أقلام حرة

مذكرات اعتقال للزمن العربي.. وفاصلة أمل واحدة

اسماء شلاش"من وحي موت الرئيس الشرعي الوحيد محمد مرسي"

رحل الرجل العربي الوحيد في الزمن العربي الحديث الرديء الذي لم يكن يوماً حداثياً إلا بنوع الذل الذي تتغير جودته يوما بعد يوم.. رحل.. فالأشجار لا تنحني، إما أن تنكسر أو تموت شامخة واقفة وهو ذا محمد مرسي الذي أخرس الجميع في حياته وفي مماته لم يجرؤ أحد أن يودعه بجنازة تليق عالأقل بالموتى.. لم يجرؤ أحدٌ أن يرثيه على الأقل ببضع كلمات إرضاء لأذناب الغرب من حثالات العلمانيين الذين يرون أن ذلك يسيء ل(داعشية) علمانيتهم التي لم تعترف يوماً بالآخر، ولم تعرف سوى الإقصاء والترهيب الفكري، فهم اعتادوا أن يحضِّروا تلك التهمة "الببغائية" الغبية "إخواني"..! حتى صار الجيل العربي الجديد باللاوعي ينسى أن عدونا الرئيسي هي إسرائيل، إسرائيل ولا أحد سواها، ومن خلفها كل الأنظمة الفاسدة التي تتعامل معها سراً أو جهراً..

قتلوا الرجل العربي الوحيد في شرعية السياسة العربية.. فمنذ متى لم نجرب متعة الاختيار الحر، لعللنا نسجل نقطة واحدة مشرفة في تاريخنا العربي الحديث الحافل بالنكبات والنكسات والهزائم.. لكن هيهات أن تليق تلك المهمة بهذا الزمان العربي. قتلوه كما يقتلون غيمة لكن هيهات أن يمنعوا المطر، قتلوه كما يغتالون شمساً فكأنَّ لا مكان للشمس في كل هذه الظلمة ولا مكان للنور في غسق العبودية.. قتلوه كما يغتالون جبلاً لكن من قال أن الجبال تنتهي..لاشيء يلغي شموخ الجبال.

ليس محمد مرسي وحده، قبله كان محمد الدرة وحصة العرب من دمه وتلك الفجيعة التي لم تنتهِ. رصاص العدو الإسرائيلي الذي يصوب لم يخطأ لو لم يهديه الصمت العربي إلى الهدف.. لكن أيام الصمت التي نترحم عليها ونشتاق إليها صارت بطولات أمام مايجري اليوم في الواقع العربي الفاسد حتى النخاع.. ما أخف وطأة أيام الصمت القديم أمام عبودية اليوم التي حطمت كل الأرقام القياسية، لم يكن يتوقع أحد أن يصل العرب والنظام الرسمي العربي إلى هذه الدرجة من الانحدار والسفالة والانحطاط... فلابد أن يرحل الرجال، فليس ثمة رجل حقيقي دخل سجناً ليخرج منه بكل بساطة.. هم سيقتلونه وقد فعلوا كما اغتالوا كل ثورات الياسمين في زماننا لتحضر شياطينهم تحت العمامات المزيفة التي أعطتهم شرعية لاشرعية.. والرجال الحقيقيون هم وحدهم من يدفعون ثمن المواقف، بدءاً بالسلطان العثماني عبد الحميد الثاني الذي رفض بيع فلسطين لليهود، فدفع الثمن وهو يعرف أنه سيدفعه، ورغم أن الإمبراطورية العثمانية آنذاك كانت تعاني من أزمة ديون حادة فلم تغره أموال الصهاينة، فما كان إلا أن عزلوه ليبدأ عهد جديد تكرس بسيطرة العلمانيين على الحكم في آخر معاقل الإسلام آنذاك..

هكذا يدفع الرجال ثمن المواقف أما أشباه الرجال فعليهم أن يمسكوا أطراف الظلال ليختبئوا من لعنة اغتيال الرجولة الحقة في زمن الانحدار.. لكن هيهات أن تغطى الشمس بغربال وهيهات ألا ننتظر الربيع على أبواب الخيبات فنحن محكومون بالأمل.. أمل نهرب إليه ونحاول أن نمسكه، نجده تارة في النخوة التركية العثمانية-اللاعربية- التي فاقت تلك النخوة العربية التي لم تعد أصلاً موجودة..

