أقلام حرة

ولدت الناقة ذئبا" كاسرا

وحضارة تلك الأرض، حين بدأت أقلامهم عبثها المر فيها منذ بشائر قرن الحروب والاحتلالات.... عشت وترعرعت تلك الزاوية المنسية من وطني وفيها تذوقت سحر الحروف الحلال  ولبيّت نداء الأكرم الذي أمر بـ (اقرأ) وعلم كل شيء بالقلم، فواظبت على القراءة والدرس وانشغلت بهما ولم أتعلم  في حينها – كما كان يفعل اقرأني- مهنة سوى فن الإمساك بالقلم وتطويعه. بدأت أتحسس لذة العلم المزوجة بالعوز ووجع الرأس. قرأت وداومت على القراءة بشكل اقرب ما يكون الى الجنون الخلاّق فقرأت كل ما وقعت عليه عيناي من شيء مكتوب حتى وصل الأمر الى التقاط قطع الصحف الممزقة والمرمية على ارض الشارع الوحيد الذي كان يشق صدر مدينتي  تلك الحائرة ما بين الريف والحضر..... كحيرة أبي حين كان يراني وقد تخلفت كثيرا عمن هم في عمري، ليس دراسيا"،  ولكن في معاونته في حمل وزر التعب الذي قوّس ظهره.

في مدينتي ذقت طعم المواطنة والانتماء وفهمت معنى الدين والتقاليد، و فيها بدأت أبجدية طريق الكتابة الوعر المحفوف بالمخاطر ولم آبه لتحذيرات رفاق الصبا لتقينهم بان الكتابة ( ما توكل خبز) في بلد لا يحترم الكلمة ويحظر عليها حرية التنفس حتى. وفي جامعتها غفوت على صوت كتبي وانين مبراتي ونزف دواتي ونهلت من علومها حتى ارتويت. في مدينتي  ختمت القرآن وتعلمت آداب الإسلام وروح المواطنة. ولكنها مواطنة كانت تختلف كليا عن تلك التي نقل اليّ معانيها السامية رسل الحرف والفكر والفلسفة والدين  والمنطق فما عرفته من  مواطنة لم يكن سوى تلك المفردة التي كان مفهومها السائد إن تكون مدينتي بقرة حلوب ومنجم للرجال وبستان حطب لديمومة نار الحروب التي أوقدها  الطاغية بتصرفاته الرعناء المتكررة .

رغم أن العيش في ظل الحروب وإرهاصاتها  قد  أخذ قسطا" من عمري واضطر عائلتي إلى النزوح أكثر من مرة الى المناطق المجاورة  إلا أنني لم أكن أبارح حدود بساتين نخيل (القرنة)  ولا عذب ماء دجلتها ولا حنيّة وطهارة ماء فراتها،  ولم أكن ممن حاصرتهم الهموم والأحزان فحالت بينهم وبين التعليم، ولا ممن أصابهم الإحباط وفقدان الأمل فاسلموا أمرهم لليأس وتوكلوا على الرجاء  ولم أكن ممن استهواهم الثراء السريع وركبوا موجه العاصف فخاضوا في حلاله وحرامه وهم يتشدقون بميكافيلي ومبدئه  (الغاية تبرر الوسيلة) على الرغم من جهلهم التام بأصول هذا المبدأ، ففي حين ( جاهد الصحب على درب الدنانير الوفيرة) .... فأنا ( كنت على درب الشهادات أجاهد)  وجاهد مثلي آخرون من أبناء هذه المدينة كل على طريقته، وقد وصل الجهاد لدى البعض منهم ذروته حين جاهدوا بالنفس والنفيس وجادوا  بنفوس طاهرة لاقت ربها وهي تشكوه اليه ظلما" أحاق بالبلاد والعباد.

بين هذا وذاك عشت مرارة ولوعة قبض الأصابع على الجمر فما بين خلاّن خلا الدهر منهم، وأصدقاء أفلت نجومهم في طواحين مسالخ الطاغية  وبين رفيقة درب ذاقت اليتم القسري و العاب طفولتها ما زالت بين طيات   ( شليل)  ثوبها المدرسي الذي امتلأ دموعا بدل الحلوى.... تلك الملاك الطاهر التي كانت توقد كل ليل جمعة ست وسبعين شمعة لاستذكار أكاليل غار عائلتها التي اختطفتها يد منون الطاغية المقبور وجلاوزة حزبه الذي عاث بأرض مدينتي خراب،  فاحرق زرعها ونسلها ثانية بعد انتفاضة عزّها التي أذنت (لفراجي) جديدة أن تخط خرائط منعرجات مستقبل الوطن صاحب الخريطة الكمثرية. صابرتها  وصابرتني وأعنتها وأعانتني وتحملت فرط رعونتي وتطرفي في حبي لهذا الوجع المسكون في دواخلي،  لحب هذا الوطن،  فلم يصبني الإحباط وفقدان الأمل من غد قد يغير وجه التاريخ ولابد من (حوبة) لكل الدماء الطاهرة التي سالت والأرواح البريئة التي أزهقت، وجراحات وانين مصائر الناس التي  أجبرت على التسلل الى مناف قسرية  ظلما" وعدوانا" . كنت امنّي النفس (وما أضيق العيش لولا فسحة الأمل) واسقي بذرة الصبر فيها بمياه بؤبؤ عيني واعلّق على أغصانها رقيتي التي ما فارقتني:

