أقلام حرة

العقل الدَّعوي واحتكار الحقيقة (3): الزعامة الدينية وامتلاك الحقيقة المطلقة !

مجدي ابراهيمفيما تتقدَّم من مقالات تحدَّثنا عن أن الزعامة الدينية ليست تنهض دليلاً على الإخلاص في الدعوة؛ وتركناها "فكرة مركزة" بدون توثيق؛ ولسوف نقوم في هذه الصفحات التالية بتفكيك هذه الفكرة وتحليلها إلى جذورها. وفي الحق؛ قد كشفت أدبيات القدماء عن مثل هذه الزعامات المتسلطة؛ إذ كانوا يتَنبَّهوُن إلى فعل الأهواء والمطامع والأغراض والمصالح فيها جيداً، ربما أكثر مما نتنبَّه نحن إليها اليوم، مع تطور الزمن وشدّة الادعاءات فيه. وكان الإمام أبو حامد الغزالي أحد هؤلاء الكبار الذين أفاضوا في الجزء الثالث من "الإحياء"، في شرح تلك السدود والحواجز والقيود؛ ووجوب رفع تراكم الحُجُب التي تقف حائلاً منيعاً بين العبد والوصول إلى الحق؛ مما ليس ينحصر هنا تحديداً إلا في إشارات (إحياء علوم الدين: جـ 3؛ ص37 وما بعدها) .

فهنالك زعامة "الرياسة"، وهنالك زعامة "الجاه"، وهنالك زعامة "المنصب"، وهنالك زعامة "السلطة"؛ وتحت هذه الزعامة الأخيرة ضع ألف خط وخط. لا ريب كانت هذه الزعامات يشملها جميعاً مفهوم العلو، والتعالي، المجموع في التقدير القرآني تعبيراً بقوله تعالى:"تلك الدَّارُ الآخِرَةِ نَجْعَلهَا للَّذِيِنَ لا يُرِيدُونَ عُلوَّاً فِي الأرْضِ وَلا فَسَاداً، وَالعَاقِبَة للمُتَقِينَ" (القصص: آية 83). هذا العلو هو في بعض التخريجات يعني: النظر إلى النفس. أما الفساد؛ فيعني النظر إلى الدنيا، والأمن من المكر والكبر والعجب. وأصل ذلك كله من الجهل، (وليس الجهل هنا بالطبع جهلاً بالعلم، كلا .. فقد يكون الإنسان عالماً ولكنه في هذا الموطن هو من أجهل الجاهلين. الجهل هنا جهلُ بالنفس، ثم جهل بالله؛ مع كون الجاهلُ هنا عالماً من حملة الشهادات البرَّاقة واللافتات العلمية الكبرى. غير إنه يعدُّ جاهلاً مادام علمه لم يتحوَّل إدراكيَّاً إلى علم بالجهل، فالعلماء بالله على هذا هم علماء بجهلهم؛ أي هم الذين يدركون جهل أنفسهم عن أن تصل إلى "حقيقة الحقائق"؛ أو حتى ما دونها، ناهيك عن احتكارها أو امتلاكها؛ فضلاً عن التعبير عنها بعد العلم بها. فأما الذين يعلمون ويقولون مع شدَّة الادِّعاء إننا علماء فهم جهلاء على التحقيق؛ وعن الجهل يكون الكبر وطلب العز في الدنيا، والعلو في الأرض، والتلهف على السلطة والاستبداد بها.

وطلبُ العز في الناس هو الذي يتولّد منه العُجْب. فالوصول إلى قرب الله تعالى، وإلى مراتب دنوِّه كما نبَّه عليه سبحانه في الآية الكريمة، لا يكون مطلقاً لمن له حب "الزعامة": رياسة، وجاهاً، وسلطة، ومنصباً، ونفوذاً .. وأترك لك أن تعدِّد أنت أنواع الزعامات الموبؤة التي تلاقيها في نفوس البشر ممَّن يحيطون بك وألوان الاستبداد بها، وهو كذلك لا يكون مطلقاً لمن تمكَّن حُبّ هذا كله أو بعضه من قلبه. وإنما يكون لمن حذف هذه الآفات المُمْرضة عن قلبه ولم يباشر حظوظ نفسه وهواه، ولم يخضع لمصالحه ومطامعه وأغراضه فيما يتوجَّه به إلى خالقه، هنالك يَخُصُّه الله بالدرجات الشريفة والسعادات الدائمة فلم تعد تأتي منه إذْ ذَاَكَ أفعال الخبيثين.

