أقلام حرة

التفسير السوسيولوجي لنشأة وتطور الفكر السياسي الإسلامي (2)

محمود محمد علينعود ونكمل الجزء الثاني من حديثنا عن التفسير السوسيولوجي لنشأة وتطور الفكر السياسي الإسلامي  فنقول : كان الحج إلى مكة مصدرًا آخر من مصادر الرزق وفرض السيادة، إذ اكتسبوا به اعتراف العرب بمكة عاصمة دينية لهم إضافة إلى كونها عاصمة اقتصادية. وقد فرض هذا سيادة التجار الأغنياء من قريش، مالكي الثروة والعبيد وزمام تسويق البضائع، وأوصل مجتمع مكة إلى مستوي من الغني والترف في جانب، ومن الفقر والتقشف من جانب آخر، يعبر عنهما الخير الذي يفيد أن " عبد الله بن جدعان"  أرسل ألفي بعير لتجلب له البُر والسمن للفقراء. فهذا الخبر يدل من جهة على مستوي من الثراء يتيح لثري واحد أن يتصدق بحمولة ألفي بعير من البُر والسمن. ومن جهة ثانية على وجود عدد كبير من الفقراء يحتاج إلى مثل هذه الحمولة، ومن جهة ثالثة على وصول التفاوت الطبقي إلى درجة من الحدة اضطرت هذا الثري إلى إجراء ما يحول دون تطور الأمور إلى صراع يحول دون استمرار النظام الاجتماعي القائم وتطوره .

وبغية توفير شروط الاستقرار والتطور السياسي عرفت مكة، ما سُمي "دار الندوة"، وكانت للحل والعقد، وإذا بدا أن فئة من القرشيين تعتدي عقدت فئة أخرى ما سُمي " حلف الفضول"، وهدفه إنصاف المظلوم من الظالم.

في هذا الوسط التي ذكرنا، وُلد النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) في مكة، وشب في جو تجاري شارك ببعض نشاطه في شبابه قبل أن يتفرغ للدعوة الإسلامية، فأخذ يبشر بدين جديد قائم على الوحدانية المطلقة، ويحمل في ثناياه عوامل التغيير والإصلاح، فدعا إلى عبادة الله الواحد الأحد القيوم والقدير، والطاعة، والتسليم المطلق بالإسلام، إذ: إن الله كريم رحيم يعد عباده ومن يُسلم أمره إليه الجنة، ويبعث في قلبه الإيمان وهو واهب الأشياء ومقسم الأرزاق يحث المسلم على السعي والعمل من أجل دنياه وآخرته .

بيد أن قريشا خشيت على نفسها وعلى مصالحها من أمر هذه الدعوة الجديدة ووجد فيها زعماؤها تهديدًا لعقيدتهم وخطرًا على نفوذهم ومكتسباتهم، فقاموا يضطهدون الرسول وأصحابه الذين أمنوا بدعوته، ما حمله إلى الهجرة إلى يثرب التي عُرفت منذ ذلك الحين بالمدينة المنورة، وقد تغير موقفه في المدينة المنورة، فلم يعد يكتف بالدعوة، بل راح ينظم المسلمين من المهاجرين والأنصار، ولما كانت الشريعة لا تختلف عن العقيدة أو الإيمان، وتتمتع مثلها بسلطة إلهية ملزمة تضبط الشؤون الدينية والأمور الدنيوية، فتفرض على المسلم الزكاة والجهاد ضد المشركين لحملهم على الدخول في الإسلام، ونشر مبادئ الدين الحنيف. وبعد مواجهات عسكرية مع قريش استطاع النبي فتح مكة، فأسلم أهلها، واقبلوا على الدعوة الجديدة محافظة منه على ما كان لهم من مكانة في الجاهلية، وفرض على كل مسلم ومسلمة الحج إلى بيت الله الحرام مرة واحدة على من يستطيع ذلك، وتصرف بمناسك الحج وشعائره بما يتوافق مع مبادئ الإسلام، فألغى منها ما يتعلق بالوثنية، ولم تلبث القبائل في أنحاء الجزيرة العربية أن تكون قد أقبلت على الدين الجديد، وتم للجزيرة العربية وحدة دينية وسياسية متماسكة لم تعرف مثلها من قبل .