هو نفسه ذاك الربيع العربي الذي أتى بمحمد مرسي إلى سدة الحكم لأول مرة في التاريخ الحديث، ثم أسقطوه.. فاغتالوه ليكملوا مشروع سحق الربيع وتطلعات الشعوب.. فكل البلدان التي شهدت ثورات تم تدميرها حتى يتوب البقية عن عدوة الثورة، نكاد نجزم أن ما تدفعه الإمارات متمثلة بشيطانها محمد بن زايد لوأد الثورات قادرة على إعمار بقية كواكب المجموعة الشمسية وليس فقط سورية والعراق وليبيا وغزة واليمن..إلخ

أموال تصرف أيضاً لتصفية القضية الفلسطينية -التي من المفترض أنها قضيتهم المحورية- حتى يتفرغوا لقتل ما تبقى من حلم الثورات بعد أن أرهقهم حمل هذه القضية مدة أحد وسبعين عاماً، فلم تعد تجدي أيام الشجب والتنديد التي صرنا نترحم عليها ونتمناها، فاليوم صار الانتماء إلى القضية تهمة وصار التطبيع مع العدو امتياز لتمديد الزمن اللاشرعي، هو السبب ذاته الذي جعل من كراسيهم تتطاول لعقود. فقضية فلسطين التي ما فتئوا يبيعونها في كل لحظة في المزادات العلنية حان وقت بيعها دفعة واحدة فقد صارت لهم صداعاً مزمناً، ولعل اغتيال مرسي هو جزء منها فهو الذي يذكرهم بفلسطين..ثم بعد ذلك كله يتفرغوا للترفيه عن أنفسهم وعن شعوبهم، تارة بالديسكو الحلال وتارة بإحياء الحفلات الماجنة ليس ببعيد عن الحرمين الشريفين، ولم لا ؟! فالجماعة طوال هذه الفترة كانوا مشغولين بقمع الثورات وتصفية القضايا وحقهم الطبيعي يرتاحوا ويرفهوا عن أنفسهم..!!!

بالتوازي يجتمع بهم اليهودي الحقير كوشنير ليضربهم مثل جواريه بالعصا. لم يتعلموا من التاريخ بأن الخيانات قد تعيطهم متعة ما، لكنها لا تعطيهم الأبدية. فظلت لعنة فلسطين التي فرطت بها الخيانات تطاردهم وتغض مضاجعهم وتنام جوارهم ككابوس هذا طبعاً إن كانوا رجالاً، لأني بصراحة لازلت أشك برجولة الحاكم العربي.. لم يجدوا في الرجل تهمة واحدة ذميمة فقالوا بأنه يتخابر مع حماس..!! هل هي سخرية القدر أن تنقلب الموازين لهذه الدرجة من الوقاحة والغباء والاستخفاف، فتصبح قطر العربية –مثلاً- وحماس الفلسطينية وتركيا وسواهم هم العدو وتصير إسرائيل وغيرها الحمل الوديع الذي ينقصنا منطق بحجم المجموعة الشمسية حتى نصدق كل هذا الاستخفاف.. الاستخفاف بالعقل العربي وصل لدرجة أن يصبح السيسي في موقع الحكم.. فهل عمرو بن العاص أول حاكم لمصر حاكم؟ وهذا الرجل حاكم! فما هذه السخرية..! ليس فجوة الذكاء والعقل وحدها بل وقار الرجولة وأشياء أخرى كثيرة.. كثيرة جداً...لعله الابتلاء الإلهي ليس إلا.. ثم هل تظنون أن الصفقات تمحو شرعية لقضايا ؟ هل الصفقات والاتفاقيات السابقة بما فيه اتفاق أوسلو –مثلاً- أوقف يوماً نضال الشعب الفلسطيني..( يعني من الآخر بلوها واشربوا ميتها)..! فحق شعب كامل تم اقتلاعه من جذوره و أرضه وتشتت في أرجاء الكون لا يمحى بجرة حبر؟ عيشوا الأوهام لوحدكم، فطفل فلسطيني واحد يعطيكم ألف درس بالرجولة ويرد عليكم بطريقته.. وسأقول لكم مثلاً فلسطينيا شعبياً:(لو كانت عكا خايفة من هدير البحر ما وقفتش ع الشط)

