تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

أقلام حرة

العقل الدَّعوي واحتكار الحقيقة (1): ليس نقداً للخطاب الديني

مجدي ابراهيميخَيَّلُ إلىَّ إن الذين يتحدَّثون كثيراً في "نقد الخطاب الديني" هم في الغالب يتحدَّثون عنه نقداً من أجل النقد وكفى، ولا يتحدَّثون عنه وفق منهج محدَّد أو رؤية واضحة، لكأنما جاءت الفرصة مُتَاحة لهم من احتكار هذا الخطاب واقتصار فئة معينة أو طائفة بعينها على التعبير الصحيح عن الإسلام، والالتزام بلغته المقررة في خطاب هذه الطائفة أو تلك الفئة، ثم فرضها فرضاً تعسفياً على الناس؛ كأنه هو الخطاب الوحيد الذي لا خطاب غيره يمتلك الحقيقة ويعبِّر عن روح الإسلام. ونحن في هذه النقاط مما يشتمل عليه مقالنا هذا؛ لا نعدو الصواب فيما لو كشفنا عن مثالب خطاب العقل الدعوي المقيَّد باتجاه بعينه، في غير ادّعاء منّا بامتلاك الحقيقة أو فرضها على أحد، وإنما هى وجهة نظر نتمثلها فنعرضها انطلاقاً من الإيمان "بمبدأ الاختلاف"، تتعدَّد فيه الرُّؤى ويلمَس الحقيقة من جانب منها لا من جميع جوانبها وأطرافها وفق منهج مُحَدَّد ورؤية واضحة .

المنهج المحدَّد والرؤية الواضحة أمران تجمعهما في البداية والنهاية وجهة نظر تتمثل في موقف أو عدّة مواقف من الحياة الدينية. فإذا كان المنهج يحملُ خطوات سير صاحبه؛ فهو إذْ ذَاَكَ يكشف، ويحلل، ويصف، ويقرِّر، ويفرّق الأجزاء المعقدة إلى جزئياتها البسيطة، والثوابت الكلية إلى متفرَّقاتها الجزئية كيما تكون مجرَّد علاقات تتغير عبر تغيّر الزمن ومطالب الحياة اليومية. فالرؤية تطبيق لهذا، وفقَ قناعات تتفق مع وضوح ما يراه الناظر في رؤيته، والباحث الذي يعكف على موضوعه بتوظيف المنهج لوضوح ما يرى .

وغياب المنهج يعني عادة غياب الرؤية. وربما تحمل الرؤية منهجاً على غفلة من صاحبها؛ بمعنى أن صاحب الرؤية من جَرَّاء كثرة إلحاحه فيما يرى يمكن لقارئه المتابع لوجوه الرؤى المختلفة فيما يكتب أن يستخلص لهذه الرؤية منهجها، وأن يتوصّل إلى استخدام صاحبها لطريقة ما، كان يتّبعها في تناوله لموضوعاته، فكرة فلسفية كانت أو دينية أخلاقية، على اختلاف هذه الموضوعات وتعدد مجالاتها، تماماً كما نستخلص نحن مثلاً- كباحثين معاصرين - منهجاً من قراءتنا لمؤلفات الغزالي وكتب ابن سينا ومصنفات الفارابي، وغيرهم من قدماء الفلاسفة، لم يكن أحدٌ منهم زعم لنفسه مثل هذا "المنهج" أو نوَّه إلى استخدامه فيما لم تكن جَرَتْ به في الغالب عادة القدماء.

صحيحٌ إن المنهج عند بعض هؤلاء القدماء كان بارزاً واضحاً إلى درجة لا يحتاج معها الباحث إلى كثير عناء لاستخلاصه. وإذا أردنا مثالاً على ذلك؛ فلنأخذ كتاب "إحياء علوم الدين" للإمام الغزالي (ت 505 هـ) الذي شهدَ المنهج في مقدمته وضوحاً لا يُخفى على القارئ العابر؛ فهو يشرح خواص هذا "الكتاب" التي هى باختصار منهجه في الدراسة وطريقه في المعالجة ومذهبه في التحقيق حين يقول:" ... ولقد صَنَّفَ الناس في بعض هذه المعاني كتباً، ولكن يتميز هذا الكتاب عنها بخمسة أمور:

• الأول: حَلُّ ما عقدوه وكشف ما أجملوه .

• الثاني: ترتيبُ ما بَدَّدوه ونظم ما فرَّقوه .

• الثالث: إيجاز ما طوَّلوه وضبط ما قرَّروه .

• الرابع: حَذْف ما كرَّره وإثبات ما حرَّروه .