ثانيًا : طبيعة الفكر السياسي الإسلامي:

إذا كان العرب لم يتفاعلوا ولم يخضعوا للنظام السياسي لا عند الفرس ولا عند الروم، فكيف الشأن وقد جاء الإسلام بقيادة نبي الرحمة، فألف بين قلوبهم وجعلهم أمة واحدة ؟ أين الفكر السياسي الإسلامي من هذه النماذج السياسية ؟

منذ أن هاجر الرسول – (صلى الله عليه وسلم) - من مكة إلى المدينة (622م)، بدأت مسيرة الدولة الإسلامية السياسية والمؤسساتية. وكان الشغل الشاغل للرسول والصحابة يكمن في نشر الدعوة وإرساء قواعدها، والتمكين للدين الجديد لأن يستقر في قلوب المؤمنين، وهنا أكد الرسول أنه لا بد مع الدعوة من عمل، ولا بد مع التشريع من تنفيذ، ولا بد مع العلم من تطبيق؛ فشرع الرسول وأصحابه بإبرام المعاهدات، وتنظيم العلاقات الاجتماعية، وصياغة القوانين، والأحكام المستمدة من القرآن، كما كان يعمل على تنفيذها.

ولم يمض وقت طويل في المدينة دون إتمام الدعوة وتبليغها حتى تبين للرسول وأصحابه، أن هناك عقبات تحول دون إتمام الدعوة وتبليغها – ذلك أن دعوة النبي الإصلاحية ثورة شاملة، والمبادئ الجديدة التي غرسها في المجتمع الجديد؛ مبادئ على غاية من الكمال، والمكاسب التي كسبها الناس من وراء هذه الثورة مكاسب ما كانوا يحلمون بها أبدًا. فمن ذا الذي يصدق أن يجلس السادة مع العبيد في مجلس واحد يقفون في الصلاة صفًا واحدًا؟ ومن ذا الذي كان يصدق أن الغني المترف مكلف - رغم أنفه - أن يدفع ضريبة مستحقة مفروضة للفقير والضعيف؟ ومن ذا الذي كان يصدق أن يتحرر الإنسان من ظلم أخيه الإنسان فلا يعبده ولا يسجد له ولا يسبح بحمده ويتغنى بذكره ؟ ومن ذا الذي كان يصدق أن المرأة المحتقرة التي كانت تُؤأَدُ وتورث كالمتاع، تتحرر وتكرم ويحترم رأيها وتحترم إنسانيتها وتسهم بواجبها المشروع في خدمة المجتمع ؟ من ذا الذي كان يصدق هذا وغيره من المبادئ والغرس الجديد التي جاءت بها ثورة الإسلام؟، من أجل هذا أذن الله لرسوله بالقتال كي يكون الدين لله، وألا تكون فتنة ومن أجل المستضعفين من الرجال والنساء.

ومن هذا المنطلق جمع النبي (صلى الله عليه وسلم) جيوش المسلمين المؤمنين ونظمها وقادها لحماية الوحدانية الخالصة والعقيدة الصحيحة من عدوان المعتدين، لتبلغ الأسماع والقلوب، فكان أن قام النبي (صلى الله عليه وسلم) بقيادة سبع وعشرين غزوة بنفسه (غير السرايا والبعوث) كانت آخرها غزوة تبوك .

ويمكن لنا بناء على هذه الغزوات أن نستنتج نتائج عظيمة لها ثلاثة مستويات كما يلي:

1- المستوي السياسي

أنها وحدت قبائل العرب تحت لواء الإسلام؛ حيث ألف الإسلام بين قلوبهم، وقضي على العصبية الجاهلية؛ فزالت الحزازات القديمة والثأرات التي بين القبائل، فخضعوا لحكم النبي وأوامر القرآن بعد أن كانوا يدينون لرؤساء متفرقين، وبذلك قامت في بلاد العرب حكومة مركزية موحدة عزيزة الجانب، كما كشفت هذه الغزوات  عن جانب هام، وهو أن حماس العربي للإسلام وولاءه له لا يقل عن حماسه لوثنيته واستبساله في الذود عنها، ومن ثم بذل النفس والنفيس في سبيل نشر الدين وحمايته حتى دانت قبائل العرب وأصبحت تري في الإسلام رمز وحدتها وشعار مجدها.