الدين لله لا للأشخاص. والجماهير العريضة؛ وقطاعات وفيرة منها في الغالب، تقدِّس الأشخاص الذين يتحدّثون في الدين من حيث لا يشعرون بألوان الخطابات الطاعنة في الدين نفسه، شعروا بذلك أم لم يشعروا، وتُلْبِسَهُم أثواب القداسة لمجرّد أنهم يتكلمون عن الله ورسوله، هذا إذا مَسَّتْ دعوة الداعي مشاعرهم، وذلك لأنها جماعات تنزع إلى المحسوس في كل ما ترى، وفي كل ما تحسّ وتشعر، فتتخذ من الداعين إلى الله مكاناً للتجسيد القبيح؛ ليتسلط الداعي بعدها تسلطاً بغيضاً من حيث لا يشعر فتتحوَّل الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة على يده إلى سُلطة، وتتحول الموعظة الحسنة إلى سياط يعلو قلوب الناس وعقولهم لا إلى رحمة للعالمين.

إنه الإرهاب ! الإرهاب بكل ما تحمله الكلمة من وقع كريه على المشاعر الإنسانية النبيلة. إرهابُ المشاعر والأفكار، وإرهابُ الضمائر والقلوب، وإرهابُ الطمأنينة النفسية وأمان الاستقرار، وما أكثر الذين يُرْهبون الناس فيرتكبون على شاشات الفضائيات جرائم بشعة في أبواب الفتاوى تارة، أو تحت ستار الفكر الإسلامي تارة أخرى، وبحجة تطبيق شرع الله تارة ثالثة، وفي عناوين وشارات كلها ترتكبُ باسم الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، لتكون سُلطة ما أنزل الله بها من سلطان !

إذا كانت الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة قاعدة أساسية لا يرتاب فيها مؤمن مصدِّق بهذا الدين؛ فإنها تنتكس - لولا أن الله يحفظ سبيله - على أيدي أولئك الذين يُعبِّرون عن أنفسهم واتجاهاتهم وأنماط تفكيرهم وزعاماتهم من خلالها، ويريدون أن يمتلكوا الحقيقة من خلالها، ولا حقيقة عندهم إلا فيما يقولون ويعبرون! إنّ الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة ليست منهجاً مغلقاً ولا هى بالأسلوب الأوحد الذي لا يعرف التغيير والتبديل وفق ظروف حياتية ومستجدات واقعية وتقلبات نفسية وتطورات معاشة في الواقع العملي وإنما هى منهجٌ مفتوحٌ ليس بجامد ولا هو بالمغلق، بصير بالواقع وبالناس، وبصير بالدنيا وبالأحداث؛ لأنه منهج قبل ذلك كله، وبعد ذلك كله، وفوق كله، بصيرُ بالله وينبغي أن يكون صاحبه على الدوام بصيراً بالله.

والبَصَرُ بالله إخلاصُ لله وحده في الحلِّ والترحال، في القول والفعل، في الحركة والسكون، في النشاط والخمول، في كل شيء، في كل شيء بغير استثناء، وحقيقٌ بالبصير بالله أن يكون مخلصاً إخلاصاً لله وحده لا شريك له، ولا شيء غير ذلك؛ ففي هذا الإخلاص بَصَرٌ بالله وبَصَرٌ بالناس .

وليس معنى البصر بطبيعة البشر أن يتخلى المنهج عن روحه، وعن خصوصياته، وأن يستجيب لتقلبات الأهواء البشرية، بل معناه المقصود هنا هو الاستيعاب، والاحتواء، وامتصاص السَّقطات البشرية تحت ديدن الإخلاص لله: شرط النشاط الإنساني كله. فأي تفريط في دين الله في نفس الداعية هو انتكاسة عَقَدِيِّة قبل أن تكون خُلقيِّة. انتكاسة تستوجب التوبة وتقتضي من صاحبها ضروب الحذر والتَّوَقِّي .

