أقلام حرة

أحمد راضي الشمري: معركة الموصل ومستقبل العراق

للمعارك، ضمن الحروب طبعا، اهمية كبرى في تاريخ الشعوب؛ فهي قد تصنع مستقبلا واعدا للامم والشعوب والدول وقد تؤدي الى تقسيمها اوإضعافها ايضا.

فعلى مرالتاريخ، حدثت معارك عديدة في مناطق جغرافية محدودة الا ان اثارها قد ترسم خرائطا سياسية او اقتصادية تفوق حجمها باضعاف المرات. ومنها معركة اليرموك في العصر القديم بين المسلمين والبيزنطيين والتي آذنت باحتلال المسلمين لبلاد الشام وماتلاها من توسع كبير بعد ذلك النصر. وكذلك معركة ستالينغراد بين الاتحاد السوفيتي من جهة والمانيا ودول المحور من جهة اخرى والتي كسرت شوكة الالمان كجيش لايقهر واضعفت قدرة الالمان على التوسع ومن ثم هزيمتهم لاحقا. ومثليهما العديد من المعارك قديما وحديثا كمعركة سايغون في فيتنام عام 1975.

واعتقد ان معركتي الموصل و حلب لهما من الاهمية مالهما؛ فكلا البلدين يقفان اليوم على مفترق طريق لايمكن لهما ان يعودا  الى الوراء لاحقا. فاما ان يمضيا بعزم وقوة الى الامام واما ان يتقسم البلدان وتتفتت وحدة اراضيهما الى دويلات صغيرة هنا وهناك.

ولمعركة الموصل في العراق اهمية كبرى لما لها من الخصوصيات التي سوف اتعرض لبعضها اذا وفقت لذلك.

1. الحقت مدينة الموصل بالعراق الحديث بعد تاسيسة على خلفية اتفاقية سايكس بيكو وهزيمة الامبراطورية العثمانية بعد اقتطاعها من تركيا آنذاك. وبهذا فان للمدينة اهمية تاريخية وجغرافية خصوصا بعد عودة الحس العثماني التوسعي لرئيس الوزراء التركي الحالي اردوغان. وقد تمثل هذا الحس بخطاباته العلنية في استرجاع المجد العثماني وحديثه عن الغبن في تقسيم تركيا عقيب هزيمتها في الحرب العالمية الاولى، وعدم رضاه على قادة تركيا آنذاك ومنهم أتاتورك مؤسس تركيا وابو الامة كما يعتبره الاتراك. وقد سبق تلك الخطابات العلنية ارسال اردوغان لبعض الوحدات العسكرية التركية الى داخل العراق والتي تتمركز اليوم على مشارف مدينة الموصل داخل محافظة نينوى.

ويترقب اردوغان بحذر وخبث شديدين مجريات الاحداث في معركة الموصل لكي يعزز من نفوذه داخل العراق وفقا لما ستؤول اليه نتائج المعركة. وقد تكون لديه مآرب اخرى تخص الاكراد لسنا هنا في صدد الحديث عنها. الا ان جغرافيا الموصل وتاريخها قد يضعان المدينة على شفى جرف هار اذا تدخل الاتراك في اي مرحلة من مراحل المعركة. ولايبدو "حاليا" ان لديهم الرغبة في المشاركة في المراحل الاولى من المعركة، الا انهم قد يتدخلون بعد ان تنجلي الغبرة وبعد ان تكون الاطراف الاخرى قد انهكت واستنفذت طاقتها القتالية في المعركة. ولايعني هذا ان خياراتهم او مخططاتهم هي فقط ذات طابع عسكري؛ بل قد يستخدمون قوتهم العسكرية للضغط والابتزاز من الحكومة المركزية والاكراد على حد سواء. ومن هنا تكمن حساسية معركة الموصل التي قد تتسبب في رسم خريطة جديدة للموصل تؤثر في بنيتها الديموغرافية والعرقية والدينية والطائفية الى الابد بعد ان يصبح التواجد التركي حقيقة لامناص عنها. ومن لايعتقد بذلك عليه ان ينظر الى الوجود الاسرائيلي في الضفة وغزة والجولان. وهو ما سيتسبب بزعزعة الامن والاستقرار في هذه المنطقة الحساسة وقد يجر الامر الى حرب بين اطراف عديدة تكون امريكا وروسيا من ابرزها بالاضافة الى العراق وسوريا وتركيا والاكراد وربما ايران.

