أقلام حرة

سلام ..... وأول غيث الكآبات في العام الجديد

وكان سبب تعكره هذه المرة اكتشافه دجل المحافظ  ابن محاصص وزوره بعد أنكشاف سوءته وظهور حقيقة شهادته، وهو الذي حرم سلام كآبة من فرصة التعيين مراقبا" لعمال البلدية لأنه حاصل على شهادة جامعية أولية ومثل هذه الوظيفة تحتاج إلى خبير ذو شهادة (عوليا) حسب تعبير المحافظ الهمام الذي عصر كل عضلاته وعوّج كل مكونات فمه ليخرج هذه الكلمة بما يتناسب وحجم (الاحتباس القراري) المكنون في جوف ذلك المحافظ الفذ. وبعد أن علم سلام بان شهادته الأصلية ذات الخط والفسفورة أهدرها ولم يحافظ عليها محافظ لا يملك حتى رائحة الشهادة الحقيقة، أصابه الغم الشديد بعد أن لعبت به الهموم و(الزحلاوي) معا"، فراح يصدح بطور خالد الذكر سعدي الحلي (ره):

ألف وسفه المحافظ طلع بذات

و صدگـ منه الگلب مهموم.... بالذات

لان چذاب ...عنده  نقص بالذات

ظلمني وضيّع الشغله عليّه

ولان سلام منحوس يرافقه سوء الحظ والطالع في حلّه وترحاله، لم ترتفع حمأة وطيس نشوته  إلا تزامنا" مع مرور دورية للعسس والشرطة الوطنية، من (لبسة) النظارات الشمسية إثناء الدوريات الليلية. ولأن هؤلاء القوم يسعون إلى استتباب الأمن الشخصي لسادتهم المسعورين، تسابق أفراد تلك الدورية لإلقاء القبض على المسكين سلام كآبه  والتنكيل به وكل منهم يقول لأصحابه: اشهدوا لي عند الأمير بأني أول من كفخ سلام (بعجل) ودفره  (بچلاّق). لم يفق سلام كآبه من هول الصدمة وثقل الخمرة والأكف والإقدام التي انهالت على رأسه ومؤخرته،  إلاّ وهو معلق (بالبنكة)  في غرفة بجوار مخدع ابن محاصص. ولان سلام صاحب مبدأ ورأسه يابس، ولأنه استقى خبراته الميدانية من التجربة المريرة التي عاشها أيام حكم الدولة العوجيّة في عهد السلطان الجائر صخّام بن أبيه (لع)، يدرك سلام تماما إن (المبلل ما يخاف المطر) وان القادم سوف لن يكون أسوأ من الذي مضى فاستمر بالعواء بصوته الأجش مناديا" أمير زمانه ووحيد أوانه:

ها ناح الگلب بسكوت ها...ون

ودگاتك  تدگـ بالراس.. هاون

ادورك وارد اشوفك وين ها.. وين

حتى احچيلك اشسويت بيه

من طباع سلام التي جلبت له كل مصيبة وأجرت عليه كل هول، عناده المتطرف  حين يتعلق الأمر بحق له عند من تسيدوا وهم ليسوا بأهل لها، ولأنه أحس بان الأمير لاه بولائمه و (عزائمه) التي لا تنقطع، وغارق حتى إذنيه بعسل جواريه وما ملكت أيمانه،  انفتحت قريحة عناده على مصراعيها فصار اعند من البغل واصلب من الصخر وارتجل قائلا":

على يد أهل (الزور) تأتي المصائب   .....    وعلى جدرالحكم تحلى العزايم

ما اريدك (تهب) لي من جواريك   ............      ولا اريدك تقاسمني  الغنايم

و(لا اتگلّي تعال اتفطّر وياي ................      ما افطر بلحم الفقره...... دايم)

بس... (كلكم راع وكلكم مسؤول عن ....) ... والرعيّة اتبهذلت والراعي نايم

وطفق يردد هذه المقطوعة بصوته الأجش جيئة وذهابا ولم تنفع معه كل محاولات الجندرمة لإسكاته مما اضطرهم الاتصال بالأمير ابن محاصص كي يخلصهم من وجع الرأس الذي جلبوه لأنفسهم بعد أن طيّر سلام النوم من عيونهم، وباءت كل محاولات إسكات (جعيره) المتدفق عنوة إلى دهاليز آذانهم، حتى وصل صداه المرعب إلى مخادع أميرهم. وتحت ضغط حريمه  وتوسلات مستشاريه، استجاب ابن محاصص مرغما" وأمر الحاجب بإدخال سلام كآبه  إلى قاعة عرشه. ما أن وقعت عينا سلام على الأمير الذي تربع على عرش بهي فرش بأرقى أنواع ريش النعام وغاص بثوب من السندس الفاخر وامتلأت أصابعه العشر (بخواتم) من الياقوت والألماس، اقسم بسرّه على أن ينتف ريش ذلك المغرور ريشة ريشة. ابتدأ سلام هجومه المباغت بصلية من الكلمات اللاذعة مستندا" على بلاغة عززتها  قوة امتلاكه لأدلة كافية لا تقبل الشك والتأويل على سوء ما اقترفت يد الأمير من غش من تزوير، وما إن سمع الأخير بافتضاح أمر شهادته  وشيوع  سرها وبيان الحجة عليه، انهار على الفور ولم يعد يملك ما يواجه به سيل كلمات سلام العرمرم  فأطلق الريح لساقيه و(بسلها).  لحقه سلام بما يملك من سلاح فتاك - صوته الأجش - كان الوحيد المتوفر لديه في ذلك الموقف الحرج وهو يردد منتشيا" بعد أن أحس بنشوة شفاء غليله ووضع ابن محاصص بموضع لا يحسد عليه أمام حريمه و بطانته وأفراد عسسه، اعتدل وعدّل هندامه وصرخ صرخة نصر مدوية:

