أقلام حرة

القِطَار الّذِي غَيْر التَّارِيخ

محمد سعد عبداللطيفيتجاهل أَغْلَب الْمُؤَرِّخِين رَحْلِه القِطَار الْمُغْلَق الَّتِي تَمَّت عَام 1917 وَغَيَّرَت الْعَالِم لتجعله مُخْتَلِفًا تمامًا عَنْ سَابِقَةٌ، فَقَدْ كَانَت نَتِيجَة هَذِه الرِّحْلَة تَحَوَّل رُوسْيَا إلَى دَوْلَة شُيُوعِيَّة . وَمِنْهَا انْطَلَقْت هَذِه الأيديولوجية لتسيطر عَلَى دَوْلَة عُظْمَى أُخْرَى وَهِي الصِّين، ثُمّ أُورُوبَّا الشَّرْقِيَّة وَغَيْرِهِمَا، وتثير الاضْطِرَابَات الخطيرة فِي بلدان  كَادَت الحَرْبِ العَالَمِيَّة الْأُولَى تَحَرَّق الأخْضَرِ وَالْيَابِسِ فِي أُورُوبَّا وَأَرَادَت أَلْمانِيا أَن تَطِيح بِالحُكومَة الروسية لِلتَّخْفِيفِ مِن الضَّغْطُ عَلَيْهَا' وَلِذَلِك اتَّفَقَتْ مَعَ رَجُلٌ أَعْمَال رُوسِي مَشْبُوه يُدْعَى بارفوس لِلِاتِّصَال بالبلاشفة الشيوعيين لِقَلْب نِظَامُ الْحُكْم وسحب رُوسْيَا مِنْ الْحَرْب . 

مَا إنْ سَمِع لينين بالإطاحة بالقيصر فِي مارس/آذار عَام 1917 حَتَّى أَعْلَن مُعارضتِه لِلْحُكُومَة الْجَدِيدَة ودعى إلَى الْقَضَاءِ عَلَيْهَا وَكُلّ الْأَحْزَاب الْأُخْرَى، وَقَرَّر الْعَوْدَةِ إلَى رُوسْيَا بِأَسْرَع وَقْتٍ مُمْكِنٌ للسيطرة عَلَى قِيادَة البلاشفة هُنَاك وَتَحْقِيق طُمُوحِه فِي الِاسْتِيلَاءُ عَلَى الْحُكْمِ فِي رُوسْيَا، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَعْثُر عَلَى وَسِيلَةٌ لِلسَّفَر . وواتته الْوَسِيلَة عِنْدَمَا اتَّصَل بارفوس بِه عَارِضًا مُسَاعَدَة الألمان لَهُ بِهَذَا، فَوَافَق لينين بَعْد تَرَدَّد لِأَنَّهُ لَمْ يَكُن يَثِقُ فِي أَحَدٌ . وَكَانَت الْخُطَّة أَنْ يُسَافِر لينين عَلَى مَتْن قِطَار إلَى شِمَال أَلْمانِيا، ثُمَّ يَأْخُذ السَّفِينَةِ إلَى السويد، وَمَن هُنَاك يُكْمِل سَفَرِه بالقطار إلَى العَاصِمَة الروسية . وَكَانَت عَمَلِيَّة الْمُفَاوَضَات بَيْن الألمان ولينين مُعَقَّدَة وَدَقِيقِه، فَقَدْ أَرَاد لينين مُعَامَلَة خَاصَّة، وَأَنْ تَكُون أَرْض القِطَار ذَات اسْتِقْلَال تَامّ عَن سِيَادَة أَي دَوْلَة حَتَّى أَلْمانِيا نَفْسِهَا وَلَكِن الألمان اقترحوا مَرَافِقِه اثْنَيْنِ مِن الْحُرَّاس الألمان فِي القِطَار لِحِرَاسَة الرِّكَاب المهمين . وَلِذَلِك فَقَدْ تَمّ الِاتِّفَاقِ عَلَى رَسْم خَطّ بالطباشير بَيْن مِنْطَقَة الْحَرَس وَالرِّكَاب، كَي تَكُون مِنْطَقَة الرِّكَاب مُسْتَقِلَّةٌ . ولتنظيم عَمَلِيَّة الِاتِّصَال بالحرس أَثْنَاء الرِّحْلَة اعْتَمَد لينين عَلَى أَحَدٌ الشيوعيين السويسريين، عَلَى أَسَاس أَنَّه مُحايِد . 