ومما يعقد مشهد الاحداث في الموصل هو عدم وضوح الاتفاقات الامنية والستراتيجية للحكومة العراقية مع القوى العظمى ومنها امريكا وكذلك ضعف الجبهة الداخلية للحكومة وافتقارها للدعم الكافي وخصوصا من الاطراف الشيعية فضلا عن الاكراد والسنة. بينما تبدو التحالفات بين الاكراد وامريكا وتركيا اكثر قوة ووضوحا وهو ما قد يمنح خصوم الحكومة المركزية في بغداد كالاكراد وخصوم العراق كتركيا ورقة رابحة فيما لو تغيرت مجريات الاحداث عكس ما تشتهيه الحكومة المركزية 

2. تتميز الموصل بتركيبة سكانية معقدة الى حد كبير اذ يقطن المدينة المسلمون والمسيحيون والعرب والاكراد والتركمان والسنة والشيعة بالاضافة الى اقليات اخرى في المدينة وكذلك على اطرافها واقضيتها ونواحيها. وبعد اجتياح داعش للمدينة في حزيران 2014، لم يبق في المدينة الا الغالبية من العرب السنة بعد تهجير داعش لباقي المكونات.

وتشكل القوات المهاجمة اليوم في معركة الموصل غالبية ساحقة من الشيعة والاكراد. فالجيش النظامي العراقي المهاجم والذي تربو اعداده على الاربعين الفا يتكون في غالبيته من المكون الشيعي. تسانده قوات البيشمركة الكردية بعدد يقدر باربعة الاف مقاتل. هذا بالاضافة الى الحشد الشعبي الشيعي الذي قد يتدخل في المعركة وقد لايتدخل تبعا لتطورات المعركة وحاجة القيادة العسكرية للدعم والمناورة. كل هذه القوات ستقاتل ارهابيي داعش، وجميعهم من السنة وان كانو لايمثلون كل السنة، والذين تقدر اعدادهم بما لايقل عن اربعة الاف ولايزيد على سبعة الاف. اذا فمعركة الموصل ليست معركة تقليدية بين قوات حكومية وقوات متمردين؛ بل انها قد تنزلق الى ان تاخذ طابعا عرقيا او طائفيا تبعا لعوامل عديدة منها: سرعة المعركة، ومدى استعداد مقاتلي داعش للصمود، وحجم الخسائر التي سيلحقونها بالقوات العراقية والكردية. اذ ان كل هذه العوامل ستحدد طبيعة الرد وكيفيتيه ومدى القدرة على ضيط النفس والالتزام بالمهنبة العسكرية في القتال. ولا ادري اذا كانت القيادات العسكرية والسياسية قد اخذت بنظر الاعتبار هذه الامور الخطيرة وقدمت التدريب والتثقيف الكافي لمقاتليها لرسم الحدود العرقية والطائفية والالتزام بالقتال المهني عال المستوى من اجل ضمان عدم الانزلاق الى حرب عرقية او طائفية.

وعلينا ان لاننسى ماحصل في سيربرينيتشا عام 1994 في يوغسلافيا السابقة (البوسنة والهرسك) من مذابح ضد المدنيين ومن تطهير عرقي ادى في نهاية المطاف الى تقسيم البلاد الى دول ودويلات متناحرة.