2- المستوى التنظيمي

إن الرسول قسم جزيرة العرب إلى مقاطعات هي: المدينة المنورة (عاصمة لدار الإسلام؛ حيث تصنع فيها السياسات العامة والخاصة للمسلمين في أرجاء الجزيرة)، تيماء، الجند، ومقاطعة بني كندة، ومكة، ونجران، واليمن، وحضر موت، وعمان، والبحرين. ونصب الرسول على كل مقاطعة من هذه المقاطعات واليًا عهد إليه بإقامة الحدود وإنقاذ الأحكام وتوطيد النظام وإعداد الترتيبات الخاصة بالقضاء. وإلى جانب الولاة عين الرسول عمالا على كل منطقة لجمع الزكاة والصدقات .

3- على مستوى الفكر السياسي:

أن سادت مفاهيم الحرية والمساواة، والعدالة، والشورى بين المسلمين في أرجاء جزيرة العرب؛ بل إن هذه المفاهيم السياسية التي تضمنها الإسلام، والتي وجدت تطبيقًا فعليًا لدى المسلمين في عهد رسول الله كانت إحدى العوامل الحاسمة في دخول كثير من الشعوب في دين الله أفواجًا والمصادر التاريخية تؤكد ذلك.

ومع الشيخين أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب (السياسيين الفذين في تاريخ الإسلام بلا منازع) استمرت المحافظة على ثوابت ومبادئ ثورة الإسلام، واستمرت كذلك الفتوحات واستمرت الأمة الإسلامية الناشئة تكسب إلى صفوفها عصبيات جديدة، ولقربهما ومعايشتهما لرسول الله – اكتسبا الحس الإسلامي السليم، فاستطاعا عبر توظيف هذا الحس من تحويل الفكرة والمثال إلى واقع معاش وأفعال منجزة؛ فأكملوا المهمة التي بدأها الرسول الكريم، فأبو بكر الصديق (رضي الله عنه)، الذي آلت إليه الخلافة بعد أن انتقل الرسول إلى جوار ربه في يوم الأثنين 12 ربيع الأول سنة 11 هجرية الموافق 8 يونيو سنة 632ميلادية؛ والذي تصوره المراجع التاريخية كشيخ رقيق الحس، ما هو في حقيقة الأمر إلا رجل صلب الإرادة لا يقبل التفريط في ثوابت الإسلام، فكان أول عهده بالخلافة أن حمل على المرتدين حملة لا هوادة فيها (وهي من الحركات السياسية الأولى في تاريخ الإسلام) وما لبث النظام السياسي أن استقر حتى  كانت الجيوش الإسلامية تفتح بلاد الفرس والشام، وعندما تولى عمر بن الخطاب الخلافة (13 هـ - 634م) استمرت المحافظة على ثوابت ومبادئ ثورة الإسلام، واستـمر كذلـك تدفق الناس من كل جنس أفواجًا لنيل شرف العضوية في دين الإسلام المشاركة في أعماله وفاعليًاته ونشر مبادئه، فاستمرت الغزوات وتوالت الفتوحات الكبرى، ومع هذه الفتوحات وجد المسلمون موارد أساسية وضخمة لتمويل بيت المال (الجزية والخراج) بالإضافة إلى ما كانوا يغنمون. ومع توسيع رقعة الدولة التي ذهبت كل مذهب، زادت موارد الدولة المالية. فمن سور الصين شرقا وجبال الهند وباكستان تنتشر الدولة الإسلامية حتى  جبال الأطلسي في الغرب، ومن تركيا في الشمال حتى  اليمن جنوبًا، إنها ليست دولة، وإنها إمبراطورية بالمعنى القديم للكلمة . واستطاع المسلمون في زمن قياسي أن يقوضوا أركان الإمبراطورية الفارسية فمحوها من على خريطة العالم، كما نجحوا أيضًا في وثبتهم تلك في انتزع الشام ومصر وشمال إفريقيا من الإمبراطورية البيزنطية، وأن يهددوا الحدود الجنوبية لها حيث كانت تجري معارك بين المسلمين والبيزنطيين على طول هذه الحدود .