عَرَفْت كُلّ زِيُورِيخ بِالرِّحْلَة، وَانْتَشَرَت الإشاعات حَوْل لينين وَاتَّهَمَه الْجَمِيع بِالْخِيَانَة الْعُظْمَى لتعاونه مَعَ أَعْدَاء رُوسْيَا . وَأَبْلَغ رِجَالٌ الْمُخَابَرَات البِريطَانِيَّة حكومتهم بِهَذِه التَّطَوُّرَات . وَقَبْل الرِّحْلَة بِيَوْم اتَّصَل لينين بِالسِّفَارَة الأَمْرِيكِيَّة لِلْحُصُولِ عَلَى دَعْم الْوِلاَيَات الْمُتَّحِدَة الأَمْرِيكِيَّة وحلفائها (كانت أَجْهِزَة مخابرات هَذِه الدُّوَل عَلَى دِرَايَة مُمْتازَةٌ بِنَشَاط لينين) وَأَجَاب عَلَى الْهَاتِف أَلِن دالاس وَكَانَ ذَلِكَ الْيَوْم عيدَ الفِصْح الْمَسِيحِيّ وآلن دالاس فِي طَرِيقَة لِلَّعِب التِّنِس، فَطَلَب دالاس، الَّذِي مَيَّز اسْم لينين، مِنْهُ أَنْ يَتَّصِل يَوْمَ الِاثْنَيْن وأقفل الْهَاتِف . وَتَدَّعِي مَصَادِر أُخْرَى أَن دالاس نَدِم أشَدَّ النَّدَم لِعَدَم الرَّدّ بِشَكْل إيَجَابِيّ عَلَى اتِّصَال لينين . وَكَرَّر دالاس ذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّة مَرَّات عِدَّةَ عَلَى أصدقائةِ وموُظفيِه مُذَكَّرًا إيَّاهُم بِعَدَم رَفَض طَلَب مُقَابِلِهِ أَيْ كَان. 

الرِّحْلَة

اِحْتَفَل لينين ورفاقه فِي أَحَدٌ الفنادق الرَّاقِيَة فِي زِيُورِيخ فِي اللَّيْلَةُ السَّابِقَة لِسَفَرِهِم . وَفِي السَّاعَةِ الْخَامِسَة فَجْرًا مِنْ يَوْمَ الِاثْنَيْن الْمُصَادِف التَّاسِعِ مِن أبريل/نيسان عَام 1917 تَجْمَع الْمُسَافِرُون الِاثْنَيْن وَالثَّلَاثِينَ فِي مَحَطَّة القطارات فِي زيورخ وَكَانُوا متعبين بِسَبَب حَفْلَةٌ اللَّيْلَةَ الْمَاضِيَة . وَوَقَع كُلٌّ مِنْهُم إقْرَارًا بتحمله كُلّ عَوَاقِب الرِّحْلَة، وَكَان الألمان قَد اشْتَرَطُوا أَنْ يَأْخُذَ كُلِّ مُسَافِرٌ كُلُّ مَا يَحْتَاجُهُ مِنْ مَأْكَلٍ وَمَشْرَب مَا يَكْفِي لطوال الرِّحْلَة . وَعِنْدَمَا دَخَل الْمُسَافِرُون عَرَبَة القِطَار اكتشفوا وُجُودِ أَحَدٌ الاشتراكيين الألمان، كَان الألمان قَد دسوه دَاخِلٌ القِطَار، فَضَرَبَه الْمُسَافِرُون بِشِدَّة وَأَخْرَجُوه بِالْقُوَّة . وَانْطَلَق القِطَار، وَلَكِنْ مَا أَن بَدَأَت الرِّحْلَة حَتَّى مَنَع لينين التَّدْخِينُ فِي القِطَار بِاسْتِثْنَاء الْحَمَّامَات، مَا سَبَبٌ اِزْدِحَاما كَبِيرًا فِيهَا، ثُمَّ مَنَع الضَّوْضَاء، مَا أَزْعَج الْآخَرِين أَكْثَر . وَلَكِنْ مَا إنْ وَصَل القِطَار الْحُدُود السويسرية حَتَّى تَوَقَّف هُنَاك، وَأُجْبِر حَرَس الْحُدُود السويسريون الْجَمِيعِ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْه وَقَامُوا بِتَفْتِيش حقائبهم بِدِقَّة وصادروا جَمِيع الْمَأْكُولَاتِ وَالْمَشْرُوبَات تَقْرِيبًا وَسَط اِسْتِيَاءٌ الْمُسَافِرِين الْوَاضِح، فَقَدْ كَانَ هُنَاك قَانُون ضِدّ تَصْدِير الْأَطْعِمَةِ مِن سُوِيسْرا أَثْنَاء الْحَرْب . 