 ليسَ بـــــلد أحق عليك من بلد ..... خير البلاد من حملك.

ولان الله يمهل ولا يهمل،  ولدت ناقة صبرنا بعملية قيصرية تناوب عليها من هب ودب من أقوياء العالم و اشدّاءه  ونجحوا في إزالة ذلك الورم الخبيث المتربع على رحم  مقدرات بلادي  فجاءت البشرى التي حملت أريج نسيم الحرية .... وتنفست الصعداء فقد (تحقق الحلم بعد صبر مرير..... وبانت تباشيره في الدجى) ومنّينا النفس وعشّمنا العيون برؤية نور التغيير والحرية والبناء القادم مع من اكتووا بظلم الطاغية وذاقوا مرارة التعسف والتفرد ونهب المال والخيرات  وتسخيرها لخدمة أهداف حزب او جماعة معينة. لكن رجائنا قد خاب وأملنا قد تلاشى وتفرّق إخوة الأمس ورفاق درب النضال والتضحيات شيعا وأحزابا. فشا داء التعصب في أوساطهم وتجزءوا إلى طوائف وأحزاب وجماعات بحيث لا يتورع من ينضوي تحت لواء هذا الحزب او من ذاب  في ذلك التيار من الوقيعة فى الحزب الأخر، بالتفسيق تارة والتسقيط أخرى والتكفير ثالثة إلى أن ينطبق عليهم قول القائل:

 وليس غريبا ما نرى من تصارع ..... هو البغي لكن بالأسامي تجددا

وأصبح أحزابا تناحر بينها..... وتبدو بوجه الدين صفا واحدا

 

فبدل من لم شمل الأهل وضماد جرح الوطن ومد يد الأمل وإيقاد شموع الحب وحمل معاول البناء في يد  وزهور الرياحين  في اليد الأخرى لمن ذاقوا مرارات الفقد والترمل والعوز والقهر ولتغرّب، بدل" من ذلك كله انشغلوا بصولات معاركهم الجانبية وسادت الفرقة وغلبت المصالح الذاتية وساد مفهوم أنا والطوفان من بعدي وليذهب الآخرون الى الجحيم وكأنك يا بو زيد ما غزيت وكأن  تضحيات أبناء البلد الجسام كانت كمبيالات مؤجلة الدفع ليقبض ثمنها هؤلاء الذين تنكروا لجود أولي النفوس العظام.

 قرعت طبول التحذير ودقت أجراس التنبيه لفداحة ما يرتكبون من خطأ، حتى ملت المنابر وساحات الفكر وضاقت تعابير النقد والانتقاد والتقويم والتقزيم، وكلّت أيادي الإرشاد والتصويب من الإشارة الى مواقع الخلل، وباءت محاولات غسل درن النفوس بالفشل وناهزت أكوام الورق عنان السماء وملأ مداد الأقلام بحور الشكوى ولكن أذانهم  قد صمت وصحافهم قد رفعت فكنّا في وادي وكانوا في كوكب آخر......

 شَكَونا لهم أحزاب العراق ....... فعابوا علينا لحوم البقر

فكانوا كما قيلَ فيما مضىِ ........ أُريها السُهى وتريني القمرْ

فضاع الجمل بما حمل وظلت مدينتي عطشى تمد اكف الرجاء الى سراب ما زالت تحسبه ماءا"، ولم ينالها من خيرها وتضحيات أبنائها سوى دخان متصاعد من احتراق شمسها في أفق غمامات البترول المهدور يزيده سخاما" ولطاما" دخان نار صراعات أحزابها على هبرات موائد السلطة فيها.

آخر الكلام : في العام الجديد نسألك اللهم بركة تنشرها على ربوع الوطن لينعم بالخير والرخاء والأمن والأمان وليهنأ الجميع بوطن يفاخرون به الأمم وبنفوس اجتثّت منها أدران السوء.

 

صقر الحيدري

[email protected]

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1266 الخميس 24/12/2009)

 

 

في المثقف اليوم