوار والاهتمام بالانسان والغد والنقد والشفافية والمسؤولية والعدالة الاجتماعية والمساواة والثقافة القانونية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية. ولا يتم كل ذلك الا بوجود فضاء ثقافي حر مستقل تجري فيه كافة العمليات لكافة الاختصاصات الثقافية المعرفية والعلمية وبوجود المؤسسات الثقافية الحرة بعيدا عن هيمنة السلطة او اية جهة او ايديولوجية معينة مهما كانت نوعها.

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1265 الاربعاء 23/12/2009)

 

 

في المثقف اليوم