أَلْمانِيا

عِنْدَمَا وَصَل القِطَار أَوَّلُ نُقْطَة حُدُود الْمَانِّيَّة وَشَاهِد لينين الْجُنُود الألمان فِيهَا، اِرْتَعَب مُعْتَقِدًا أَنَّهُ وَقَعَ فِي فَخ الْمَانِي، إلَّا أَنَّهُ كَانَ عَلَى خَطَأٌ لِأَنّ الألمان كَانُوا فِي الْحَقِيقَة يُرِيدُون فَقَط التَّأَكُّدُ مِنْ أَنَّ كُلُّ شَيْءٌ عَلَى مَا يُرَام، وَإِن يَسْتَطِيع الحَارِسَان الألمانيان الِانْضِمَامَ إلَى الرِّحْلَة، وَكَان الحَارِسَان فِي الْوَاقِع ضَابِطَيْن يجيدان الروسية . وَلَمْ يَكُن القِطَار مُقْفَلًا أَو مصفحا كَمَا يَعْتَقِد الْبَعْض، فَلَم تُقْفَل كُلّ أَبْوَابِه . وَعِنْدَمَا حَلّ اللَّيْل تَوَقَّفَ القِطَار بِالْقُرْبِ مِنْ إحْدَى الْقُرَى، حَيْثُ قَام الضابطان الألمانيان بِشِرَاء الطَّعَام وَالْجِعَة الألمانية لِلْمُسَافِرِين وَقَضّوا اللَّيْلَة هُنَاك لِلرَّاحَة . 

غَطَّت الصُّحُف الألمانية الرِّحْلَة بِكَثَافَة وَتَحَدَّثَت عَنْ الْمُعَامَلَة الممتازة تُجَاه الْمُسَافِرِين الرُّوسَ مِنْ قَبْل الْحُكُومَة الألمانية . وَكَان الصحافيون يُحَاوِلُون دَائِمًا الدُّخُولِ إلَى القِطَار عِنْدَمَا يَتَوَقَّف لِمُقَابَلَة الْمُسَافِرِين، خَاصَّة لينين . أَمَّا القرويون الألمان، فَقَدْ كَانَ لَهُم مَوْقِفٌ مُخْتَلَفٌ تَمَامًا حَيْث حقدوا عَلَى هَؤُلَاء الرُّوس الَّذِينَ تَقُوم الْحُكُومَة الألمانية بإطعامهم بِكَرَم شَدِيدٌ، بَيْنَمَا يَحْرُم الألمان مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَاب الْجَيِّد بِسَبَب الْحَرْب، وَلِذَلِكَ كَان القرويون الألمان يُحِيطُون بالقطار كُلَّمَا اسْتَطَاعُوا ذَلِك معبرين عَن سَخَطِهِم الشَّدِيد . وَعِنْدَمَا وَصَل القِطَار مَدِينَة فرانْكْفُورْت، نَزَل الضابطان الألمانيان مِن القِطَار لِلرَّاحَة، تَارِكِين الْمُسَافِرِين بِمُفْرَدِهِم، فَاسْتَغَلّ بَعْض الْجُنُود الألمان السُّكَارَى الْفُرْصَة واقتحموا القِطَار حَامِلَيْن الْجِعَة، وَسَأَلُوا لينين مَتَى تَنْتَهِي الْحَرْب . وَآثَارٌ هَذَا الْحَدَث حَفِيظَة الْحُكُومَة الألمانية، فَقَرَرْت تَشْدِيد إِجْرَاءات الْأَمْن . وَاسْتَمَرّ القِطَار فِي رِحْلَتِهِ حَتَّى وَصَل بَرْلِين وَبَقِي هُنَاك عِشْرِين سَاعَة، كَانَت الْحُكُومَة الألمانية خِلَالِهَا تَكْمُل إِجْرَاءات التَّأْشيرَة السويدية لِلْمُسَافِرِين وَتَرْتِيب السَّفَرِ فِي البَاخِرَةِ مِن أَلْمانِيا إلَى السويد، وَمَا إنْ تَمَّ ذَلِكَ حَتَّى انْطَلَق القِطَار مُسْرِعا . ولتجنب أَيْ تَأْخِير أَوْقَف قِطَار،،، لتبدأ حِقْبَةً تَارِيخِيَّةٌ،، مِن المد  الشُّيُوعِيّ . حَتَّي سقط ،،، وَخَرَجَ مِن القُضْبَان،، لِيَبْدَأ قطار  العولمة، والعهر  السِّياسِيّ، وصراع الحضارات ۔۔

 

محمد سعد عبد اللطیف  کاتب وباحث فی الجغرافیا السیاسیة

 

في المثقف اليوم