• الخامس: تحقيق أمور غامضة أعتاصت على الأفهام لم يُتَعَرَّض لها في الكتب أصلاً؛ إذْ الكلِّ (ويقصد الصوفية من المُقَرَّبين) وإنْ تواردوا على منهج واحد، فلا مستنكر أن يتفَرَّد كل واحد من السالكين بالتنبيه لأمر يخصَّه ويغفل عنه رفقاؤه، أو لا يغفل عن التنبيه، ولكن يسهو عن إيراده في الكتب، أو لا يسهو ولكن يصْرفه عن كشف الغطاء عنه صارف" (مقدمة كتاب الإحياء: 14) .

أقولُ؛ صحيحاً إنّ المنهج عند بعض القدماء كان من الجلاء والبروز بحيث لا يحتاج إلى كثير عناء للبحث عنه أو التعقيب عليه في مَظَانه المعهودة لدى صاحبه؛ فإذا كان الغزالي قد وَضَّحَ المنهج وبيَّنَ الرؤية، وبوضوح المنهج وضحت الرؤية؛ فإننا في كثير من أمهات الكتب التراثية الأخرى نحتاج إلى إيضاح المنهج لنعدِّد مساراته في نقاط كيما تتضح رؤية صاحبه حتى ولو تعسفنا كثيراً في استخلاص المنهج لإيضاح الرؤية !

وكثيراً ما نطالب أنفسنا بتقعيد مثل هذا المنهج وإظهار تأثر صاحبه وتأثيره بالسابقين وأثره في اللاحقين، وببروز الطابع الذي يطبعه والمستند الذي يستندُ عليه والوجهة التي يتجه إليها، إلى العديد من تلك اللافتات الضرورية والشارات البادية دوماً في عقائد الباحثين وأفكارهم المرجعية، وذلك حين يراها كل باحث من الأهمية بمكان بحيث يتخذ لنفسه منها منهجاً ويصل من خلاله إلى رؤية واضحة ومحدَّدة كلما وضع يده على موضوع معين، أو على شخصية قديمة أو حديثة يبحث عنها أو فيها: منهجاً ورؤية .

ومن هنا؛ من هذه النقطة الجوهرية، فالذين لا يتورَّعون قيد أنملة (من الخبثاء طبعاً) في أن يشنوا على الدوام سهامهم النقدية هجوماً نحو "الخطاب الديني"، هم في الواقع يفعلون ذلك من جانبين: أحدهما لهم، والآخر عليهم. أحدهما يُحسب لهم ومعهم الحق فيه. والآخر يُحسَبُ عليهم لافتقارهم فيه لوجه الحق فيما يزعمون، ولاستخدامهم النقد الأهوج غير المُبرَّأ من الأغراض، والذي لا يقوم على منهج محدَّد أو على رؤية واضحة، وإنما هو نقدُ؛ لأن الخطابَ دينُّي في أول وآخر مقام، وإنما هو نقدُ؛ لأن اللغة دينية فقط، فهى من أجل ذلك مرفوضة. ومادام الخطابُ دينياً واللغة التي يمتلئ بها دينية؛ فإن المرجعية كذلك في مُجْمَلها غير مقبولة، لا لشيء إلّا لأنها دينية وكفى، ومن ثمَّ فليس هناك ما يلزمهم على صعيد العقيدة القلبية أو على مستوى الضمير الديني في أن يفصلوا الدين ويعزلوه عن إيقاعات الحياة ليكون عالماً آخر يتحَدَّث عنه أو فيه الطيبون من ذوي لنوايا الحسنة، وليس لديهم من ضرورة لاستخدام هذه اللغة أو ذاك الخطاب بوجه من الوجوه .

هذا الجانب لسنا في حاجة إلى الحديث عنه؛ إذْ تقدَّمت الإشارة إلى خلوِّه من منهج ومن رؤية. أما الجانب الذي يُعنينا وينبغي أن يعني غيرنا ممَّن توافرت لديهم خصوصية العناية بوجه الحق والإنصاف؛ فهو جانب احتكار الخطاب الديني، وامتلاك الحقيقة، لأجل فئة معينة أو طائفة من طوائف المجتهدين، وهو هو الجانب الذي قلنا عنه فيما تقدَّم أنه يُحسَب للناقدين ومعهم الحق في نقدهم إيَّاه. ينطلق هذا الجانب من فكرة ضخمة وكبيرة هى عندنا من أمهات الأفكار الكبرى التي لا يستغني عنها منصف محقق نزيه عن العصبية وقريب من موارد التسامح وأجواء المعارف التهذيبية .

هذه الفكرة نُصيغها في سؤال كهذا: هل من حق أحد من المسلمين أن يحتكر الإسلام؟ حتى إذا ما أجبنا على هذا السؤال بإنصاف لا بتعصب، أعني إنصاف لا يُدْرك آفة الانغلاق المتقوقع الأجوف البليد، أجبنا في الوقت نفسه على مثل هذا الجانب المطروح للعناية في غير عوج ولا تخليط مما نراه دوماً بادياً في اعوجاج الآراء وتخليط المفاهيم. وأنها لبديهةٌ من بدائه الإيمان بهذا الدين السّمح العظيم تقرر: إن ليس من حق أحد أن يحتكر الإسلام، ولا أنْ يحتكر التعبير عنه؛ ولا أن يحتكر قبل ذلك فهمه بالكلية، ولو أُوتىَّ من الحماسة له ما أوتىَّ من علو الجانب واتساع الأفق وبلوغ المرام. إنه "أبو حنيفة النعمان" هو الذي قال:" علمُنا هذا "رأي"؛ وهو الذي قدِرنا عليه، فإن جاءنا أحدُ بأحسن منه قبلنا".