ولم تقف حركة الفتوحات الإسلامية الأولى إلا من خلال  أحداث الفتنة التي شهدتها المراحل الأخيرة من خلافة عثمان بن عفان (رضي الله عنه) (23 هـ-35هـ/ 644م-656م) وما تلاها من حروب داخلية بين على بن أبي طالب (رضي الله عنه) (35-40هـ/656-661م)، ومعاوية بن أبي سفيان (41هـ/661م)، وإلي الشام حينئذ، ولقد أدت هذه الفتنة إلى انشغال المسلمين عن تثبيت أقدامهم في البلاد التي فتحوها، وعن نشر الدعوة، مما يعكس الأثر السلبي للخلافات الداخلية عن وضعية الأمة الإسلامية الناشئة على الساحة الخارجية، وهذه السلبية سوف تصبح نمطًا يتكرر مرات عديدة في التاريخ الإسلامي، فأضحت الخلافات الداخلية عاملا مهددًا لوجود ومكانة الأمة الإسلامية في لحظات الضعف .

وهكذا فإنه بعد خمس سنوات من فتنة عثمان ستطوي الأمة الفتية هذه الصفحة الحزينة من الصراعات الداخلية، عندما ينجح معاوية بن أبي سفيان في تأسيس الخلافة الأموية لتستعيد الأمة الإسلامية قوتها من جديد ولتستأنف اكتساحها لسواد العالم القديم شرقًا وغربًا، إذ أثبت خلفاء بني أمية أنهم على قدر عال من الاقتناع بسياسة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الخارجية. فالخلافة الأموية استوعبت حجم وطبيعة الخطر القادم من الدول غير الإسلامية على الإسلام وآمنت أن خير وسيلة لمواجهة الخطر هي الهجوم وليس الدفاع.

أما غايتها النهائية من تعاملها الخارجي، فكان حمل راية الإسلام إلى أرجاء العالم القديم، وهذه الغاية كان لها دلالة عظيمة فيما يتعلق بشكل نظام العالم آنذاك، التي كانت الخلافة الأموية تسعي إلى إقامته، من نظام ثنائي الأقطاب، إلى نظام يتحكم فيه قطب واحد وهو الأمة الإسلامية .

هذه هي الصورة العامة للواقع السياسي الإسلامي في النصف الأول من القرن الأول الهجري / السابع الميلادي، الذي ما كاد ينتهي حتى  ساد الإسلام كثيرا من أرجاء العالم وربوعه آنذاك.

ومن هنا يتبين لنا أن مقومات النظام الديني الأساس الاقتصادي الجديد، ومنذ بداياته الأولى المتمثلة في تجربة المدينة، لاستطعنا أن نحددها على النحو التالي:

1- الدين الجديد الذي أوحى به الله إلى رسوله.

2- القيادة الفذة التي كان  الرسول على رأسها.

3- الوحدة التي أوجدها الدين الجديد ليس فقط بين أتباعه وإنما بين مختلف قبائل الجزيرة.

4- البناء التشريعي القانوني الذي جاءت به الدعوة والذيكان  يتم استكماله من خلال الممارسات الفعلية نفسها ( أسباب النزول).

5- المؤسسة الاقتصادية التي بدأت بتبرع القادرين والموسرين من المسلمين من أجل تمويل الجيوش اللازمة للدفاع عن الدين الجديد، وانتهت بتأسيس "بيت المال". على أنه ستتوفر لبيت المال مصادر أخرى للتمويل أكثر أهمية وأكثر ثراء حين يتم فتح البلاد ذات الموارد الاقتصادية المتطورة وستكون "الجزية" و "الخراج" أهم هذه المصادر .

لقد استمر المشروع الثقافي الحضاري للأمة العربية الإسلامية موضوعاً في مستوى أدنى من الاهتمام والعناية طوال عصر نشر الدعوة داخل الجزيرة وخارجها في عصر الفتوحات، وحتى قيام الدولة الأموية.

ثالثًا: نظام الحكم في الإسلام.

هناك سؤال أثار الكثير من المؤرخين والمفكرين خاصة عقب الأحداث الجسام التي كانت بين على بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان وهو : كيف تتحقق الأمة الإسلامية ؟

كانت إجابة الأمويين بخلافة عربية تتزعمها قريش (بعض بطونها) وتتبعها الشعوب الأخرى، وكانت حجتهم العقلية في ذلك أن الكتاب والسنة لم يحددا شكلا خاصا للحكم، لكنهما بينا الأصول التي تحدد طبيعته مهما اختلف شكله، تركا لهذا الشكل فرصة الاستجابة لظروف كل عصر، والتطور مع تطور معارف الناس، وزيادة عدد السكان، واتساع رقعة الأمة الإسلامية .

