أقلام حرة

الإنســانُ العـربـيّ.. المَــادّة والقِيمـة

alhusan bshodفي زحمة الأحداث المتراكبة التي يضج بها عالمُنا العربي منذ ثورتِه الأولى على الباب العالي التي فَضَّتْ عذرية اللُّحمة العربية، وجعلتْها مِزَقا يُرفرف على كل زُقاقٍ منها عَلَمٌ، ويُعزَف على كل بُرجٍ منها نشيد، والتي أورثتْنا سايكس بيكو ونزاعات حدودية وعِرقية وطائفية وقبلية لا تنتهي، وأضاعت منّا وعلينا سنواتٍ من العِلم والتنمية والنهضة والتقدم، وطمستْ كلَّ معالِم المجد التليد، حتى مِن الوعي الجمعي العربي والإنساني، وصار الإنسان العربي أرخص ما يكون.

دخلتْ الأمم ألفيتَها الثالثة، وقد ارتوتْ وتشبّعتْ بكل المنجزات السابقة، واستثمرتْها في الخَطْوِ نحو عوالمَ فكرية وعلمية وصناعية وثقافية أكثر انفتاحا واتساعا ورحابة؛ وأكثر سرعة أيضا، في تنافس محمومٍ لإحراز قصب السبق، سباقٌ يمضي بوتيرة متسارعة وبمتوالية هندسية لا نهائية، في حين؛ تَحُثُّ أمم أخرى الخُطى شيئا فشيئا، لِلَّحاق بركب الألفية، أو على الأقل تعقبَ آثارِها واقتفاء ظلِّها، والبقاءِ في نطاق الزمن وما يجري فيه من تحولات وتطورات متلاحقة، وما يتحقق فيه كل يوم من اكتشافات واختراعات وابتكارات علمِّية أشبه بالسِّحر، في حين تقبعُ أمم أخرى خارج الزمن، وتعيش حياة أخرى، لا تنسجم وروحَ العصرِ وسرعةَ تطورِه. والأمة العربية في ظروفها وواقعها الحالي، تعيش اليوم خارج الزمن، بعد أن كانت قبل قرون قليلة حاملةً لِمشعل الحضارة، ورُبّانةً لسفينة البشرية في كل فنٍّ وعلم. واليوم صار الإنسان العربي رخيصا جدا، بل وصار نعتا لكل نقيصة، فهو الأمية، وهو الجهل، وهو التخلف، وهو الرِّجعية، وهو الإرهاب، وهو العبد، …،. اليوم لم تعد هذه الأزقة التي يُسمونها أوطانا، سوى مرتعٍ ممتدٍّ للغرب؛ ومكبّ ضخم لكل سموم العالمِ ونِفاياته، مِمّا يُستهلَكُ ومِمَّا لا يُستهلك، وسوقٍ سوداءَ رائجةٍ، تارة باسم السوق الحرة، وتارة باسم العولمة، وتارة باسم التبادل التجاري، وأضحى الإنسان العربي مهووسا بالشراء والاستهلاك، وإشباع رغباتِه، وإرضاء نهمِه، فاستحالَ بذلك (ماركةً مسجلة) في الاستهلاك، ورقماً مربحا ورائجا في التبضّع. صحيحٌ أن الفروق الاجتماعية والاقتصادية بين الكيانات العربية متفاوتة ومتباينة إلى حد بعيد، ولكن القاسم المشترك بينها يبقى هو هو، الاستهلاك؛ ولا شيء غيرُه. إن كل الويلات والمآسي والآفات والهوان الذي يعيشه العالَم العربي؛ منذ ردحٍ بعيد من الزمن، وفي الوقت الذي بات العالم المتقدم عِلميا وصناعيا وفكريا، يُفكر الآن جدّيا في إمكانية إقامة رحالات ذهابٍ وإياب سياحية مِن وإلى كوكب المريخ والزهرة، مازال الإنسان العربي، بعضُهُ يحلم ببيت من إسمنتٍ بدلَ كوخ الصفيح، ويبتهج لقُربِ مَدِّ حَيِّه بقنوات الصرف الصحي، وينام مبتسما لقرب حصوله على بطاقة الاستشفاء في مدينة بلا مستشفى، أو بطاقة تموين في دولة تستورد كل شيء، ولا تنتج أي شيء، ويظل العربي الغني كذلك يَحلُم في هجر قصرِه الفخم إلى قصرٍ أفخمَ منه، واستبدال طائرتِه الجديدة بأخرى أحدَثَ منها، وتظل ثقافة الاستهلاك والانغماس في المادة؛ هي القاسمَ المشترك بين غنيِّنا وفقيرِنا. في غياب كامل لمشروع جادٍّ يبني الإنسان العربي بناءً صحيحا، ويمنحه حقوقه كاملة ويُحدد له واجباته، ويضعه على الطريق الصحيح والسبيل القويم الذي يوصل للتقدم العلمي والفكري والثقافي والتنموي.