ثم إن الحوار نفسه لبلوغ مثل هذا الرأي يحتاج إلى كفاءة ذهنية لا تعرف التعصب فيما عَسَاهُ يكون عليه الرأي الخاطئ الذي يحتمل الصواب، أو يكون عليه الرأي الصواب الذي يحتمل الخطأ؛ بمقدار ما يحتاج هذا الرأي إلى مثل تلك الكفاءة عينها، والتي لا تعرف كذلك ضروب الانغلاق فهماً للغاية وسلامة في القصد فيما هو مُقبل عليه، وهذه الحاجة الأخيرة هى من ألزم لوازم الضمير اليقظ والوعي السليم؛ لأنها مشروطة بالفعل العملي التجريبي لا يكفي فيها القول فقط حتى إذا ما انتقل الخطاب ناحية التطبيق، رأيت عراكاً وقتالاً يندى له جبين الشاهدين. وأظنها عبارة صائبة تماماً للسيد"رشيد رضا"، صاحب المنار، كان يرددّها باستمرار حين يرى نزاع المتنازعين وتمسك الأطراف المتنازعة كل برأيه، مما يؤدي التمسك بالرأي إلى عداء ليس يبقى معه حوار. فماذا قال؟ قال:" نتعاون على ما اتفقنا عليه، ونتحاور فيما اختلفنا فيه"؛ فالتعاون على الاتفاق من سلامة القصد والتوجُّه أيضاً. والحوارُ ضرورة واجبة حين يحل الخلاف، وشرطه: أن لا يفسد التعاون ولا يُفرِّق فيما بين المتحاورين روح الود والاتفاق .

وعليه؛ فليس من حق أحد أن يدَّعي احتكار الخطاب الإسلامي، ليس من حق الفقهاء أن يحتكروا الإسلام، ولا من حق السّلفية، ولا من حق الشيعة، ولا من حق أهل السُّنة، ولا من حق المعتزلة، ولا الأشاعرة، ولا الأخوان المسلمين، ولا من حق فرقة ولا مذهب ولا طائفة، ولا شيء من ذلك كُلُّه ليس من حقه أن يحتكر الإسلام؛ لأنه ليس من حق من يملك "خطاباً" عن الإسلام أن يحتكر الإسلام، وما كان الإسلام في مصدريه الكبيرين: القرآن والسُّنة يحتكر خطاباً قط. وبالتالي فالخطاب الديني المُعَبر عن هذين المصدرين في لغة من عنده يملكها سائر الناس ليس من حقه في أداة التعبير فضلاً عن طريقة التفكير أن يحتكر الإسلام إلا بمقدار ما يصيب من تلك الحقيقة الكبيرة قَدْرَاً يمتلك فيه هذه الحقيقة، وهو معدوم !

إننا إذا قلنا إنه: ليس من حق الخطاب الديني تفكيراً وتعبيراً إذن أن يحتكر الإسلام، وتساءلنا .. لماذا؟جاءت العلة في هذا لتجيب على البداهة؛ لأن أي خطاب يزعم لنفسه أنه يمتلك "الحقيقة المطلقة"، ويعبِّر عنها باسم الإسلام هو في الوقت نفسه يُسيء إلى الإسلام من حيث يشعر أو لا يشعر. لا يملك التعبير الحقيقي عن الإسلام كحقيقة دينية إلهية إلّا الله، ورسوله - صلوات ربي وسلامه عليه - أمّا المعبِّرون عن الإسلام فهم في الواقع يعبرون عن متوجُّهاتهم: عن أفكارهم، ومداركهم، وأفهامهم، عن عقائدهم السياسية والثقافية والأيديولوجية، لا عن الإسلام كحقيقة ضخمة وكبيرة، هم منحصرون في دائرة الاجتهاد تفكيراً وتعبيراً. والمجتهد - من هذه الجهة - لا يملك الحقيقة المطلقة وإلّا لما كان مجتهداً ولا سَمىَّ بالمجتهد يصيب ويخطئ، ولا يحتكر ما ليس من حقه احتكاره، لا الرأي ولا لغة الخطاب، ولا يحجِّر على آراء الآخرين بحال مما وسَّعه الله على عباده. تلك هى الفكرة الكلية عندنا مركزة، ولسوف نحاول تفصيلها في مقالات تالية .

المقال الثاني: (2)

 

في المثقف اليوم