سل برويحتي اوحارت بسلهه

من الناس الفرهدت كل شي بس الهه

المحافظ  من عرف (عيبه) بسلهه

گلب وجهه او بعد مامر عليه

فما كان من جند الأمير المحافظ ابن محاصص إلاّ أن غيبوا سلام كآبة في الدرك الأسفل من قصر النهاية خاصتهم. أتت الجلبة التي إثارتها أصوات ارتطام سلاسل البوابات ببعضها تارة وبعظام سلام تارة أخرى على ما تبقى من (حيل)  وعزيمة لدى ذلك المنحوس وأجهزت على كل محاولاته حتى ولو بالمقاومة اليائسة.  بعد أن توقف صرير أبواب زنزانات القبو الثقيلة وساد المكان صمت مطبق، تلمس سلام ما تبقى من لباس كان يستره ومد يده إلى جيب قميصه وكاد أن ينسى ما لحق به من ظلم وهوان على يد جلاوزة ابن محاصص  حين تحسس قطعة ورق كان أمير المگاميع قد كتب فيها          (مسودة) دستور إمارته ووزّعها على إتباعه كافة.  تهلل وجهه فرحا" وهو يتطلع إلى تلك النسخة التي خصّه بها الأمير بعد أن دبجها بهذه الكلمات:

لا ضاق صدرك من زمانك وانا حي      گلبي بلادك وأنت حضرة سموّه

تنفس سلام الصعداء وانفرجت أساريره وهو يدفعها إلى احد إفراد العسس راجيا منه إيصالها إلى مضارب أمير المكاميع  بعد أن دس بيد ذلك العسس علبة دخان كان فيها آخر عشر سگائر فضلت من زاد سهرته المشؤومة تلك.

تحت جنح تلك الليلة الظلماء دس فرد العسس تلك الورقة على عتبة دار أمير المگاميع وقرع الباب بعقب (جعازته)  ثم اختفى عن الأنظار بلمح البصر. حمل الأمير فانوسه وتوجه نحو الباب فما وجد إلاّ قصاصة الورق تلك، الأمر الذي حيّر أمير المگاميع لأنه علم إن سلام في (ورطة). ولكون سلام احد رعاياه المگموعين ومصيره أمانة في عنقه،استنفر الأمير قواته وأعلن الإنذار بين صفوف مگاميعه  وهام على وجه الأرض مخاطرا" بحياته وهو يحث الخطى بين موانع السيطرات وعوائقها ولم يبق باب لمسعور أو صاحب جاه أو سلطان أو زعيم متنفّذ، إلاّ وطرقه.  بعد أن يئس من الوصول ولو إلى (طرف خيط) يدله على مصير المفقود سلام كآبه، ولم يعثر سوى على روزنامة العام الجديد مطبوعة على ظهر إعلان انتخابي لقائمة الأمير ابن محاصص، امتطى  أمير المگاميع  صهوة ( دراجته الهوائية) وعاد أدراجه خائبا"، خالي الوفاض، وهو يرتجز ويقول :

أقبلت يا عام، والأحــــزان أحزان         وفي ضمير القوافي ثار بركان

أقبلت يا عام، والرمضاء تلفحني          وقد شكت من غبار الدرب أجفان

أقبلت يا عام، والظلماء كاشفة            عن رأسها، وفؤاد البدر حيران

أقبلت يا عام، والأحزان نائمة             على فراشي وطرف الشوق سهران

من أين نفرح يا عام الجراح وفي         قلوبنا من صنوف الهمّ ألوان؟

من أين نفرح والأحداث عاصفة           وللدمى مقَل ترنو وآذانُ؟

من أين .. نفرح يا عام الجراح وفي     دروبنا كتل قامت وجدران؟

من أين .. والنخب الغراء نائمة           على سرير الهوى، والليل نشوان؟

أين الأماني .. لا بدر يلوح لنا             ولا نجوم بها الظلماء تزدان؟

أين الوعود، و لا بحر ولا جزر           تبدو، ولا سفن تجري وشطآن؟

أين الأحبّة ؟!....وارتد السؤال إلى       صدري سهاماً لها في الطعن إمعان

 

صقر الحيدري

[email protected]

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1278 الثلاثاء 05/01/2010)

 

 

في المثقف اليوم