وليس من شك عندي في إن الذين يربطون عقولهم باتجاه معين ويغلقون طريق الله على أنفسهم ليتحدّثوا باسم الله، هم أكثر الناس ركوناً إلى غير الله، وأبعدهم معرفة بفقه العقل الدعوي؛ فقه العقل الذي يدعو إلى الله على بصيرة، أو ينبغي أن يكون كذلك، وفقه العقل الدعوي كما يتبدَّي لنا إنما هو "فقه قلوب" قبل أن يكون فقه ألسنة وحروف، تلخِّصه إشارة صادقة ومخلصة من إشارات العارفين بالله؛ تبحث عن توجُّه القلب من وراء اللسان، هذه الإشارة هى لأبي القاسم الجنيد (ت 297 هـ)، طيِّب الله ثراه، حيث يقول:" مَنْ أشار إلى الله تعالى وسكن إلى غيره ابتلاه الله بالمحن وحَجَبَ ذكره عن قلبه وأجراه على لسانه. فإنْ انتبه وانقطع إلى الله، وحده، كشف الله عنه المحن. وإنْ دَاَمَ على السكون إلى غيره، نزع الله من قلوب الخلائق الرحمة عليه، وألبسه لباس الطمع فيهم، فيزداد مطالبته منهم مع فقدان الرحمة من قلوبهم فيصير حياته عجزاً وموته كمداً وآخرته أسفاً .. ونحن نعوذ بالله من الركون إلى غير الله" (طبقات الشعراني: جـ1؛ ص72).

عند هذه النقطة: أيجوز لنا أن نقبض عنان القلم ولا نبسطه، ليوالي التعبير عن صرخات ونفثات يَلتاع منها الضمير في هذه الأيام العصيبة التي يمر بها حاضر العالم الإسلامي، وخصوصاً في مصر: مصر الأزهر الشريف العريق (الذي يبدو إنه ترك السّاحة يائساً لأهواء الداعين بغير علم ولا معرفة سكوناً إلى مادون الله! الأزهر التاريخ بعلمائه الكرام؛ بصَّار، ودراز، وعرجون، وغلاب، وسليمان دنيا، والبهي، ومخلوف، والمراغي، والباقوري، وأبو زهرة، وعبد الحليم محمود، والشعراوى، وزقزوق، وهاشم، وطنطاوي، وأحمد الطيب، وعلى جمعة؛ وغيرهم، وغيرهم مما لا حصر لهم من كبار السادة ذوي الحق والاجتهاد)، فمن ذا الذي لا يقرأ هذا الكلام الذي نقلناه عن طاووس العلماء وسيد أولياء الإسلام أبي القاسم الجنيد، وهو كلام قريبُ العهد من الله، ولا يتورَّع عن الإشارة إلى الله فضلاً عن احتكار خطابه؟ ومن ذلك الذي لا يقرأ هذا الكلام ولا يتورَّع قيد أنملة عن أن يتحدث إلى الناس باسم الله، مع ما يبدو في حديثه من طلب الزعامة والمكانة؟

حديثُ الله للبشر شيءٌ، وحديثُ البشر عن الله شيءٌ آخر. إذا كان الإخلاص شرط النشاط الإنساني كله، وكان التّوجُّه إلى الله هو القصدُ والغاية من عمل العاملين - أو ينبغي أن يكون كذلك - فإن "الإشارة" إلى الله هنا والسكون إلى غيره في نفس الوقت، تطعنُ في كل مَنْ يدَّعي الإخلاص لنفسه أو لدعوته؛ فقلَّ أن يُوجد ذلك الذي يسكن إلى الله، وهو يشير إليه على الدوام، ولا يركن إلى غيره. نقول: قلَّ أن يُوجَد ولا نقول إنه معدوم !

فإن الغفلة عن الله والسكون إلى غيره طبيعة بشرية ليست مما يعتصم منها سوى المعصُومين من الأنبياء. وما شَرَّع الله الاستغفار والذكر والتسبيح إلا لمثول الغفلة وفقدان العزم وقلة البقاء دوماً في رحاب الله على ديدن الإخلاص.

حديثُ الله للبشر شيءٌ، وحديثُ البشر عن الله شيءٌ آخر . إنّ الله لم يعطْ أحدُ توكيلاً إلهياً ليدعو باسمه كيما يحاكم به عباده. إنه تعالى الوحيد الذي خلقهم وأودعهم أسراره وَوَجُّههم في هذه الحياة ليكونوا أهلاً لتجلياته فيما يريد. إرادتُه فوق مرادات البشر جميعاً، حتى الأنبياء - أصفياء الله وأقرب خلقه إليه - لم يعطهم مثل هذا التوكيل وخاطبهم خطاباً علوياً أعلمُ في الدلالة النفسية وأحفظ لمقتضيات القلوب قائلاً لحبيبه محمد، صلوات ربي وسلامه عليه:" إنك لا تهدي من أحْببت ولكن الله يهدي من يشاء، وهو أعلمُ بالمهتدين" (القصص: آية 56) . فليس من حقه ولا من شأنه - صلوات الله عليه - أن يتدخل ليهدي من يُحبْ، ليس التدبير تدبيره ولا الأمر أمره بل الأمر كله لله. وعليه وحده سبحانه فعل ما يريد:" إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصُّمَّ الدعاء إذا ولوا مدبرين. وما أنت بهادي العُمى عن ضلالتهم. إنْ تسمعُ إلّا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون" (النحل: آية 80-81) .