وعلى هذا الأساس آل أمر الخلافة إلى بني أمية من بطون قريش وأصبحت الخلافة ملكا سياسيا. واحتلت الشورى مكانة مهمة في النظام السياسي الأموي عند معظم خلفائهم وولاتهم، واحتفظ الأمويون بالاتصال المكثف بالرعية، أما اعتماد الأمويين ولاية العهد مذهبًا في توريث الخلافة – رغم مخالفة ذلك النسق الإسلامي الأعلى الذي يؤثر الشورى الكاملة في اختيار الخلفاء – فهو أمر كانت ظروف المجتمع الإسلامي توحي به، وكان عدم وجود طريقة واحدة للاستخلاف في عصر الراشدين، وما جري بين المسلمين من تقاتل ودماء بسبب اختلافهم حول منصب الخلافة، دافعًا لمعاوية للتفكير على ذلك النحو، ولم يكن الأمويون وحدهم في الحقيقة هم الذين يعتمدون هذه الطريقة من الحكم، بل كان خصومهم من الشيعة على ذات الطريق، بل هم في الحقيقة أول من ابتدعها وطبقها، ثم أصبحت فكرة راسخة في النظام السياسي الإسلامي عدة قرون فلم يغيرها العباسيون أو من تلاهم .

وكانت الدولة الأموية تهتم بالفتوحات الإسلامية حتى قيل أنها "فتحت بلاد الهند والسند، حتى وصلت حدود الصين شرقاً، وواصلت فتوحاتها في المغرب العربي، بل وجاوزته إلى أوروبا، حتى فتحت الأندلس، ووصلت جنوب فرنسا" .

وقد شهد العصر الأموي عديدا من المنجزات الحضارية الكبري التي واكبت حاجات الأمة وتطورها السياسي والإداري والنفسي... فكان منها ما اتجه إلى تطوير الإدارة الإسلامية بابتكار بعض الدواوين مثل ديوان البريد وديوان الخاتم... والاتجاه إلى

صهر الأمة الإسلامية مختلفة الأجناس في الإطار العربي، وذلك ببدء حركة التعريب الكبري؛ سواء  بتعريب أهم دواوين الدولة وهو ديوان الخراج؛ أو بتعريب العملة، وذلك بسك العملة الإسلامية؛ مما حقق الاستقلال الاقتصادي للدولة الإسلامية .

وجاء العباسيون بعد انتزاعهم الخلافة من الأمويين، وكانت إجابتهم واضحة إزاء كيفية تحقق الأمة الإسلامية. وذلك من خلال سياسة الموازنة التي اتبعها العباسيون الأوائل بين عصبيات الأمة. فقد كانت الفئات التي حملت العباسيين إلى السلطة – فئات العرب والموالي بالعراق وخراسان – هي عصبيات المعارضة الصلبة للسلطة أيام الأمويين باسم الأمة وتجربتها التاريخية. لذا فإن قيام السلطة العباسية حقق انفساح الآفاق لتحقيق فكرة الأمة الإسلامية العالمية. وكان من نتائجها الأولى إزالة الفروق بين العرب والمسلمين على المستويات كلها.  ثم كان من نتائجها كتكملة لذلك الاعتراف بالعصبيات كلها، بل إن الاستيعاب النظري لمستجدات الوضع الإسلامي جعل الفقهاء في العصر العباسي مستعدين لإعطاء تلك المستجدات الصبغة الفقهية الشرعية، بحيث أمكن القول بأن ظهور عصبيات غير قبلية أو إقليمية تشارك في السلطة ليس ممكنا، بل هو أمر متحقق وشرعي ولا يناقض القرآن والسنة .

وقد ترتب على تلك السياسة التي اتبعها العباسيون نتائج هامة لعل أهمها تخليهم عن سياسة الفتوحات والقتال كأداة أولى من أدوات نشر الإسلام، وكأداة لتعاملهم مع الدولة البيزنطية.

ولقد شاء أبو جعفر المنصور، الخليفة العباسي الثاني، بعد أن شيد عاصمة خلافته (بغداد)، وأطلق عليها اسم  "دار السلام أو مدينة السلام"، أن يثبت من دعائم ملكه بإخضاع العلويين المناهضين له في الحكم، ثم يتجه بعد ذلك لاختيار أفضل أساليب الحكم والإدارة، وأغلبها مأخوذ من النظام الفارسي عن طريق مستشاريه الفرس، الذين قامت على أكتافهم الدولة العباسية . وللحديث بقية !!

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل - جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم