أقلام حرة

الأنفصال الكردي في العراق

qasim kefaeiالكرد يسمونه إستقلالا، بينما تسميه الحكومة العراقية وجميعُ الأصوات الوطنية ب.. (الأنفصال) الذي لا تشجعه  شريحة واسعة من الكرد، تقطن في جزء آخر من إقليم كردستان. فالأستقلال يعني الشرعية المطلقة باتخاذ القرار والعمل به حتى تحقيقه، بينما الأنفصال هو ما يخالف قانون الدولة وسيادتها ووحدة أراضيها، بل يعني التمرد واللاشرعية.

تاريخ الكرد السياسي في العراق هو مجرد حلقات تباينت تفاصيلها باختلاف الظروف السياسية والعسكرية التي مرت على العراق والمنطقة، أهمها المرحلة التي عاشها وخاض غمارها قائد الكرد المشهور، المتصوف في بعض ملامح حياته، والعشائري السلوك (ملا مصطفى البارزاني). فهو ذو جذور عميقة في العمل الميداني، السياسي والعسكري ما قبل قيام دولة مهاباد في إيران عام 1945 بتدبير وحماية سوفيتية، وقد تهدمت أركانها وغاصت أطلالها من على وجه الأرض بمجرد انسحاب الجيش الأحمر السوفيتي من شمال إيران تحت ضغوط دول المعسكر الغربي المتحالفة فيما بينها إبان الحرب العالمية الثانية.

الى جانب قيادته الناجحة لأكثر من ثلاثة عقود لفصائل الكرد المحاربين، ومواجهة جيش الحكومات العراقية المتعاقبة، ، كان الملا مصطفى يبحث عن الوسائل الكفيلة بوصول نهضته وحركته الى غاياتها من أجل رفعة الكرد في العراق، والمطالبة بنيل حقوقهم بالحصول على (الحكم الذاتي). كاد هذا أن يتحقق ولو (مهزوزا) باتفاقية 11 آذار من عام 1970، لكنها تلاشت أمام نقض حكومة أحمد حسن البكر لوعودها، وأمام حجم المطالب الكردية التي تحسبها بغداد مطالبا تعجيزية، إضافة الى ضغوطات الحكومة الأيرانية على الكرد من أجل الأستمرار بالعصيان المسلح مادامت حكومة الشاهنشاه لم تتحقق كلَّ مآربها وطموحاتها في السياسة والحدود والأمن مع العراق.

في مرحلة استثنائية مرت في تاريخ النضال الكردي في العراق، وعلى حين غرة، انفرط العقد، ولم يعد للكيان الكردي الصعب، وصوت رصاص –البرنو- على قمم جبال قنديل، هلكورد، وجبال سرسنك والعمادية، وغيرها، من وجود يستدعي تنفيذ ولو مطلب كردي واحد يتعلق برسم الحدود مثلا.

لقد سقط شموخ الكرد، واندحر عصيانهم في حينها بمجرد إعلان الأتفاقية المشهورة بين حكومتي العراق وإيران في عهدي أحمد حسن البكر والشاهنشاه محمد رضا بهلوي المبرمة في الجزائر عام 1975. فكانت النتيجة أن صدرت أوامر من البلاط الملكي الشاهنشاهي الى القائد الكردي المحارب الملا مصطفى البارزاني بوقف الحرب والأنسحاب الى الخلف خلال 48 ساعة من كل مواقع النزاع. صار الملا مصطفى ومقاتلوا البيشمركة أمام خيارات صعبة, بالعودة الى العراق، أو العيش في إيران، أو الهجرة الى أمريكا بغرض الأستقرار. فاختار القائد الضحية وبعضُ فصائل البيشمركة الأستقرار في أمريكا، لكن الأغلب فضلوا الأستسلام الى قوات الجيش العراقي، والبعض الآخر فضل العيش في إيران على السفر الى الخارج. بعد حين دخل الملا مصطفى مستشفى جورج واشنطن بسبب إصابته بمرض السرطان (بحسب التقارير الطبية الأمريكية). ولما توفي البارزاني عام 1979 تم نقل الجثمان لدفنه من جهة الأقليم على الحدود العراقية التركية، ثم تم نبش القبر بواسطة عملاء أكراد يعملون لصالح مخابرات صدام، فاختفوا واختفت الجثة معهم وصارت في المجهول (هذا ما ورد من إشاعات في حينها)، لكن الرواية الكردية تقول أنه دفن في منطقة (أشنوية) الأيرانية ثم نقلت الرفاة الى القرية التي ولد فيها على مقربة من برزان. لقد عاش هذا القائد الكردي مراحل حياته مناضلا، حالما بمشروع الأنفصال وقيام دولة كردية مهما طال الزمن أو قصر، ومهما تعددت الوسائل وتنوعت، فكان أعظمها قيام علاقة سرية بالمخابرات الأسرائيلية، ومن معاجز القدر أن هذه العلاقة كان يديرها ضابط في الموساد وليس مؤسسات الكيان الأسرائيلي الأخرى ذات العلاقة، فهي القيمة السياسية لهذه العلاقة.    

تصدر إدريس البارزاني، الأبن الأكبر مهام حركته القومية من بعد وفاة والده، لكنه لم يدم طويلا، توفى وكانت نهاية حقبة نضاله التي قضاها مع أبيه الملا مصطفى.