إن المأساة التي نعيشها حقيقة ومنذ عقود، تتمثل في هجرة الأدمغة، أو نزيف الأدمغة إذا صح التعبير، كون معظم العقول العربية الوازنة، والمبعثرة الآن في أصقاع العالم، إما تكونت واختمر نُضجها في الغرب، مستفيدة من الظروف الجد ملائمة التي تسمح ببناء الإنسان النموذجي والمثالي، أو ظلت في منشئِها العربي ولم تهاجر، لكنها بَنتْ وطوَّرتْ نفسَها بإمكانياتها الذاتية وبوسائلها الخاصة، واستثمرت مواهبَها استثمارا مثاليا، وهذا واضح وجلي في عالمنا العربي، وأبرز تجل له، هم النوابغ العرب، وثلة من المتميّزين ذوي الكفاءات العلمية، الذين سرعان ما تَظْفَر بهم المعاهد العالمية في الدول التي تُقدّر الإنسان، وتعترف له بقدراته وإمكاناته. إنهم في المُحصلة أعلامٌ فَرْديون، تم اكتشافهم صُدفةً وتبنِّيهم لأسباب استثمارية تَرَبُّحِيَّة ودعائية لا أكثر، في حين تتولَّى المعاهد في الغرب بناء وصناعة الأعلام وتكوينِهم ومواكبتِهم. إن منطق الصدفة الذي يسير عليه عالمنا العربي، لن يُحقق لنا الإنسان الذي نصبوا إليه، وفي النهاية نتعذر بألف عذر؛ ونستدعي مرة أخرى ثقافة الاستهلاك التي أدمنّاها بسبب الفكرة المدفونة في وعينا الجمعي، وهي أن الآخر (الغربي) هو الأفضل دائما، وذلك عندما نلجأ إلى شراء الرياضيين والإعلاميين والتقنيين والعلماء والخبراء وشركات الحراسة و…، وما دمنا غير قادرين على رسم سياسة واضحة تقوم على مؤسسات حقيقية واعدة تبني الإنسان العربي بناء صحيحا وسليما، يؤهلُه إلى دخول مُعترك الألفية، ومجابهة الكبار؛ وتضمن كذلك عدم نضوب خزان المواهب والكفاءات العربية، ما دمنا غير قادرين على تحقيق هذا الشرط، سنظل غير قادرين على امتلاك قراراتِنا، وتحديد وجهاتنا ومصائرِنا، وسنظل رقما صعبا في الاستهلاك وحَسْب.

هوَّةٌ سحيقة، وشرخٌ كبير ذلك الذي يفصل بيننا وبينهم، رغم كل ما يُقال عن الغرب وجشعه ورأسماليته المتوحشة ونفاقِه ونفعيته المطلقة وانهدام لحمتِه الأسرية و …، إلا أنهم لا ينظرون أبدا إلى المادة (الثروات الطبيعية)على أنها غاية، إنها عندهم دائما وأبدا وسيلةٌ، وسيلة وحسب، (وسيلة للتملك والنجاح والتميُّز والسيطرة والهيمنة والتحكم والتفوق والبطش)، يأخذونها منَّا ويمنحوننا عوضا عنها القمحَ والشعيرَ والبطاطسَ والحليب والأغطية والأدوية والمواصلات، وأطنانا من (الشيكات)، التي نشتري بها أمننا وقَبُولنا واعترافنا الموهوم، ونكتري من يحرس حدودنا، ويحمي أوطاننا، في حين يُختم على ثرواتهم الوطنية بالشمع الأحمر ويُكتب عليه (احتياطيٌّ استراتيجي للأمن القومي) ثم هُم يَدرسون ويبحثون ويتطورون ويتقدمون ويخترعون ويُطوّرون، ونحن نتبضَّع ونتسوّق ونستهلك. يتطور الإنسان الغربي بشكل مُنظِم ومُنتظِم بالموازاة مع أنماط التطور الأخرى في المجالات المختلفة، ويُنظم العلاقة بينهما شبكة جد معقدة من المؤسسات والنُّظُمِ التي تنضوي تحتها سلسلة من التخصصات ذات المنحى العمودي والأفقي، في رؤية مستقبلية واضحة وجلية لا مَحيد عنها، في حين ننظر نحن العرب وكثيرٌ من الأمم النامية أو ما يسمى بالدول السائرة في طريق الهلاك، إلى التطور والتقدم من منظور مادي خالص، يتلخص إما في صفقات اقتصادية مربحة لا تنبني على رؤية استراتيجية واقتصادية مُمنهَجة، وليس لها أي أثر رجعيٍّ إيجابي على البلاد والعباد. وإما في مجاراة بعض الدول المتقدمة، في تشيد الأبراج وإنشاء الجزر والمدن النموذجية، في حين أن مناط الأمر كلِّه يتعلق ببناء الإنسان أولا قبل أي شيء آخر، وليس العكس. مفارقة لا أغربَ منها إذًا، هذه التي نعيشها ، يعجز كل ذي منطق على توصيفها، ففي الوقت التي تتراوح فيه ميزانيات بعض الدول العربية ما يقارب 1000 مليار دولار، أينما ولَّيْتَ وجهك لا تجد لهذا الرقم أيَّ أثرٍ إيجابيٍّ مواكب، في حين؛ تجد دولا وكيانات حديثة التكوين، قائمة على المساعدات والمعونات (الاحتلال الاسرائيلي)، تجدها حاضرة وبقوة في المراكز الأولى عالميا للمنجزات والاكتشافات العلمية. كل هذا سببه عجزُنا التام عن تقدير المادة، واستشعار القيمة، وتحديد الخيط الرفيع الناظم بينهما، وانعدام رؤية مستقبلية محددة الأهداف، وواضحة المعالم، تعتمد أنظمة مؤسساتية حقيقية، هياكلَ تنظيميةٍ جادة وفاعلة .وقيمة الإنسان في النهاية، تكمُنُ فيما يعلم وليس فيما يملك.

 

حسيـــن بشـــوظ / كاتب من المغــرب

 

 

في المثقف اليوم