إنّ مشيئة الله لقادرة على تحويل النفوس وتقليب القلوب، وهى أيضاً لقادرة على جعل من في الأرض جميعاً كلهم أهل هداية وأرباب إيمان. وليس حرصه، صلى الله عليه وسلم، على أن يكون الناس كلهم جميعاً مؤمنين، بمانع من نفاذ المشيئة التي تفعل ما تريد في الوقت الذي تريد:"ولو شَاَءَ ربُّك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً، أفأنت تُكْرِه الناس حتى يكونوا مؤمنين" (يونس: آية 99) .

حديثُ الله للبشر شيءٌ، وحديثُ البشر عن الله شيءٌ آخر. إنّ تطبيق منهج الله لا يُفرض فرضاً بغير إرادة. ولن يستطيع مخلوق- كائناً ما كان أو من كان - أن يصدر عن ذهنه هو تلك الإرادة التي يستولي فيها على المنهج وحده، فيزعم وهو المخلوق المحدود أنه أستوعب بلا نقص في استيعابه كل فروض منهج الله ليحاول تطبيقها على أرض الواقع، ولو شاء الله هذا كله مفروضاً محققاً، لكان بلا عنت من عقول البشر، ودون معطيات من تصورات البشر، وبغير أن يكون البشر أصحاب توكيلات إلهية .

صحيحٌ أن الأنبياء - صلوات الله عليهم - جاءوا للهداية حين خرجوا عن منطقة الوحي الخاصّة بهم دون سواهم، لكنهم في المجمل فقهوا إرادة الله ومشيئته، وعلموا أن العباد عيالُ الله، فيهم الشقي والسعيد، والقوي والضعيف، ومن أهَّله الله لناره ومن خصَّه لجنته، ومن أعطاه الإيمان ومن سلبه عنه، ومن زوَّدَه بسُبل اليقين ومن زعزع يقينه في غير استقرار. الله وحده أولى بالإعالة. الخلق عيالُ الله .. والله وحده أولى بالإعالة. إن التوجُّه إلى الله لا يفرض بإرادة البشر فرضاً قسْريَّاً مكرهاً بما يفهمه البشر من منهج الله: فهم البشر لمنهج الله شيء، وإرادة الله لهم شيء آخر. العناية الإلهية فوق مستطاع البشر جميعاً: فوق إرادتهم وفوق فهمهم من تلك الإرادة .. ماذا عساهم يريدون؟ وفوق أوهامهم التي يتصورونها عن الله، وفوق آمالهم وظنونهم التي يتوجهون بها إلى الله .. إنّ تجلياته سبحانه على خلقه فوق أن يحيط بها محدودو العقل والبصيرة ممَّن يريدون لأنفسهم مكانة عند خلقه حين يتحدثون باسمه أو ينسبون لأنفسهم مثل هذا الحديث أو ذَاَكَ .

حقيقةً؛ نحن أحوج ما نكون إلى تصحيح الكثير من المفاهيم المغلوطة، وإلى الضرب في أغوار النفس الباطنة لاستخراج الآفات منها كيما تتنظف وتترقى. فلئن كان العقل يتلقى هذه الفاهيم المغلوطة، وهو يعلم مدى غلطها وتعطيلها من واقع هوس النفس ثم يعمل فيها عمله ولا يعقلها مطلقاً فيركها لتتحول في الذات العارفة إلى زعامات مؤبوة قادحة لصاحبها طاعنة لغيره ولمن يتلقاها عنه؛ فمن باب أولى عندنا أن يكون حضور القيم الإيمانية الفاعلة هو المنطلق الأساسي لتصحيح المفاهيم المغلوطة وفقاً لمقتضيات العقل الإيماني البصير. والفرقُ كبيرٌ جداً بين ما يتطلبه العقل الإيماني البصير من تصفية النفس من عكارة التقليد الموروث، وبين ما يقتضيه العقل الإستدلالي المعزول في الغالب عن الإيمان، ينطلق من هوى صاحبه فلا يعوّل على الإيمان، ولكن يعوّل على الغرض الذي ينافيه، ويقدح في الجملة فضلاً عن التفصيل فيه، ويكون معول هدم لا ساعد بناء .

د. مجدي إبراهيم

 

 

في المثقف اليوم