كان مسعود البارزاني هو الشخصية الرابحة لتولي قيادة المرحلة النضالية واستكمالها، وقد تتلخص معالم تلك الشخصية بالذكاء على مستوى الأقليم والدولة، والتبعية للغرب وإسرائيل، وهو يعتقد تماما أن مصلحته القيادية، ومستقبل الكرد يرتبط بهذه التبعية العمياء. بهذا المعنى ظهر مسعود بمظهر القائد العنيد على حكومة بغداد ما بعد سقوط نظام صدام مستغلا الظروف الأمنية والسياسية العصيبة التي يمر بها العراق، كذلك هشاشة الكفاءة التي تتمتع بها حكومة المركز. وقد وصل به الأمر أن يطالب بلسان سليط ضمَ مدن عراقية الى جغرافية الأقليم، والأستيلاء على حقول نفط كركوك وغيرها، وبسبب إنفعالاته ضد حكومة المركز، ظهر ذات يوم يستعرض أفواج قوات البيشمركة وبيده الناظور يراقب القطعات العراقية من الجهة الأخرى كقوة معادية خارج حدود اللياقة.

فهو لا يرى في السياسة بمنظار شرفه القومي لأنه يعرف جيدا أن وجوده السياسي هو بمثابة ورقة محترقة تتعاطى بها السياسات والمصالح في أمريكا ودول الغرب وإسرائيل. بهذا التفسير الموضوعي نتعرف على الدوافع الحقيقية بمطالبة مسعود للقيام بالأستفتاء في25 أيلول الجاري لأنفصال الأقليم عن المركز كخطوة يعتبرها وطنية ومشروعة بينما هي في حقيقتها لا تخرج كونها مسرحية – موسادية – يشرف على تنفيذها ضابط إستخبارات، لتصبح دولة البارزاني المزعومة قلعة تجسس وكيان تهديد ليس إلا. فالمخابرات الأمريكية والغربية تعرف جيدا حقيقة العلاقة وتعرف تلك المسرحية. فبينما تستنكر واشنطن عملية الأستفتاء فإن إسرائيل تشجع وتدفع بها إستكمالا للمؤامرة التي تديرها القوات الأمريكية في الرقة بسورية مستخدمة فصائل كردية (قوات سورية الديمقراطية) في الواجهة. هي مجرد تمرير أدوار، ومسعود البارزاني يدور في مفرغة ملتهبة  يصعب التكهن بنتائج تخبطه، قدمه اليسرى عند ضابط الموساد في إسرائيل، والأخرى بين أربيل وبغداد.

 لقد أرَّخ السجل السياسي للحركة الكردية بأن عائلة الملا مصطفى البارزاني ومنذ نشأتها لا يمكنها أن تتحرك على الأرض مالم ترتبط بالحركة الصهيونية العالمية. فالأستفتاء المزمع إجراءه في25 أيلول الجاري لم يكن قانونيا بحسب الدستور العراقي الذي شرعه البرلمان العراقي ما بعد عام 2003، وهو عملية ابتزاز مالي وجغرافي تقوم به دول الغرب وأمريكا ضد الحكومة العراقية على خلاف ما تعتقد به بغداد وتنخدع بمظاهر تلك الأدوار. إن الأنفصال الذي لا يؤمن به رئيس الأقليم وحكومته لو حصل على سبيل المثال، فانه بمثابة عملية تشييع سلطة وتسلط عائلة البارزاني، أما المشيعون فهم الأجنحة الكردية المعارضة لمشروع الأستفتاء في داخل إقليم كردستان. هذا القول يستند الى وقائع تحيط الأقليم من جهة إيران وتركيا وسوريا، إضافة الى موقف حكومة بغداد الرافض لتقسيم العراق بغدر المتخابر مع الأجنبي. إن الموقف التركي الصعب والمر الرافض لقضية الأستفتاء يكفي لمواجهة مسعود البارزاني ومشروعه الأنفصالي، وقد يصل الأمر بأوردغان الى اعتقاله داخل أربيل العاصمة. فالمخاوف التركية من الأنفصال الحقيقي وتأثيرها على الأكراد في تركيا هي أعظم خطرا من دخول الجيش التركي الى أربيل عاصمة الأقليم، أو قصفها بالطائرات، أما حكومتا إيران وسورية فلا يخشيان بهذه القوة حصول الأنفصال كون الأكراد متماسكين مع حكومتهم في طهران. أما أكراد سورية فهم لا يسعون للأنفصال لعقود خلت، سوى أنهم في وضع استثنائي ومعقد، غير مستقر تشهده بلادهم، فما بين الأغراء السياسي الأمريكي، وبين الشعور بالخطر التركي تتحرك أكوام الرمال الكردية على أرض سورية تقابلها عواصف أردوغان وعناده وكرهه المتأصل لهذه القومية التي لا يرى فيها هو الأنضباط الوطني، أو الشعور بالأنتماء.

أيضا: ما تخشاه حكومات بغداد ودمشق وطهران من عملية الأنفصال لو تحققت بفرضية الظنون، هو إقامة جسرٍ جويٍّ لا ينقطع ما بين الأقليم المنفصل وتل أبيب، يصعب حينها من تدميره أو التقرب منه لما يحيطه من سور حماية دولية عظيمة. 

المواقف التي يجب أن يواجَه بها مسعود البارزاني ومشروعه الأنفصالي كثيرة ومتباينة، منها العسكري، والآخر استخباري يتكفل بقلع جذوره عن السلطة والمسؤولية إن صحَّت عملية إجراء الأستفتاء أم لم تصح لأنقاذ العراق وعموم الأكراد من شره دون أن يحقق حرفا واحدا من أمانيه العدوانية المستورَدة.

فلو لم نجد الكفاءة والمهنية والحزم بحكومة بغداد في تحجيمه فسنجدها عند حكومتي إيران وأردوغان في تركيا.

كما أن العقاب الذي يستحقه لا يقتصر على خروجه عن الشرعية بمطاليب الأستفتاء بل لأنه العنصر الذي دسَّ رأسه بوحل العمالة لأسرائيل.  

                 

قاسم محمد الكفائي -  كندا

 

 

في المثقف اليوم