3. تتقدم القوات الكردية الى الموصل من جهة الشرق والشمال الشرقي (معبر الخازر). وتقع ضمن هذا المحور كثير من المدن الصغيرة والقرى والقصبات واراض اخرى يدعي الاكراد انها اراض كردية قد تمت مصادرتها من الاكراد ابان حكم الرئيس صدام. وكانت هذه الاراضي قد اخذت عندما مارس صدام سياسة التعريب من اجل تضييق النفوذ والوجود الكردي في محافظات كركوك واربيل والموصل. وقد صنفت هذه الاراضي من قبل الامم المتحدة على اعتبار انها اراض "متنازع عليها" بين الاقليم والحكومة المركزية في بغداد. وهي تنتظر الحل عن طريق المفاوضات والتسويات السياسية بين الطرفين. الا ان الاكراد يعتبرون ان هذه الاراضي لاتقبل التفاوض وانهم لن يتخلوا عن اي ارض "متنازع عليها" للحكومة او لاهلها من غير الاكراد اذا تم تحريرها على ايديهم. اذ ان بعض الاراضي المتنازع عليها تسكنها غالبية مسيحية لم تعد تسكنها اليوم. وهاجر معظمهم خارج حدود الارض التي ولدوا فيها هم واباؤهم واجدادهم منذ الاف السنين. وقد لايستطيع هؤلاء من العودة الى اراضيهم ابدا وهو ما سينتج عنه تمدد كردي ليس على مستوى المساحة الادارية للاقليم، بل على مستوى التمدد العرقي للاكراد ايضا في هذه المناطق. وهو امر مشابه لسياسة التعريب التي مارسها صدام في حكمه والتي يكرهها الاكراد ويصمونها بسياسة التطهير العرقي.

ان تمسك الاكراد بهذه الاراضي المحررة من قبلهم والتي لاتعود للاقليم باعتبارها اراض "متنازع عليها"  قد يتسبب بنزاع بين الحكومة والاقليم بعد ان تنتهي معركة الموصل. فلو قدر ان العاملين الاوليين (الوجود التركي والمسالة العرقية والطائفية في معركة الموصل بين الطرفين) لم يظهرا الى سطح الخلافات كعاملين بارزين، فان استحواذ الاكراد على هذه الاراضي سينجم عنه هزة كبيرة لما سيتبع المعركة. وهو ما قد ينجم عنه ولادة جديدة للنزاع المسلح في هذه المناطق. وقد تدخل اطراف اخرى للنزاع منهم العرب السنة والتركمان، الذين يمثلون جزءا كبيرا من التركيبة السكانية داخل الموصل وخارجها كقضاء تلعفر،  وغيرهم ضد الاكراد مما سيزيد الوضع تعقيدا وخرابا.

4. لا يخفى على الكثير من المتابعين ان غالبية الضباط الكبار في الجيش العراقي السابق وضباط الامن والمخابرات وقادة الحرس الجمهوري هم من سكان مدينة الموصل. وقد شعر هؤلاء بالتهميش والاقصاء والازاحة بعد 2003. ولايخفى كذلك ان هناك الكثير من نواب البرلمان ممن يمثلون المدينة داخل مجلس النواب ممن يشاركون اولئك الضباط  بهذا الشعور بالتهميش والاقصاء والازاحة.  وهذا مايفسر عدم استقرار الموصل منذ ذلك الحين وهو ماقد يفسر ايضا سقوط المدينة الكبيرة لبضعة الاف من مقاتلي داعش. ولست هنا في صدد تبرير هذا الشعور اوالموافقة عليه او رفضه، ولكنني اتعامل معه كشعور فقط. فقد يقود هذا الشعور المستمر، بغض النظر عن التنازلات والامتيازات التي تقدمها الحكومة المركزية، الى رفض هذه الشرائح ان تعود الى جسد الوطن الام بعد التخلص من داعش وانتهاء معركة الموصل. مالم تكون الحكومة المركزية مستعدة للاستماع الى مخاوف هذه الشرائح وتكون مستعدة ايضا لطرح المبادرات التي من شانها ان تغري هؤلاء بان هناك امل ينتظرهم في احضان الوطن.  فقد تستطيع القوات العراقية والكردية المهاجمة، بعد وقت قصير قد لايتجاوز الشهرين، من ان تحرر المدينة من قبضة داعش. الا ان بقاء المدينة كجزء متماسك من ارض العراق المعاصر سيعتمد بشكل كبيروكبير جدا على مدى استعداد الحكومة المركزية لاستيعاب هذه الشرائح وتذويب الخلافات معها وازالة مالديها من شعور بالتهميش والاقصاء. ولا يتم ذلك الا عن طريق وضح الخطط الجريئة والمكلفة والاستعداد لقبول الحلول الوسطية التي ترضي الطرفين. وقد يتاثر هذا العامل كثيرا بالعوامل الثلاثة انفة الذكر سلبا او ايجابا.

5. تعتبر مدينة الموصل اخر قلاع تنظيم داعش الارهابي  واخر المدن لديه. فبسقوط المدينة وفقدانها يكون التنظيم قد انمحى عسكريا من ارض العراق وفقد قوته ووجوده ونفوذه. ومن هنا فان المرحلة الانتقالية الى مابعد التنظيم ستكون مرحلة مختلفة تماما بتحدياتها ومفاجآتها واستعداد الحكومة المركزية لها بما يتلائم واحتياجات تلك المرحلة. فمرحلة الحرب غير مرحلة البناء ومرحلة النزاع واللااستقرار هي غير مرحلة الهدوء النسبي. ولكل منهما رجالاتها وخططها ومواردها الخاصة بها. وقد تتطلب مرحلة الانتقال هذه تفكيرا مختلفا ومنهجا متباينا للعمل مع الخصوم والشركا سواء خارج البلاد او داخلها. وهذا مايضع الحكومة المركزية امام تحد كبير جدا في تصويب الرؤية لمعرفة الفرص الكامنة والاخطار المحيطة بمرحلة مابعد داعش . ولذلك فان على الحكومة المركزية ان تستعين بالخبرات الدولية في هذا الشان من اجل تحصيل واخذ المشورة اللازمة لكيفية الاستعداد لما بعد داعش، وان لايسمحوا ابدا بوجود اي ثغرة قد تنجم عنها مفاجآت لم تكن في الحسبان. فعامل الوقت في هذه المرحلة مهم جدا من اجل عدم اعطاء الشعور او الانطباع للخصوم والاعداء بوجود الفراغ وعدم الاستعداد.

ولكن الامل لايبدو مختفيا ايضا من المشهد العراقي؛ فلقد حدثت بعض التطورات والتغيرات على مسرح الاحداث السياسي في العراق قد تنبؤ بولادة فصل جديد من التعاون بين الاطراف المتنازعة منذ سقوط النظام بعد 2003 والى اليوم. فلا تبدو تلك المعارضة السنية الشديدة من السياسيين السنة ضد دخول الجيش العراقي، بغالبيته الشيعية، الى المناطق السنية والتي كانت معارضة ثابتة ومستمرة طيلة العشر سنوات الاخيرة. اذ ابدى معظم اولئك الساسة دعمهم لتوجه الجيش العراقي والبيشمركه الى تحرير الموصل باستثناء بعض الاصوات القليلة طبعا. كما ان اهالي الموصل قد سئموا القمع والاجرام الداعشي وباتوا ينتظرون يوم الخلاص بفارغ الصبر.

كما ان التنسيق عال المستوى بين الحكومة المركزية والاقليم الكردي قد ينبؤ بطي مرحلة طويلة من الشك وعدم الثقة بين الطرفين وولادة مرحلة مختلفة من التعاون والعمل المشترك، وان كان دون مستوى الطموح. فقد دخلت القوات العسكرية النظامية حدود الاقليم لاول مرة منذ اكثر من عشرة سنين ووطئت اراضيه تمهيدا للاجهاض على تنظيم داعش. ولهذا فان الاجواء وان كانت ملبدة بغيوم الحرب والنزاع والانقسام، الا ان هناك بوادر للامل والاستقرار يمكن البناء عليها اذا توفرت الظروف وتم العمل بجدية على استغلال الفرص. لان الفرص لاتاتي كما يشاع، بل تحتاج الى من يبحث عنها.

وعلى العموم فان معركة الموصل تعتبر معركة مصيرية بكل المقاييس سواء كانت سلبية ام ايجابية اذ انها ستحدد مصير العراق وتكتب مستقبله. فتبعا لما ستؤول اليه نتائج المعركة وتطورات الاحداث وكيفية جريان الامور وتفاعل العوامل انفة الذكر مع بعضها، كل ذلك سيشارك في صنع الخلطة النهائية لمصير البلد. فاما ان تتطور الاحداث بشكل سلبي وتتفاقم الامور فتؤدي الى نزاع طائفي او عرقي او سياسي ياتي على ماتبقى من اخضر او يابس في هذا البلد المحطم. واما ان تتحلى كل الاطراف بالحكمة وتصنع الفرصة التي من خلالها سيكون شكل العراق مختلفا عما الفناه طيلة السنين الطويلة الفائتة.

 

أحمد راضي الشمري - ملبورن 

 

في المثقف اليوم