ويبقى العار والخزي لكم وحدكم كي تلعقوا المزيد من حذاء ترامب وكوشنير، وتجربوا عبوديتكم ألف مرة، فماذا فعل لكم المال سوى الذل والمهانة والاحتقار، فأنتم الحالة البشرية الوحيدة في الوجود التي تشتري بالمال ذلاً. وها هو ذا كوشنير اليهودي يعيد عليكم التاريخ الذي لم تتعلموا منه شيئاً، ويكرر عليكم تجربة لورانس العرب الذي خدعكم حتى النخاع.. وهنا أستحضر المقولة الشهيرة لآينشتاين" الغباء هو فعل الشيء مرتين بنفس الأسلوب ونفس الخطوات وانتظار نتائج مختلفة" وطبعاً أنتم تعديتم العدد...

يموت رجل مثل مرسي دون مراسم تشييع.. فكيف تنفعكم التجارب؟! في مصر أم الدنيا-كما يسميها أهلها- خرجت مصر كلها في جنازة المطرب عبد الحليم حافظ لكن ممنوع أن يخرج أحد في جنازة مرسي.. في مصر فقط تقدم الراقصة برنامجاً دينياً ويصير حارس الملاهي الليلية إعلامياً يحاضر بالشرف ويعطي دروساً لتركيا ورئيسها أردوغان.. في مصر يصير محمد أبو تريكة إرهابياً والسيسي الزاهد بثلاجته هو الوطني.. تلك هي موازين العقلية العربية السياسية اليوم.. وبدل أن يوقفوا "الزعرنة" والتمدد الإيراني الذي احتل نصف عواصمهم بما ذلك "تخوت" نومهم، تذهب أموالهم لشيطنة الإسلام والمسلمين ووأد الثورات وبيع القضايا العادلة..

وقفوا فترة مع الثورة السورية لكنهم عادوا للطبع القديم، فهم زملاء مهنة، تقتضي مهمتهم أن يساندوا مجرماً كبشار الذي قتل من السوريين أَضعاف ما قتل العدو الإسرائيلي الغاشم من الفلسطينيين. وقبله أبوه حافظ صاحب المجزرة الأشهر في تل الزعتر حيث قتل ما يقارب 4000 لاجئ فلسطيني ليمحو كل ما هو فلسطيني. وهذه هي مهمة عائلة آل الأسد المجرمة، الحفاظ على أمن إسرائيل. ففرنسا التي زرعتها في الحكم بكل خبث كانت على يقين أنهم سيقومون بالمهمة على أكمل وجه.. مهمة أكملوها بتدمير سورية بلد الحضارة والأبجدية..

الامارات الصهيونية المتحدة دفعت أموالاً طائلة لإطالة أمد الازمة التي يسمونها أزمة، لكنها أعدل الثورات ضد أعتى الأنظمة.. نظام ليس لهم مصلحة في سقوطه لاهم ولا أوروبا (اللي عم تشرشر منها حقوق الإنسان شرشرة وبتحب تعمل معلم على غيرها) ولا أمريكا، ولا(القومجيين) العرب بحسب تعبير الإعلامي فيصل القاسم، لأنه-النظام السوري- بكل بساطة هو المعادل الموضوعي للبقاء الإسرائيلي..حتى لو كان ذلك على جثث السوريين..

ايران لا تملك ربع ربع ما يملكون، نصف شعبها وربما أكثر يعيش تحت خط الفقر لكنها احتلت حتى غرف نومهم، وصواريخها تنهال عليهم مثل خيباتهم، فبدل أن يجابهوها اختاروا أن يجابهوا دولة مثل تركيا التي لا تملك أي نوايا أيديولوجية أو توسعية تجاه المنطقة. ثم هرعوا إلى ترامب مستنجدين به من إيران كمن يستجير من الرمضاء بالنار، ناسين أو متناسين أو بالأحرى لا يعلمون بسبب تلك العقول الجوفاء الغبية أن العلاقة بين أمريكا وإيران هي زواج متعة سري بعقد عرفي سري أيضاً، يتمتع كل منها بالآخر سراً ويتظاهرون بالخصام علناً..

دمروا العراق بأموالهم، بلد تمتد حضارته لأكثر من 1000عام .. بلد يطعم الكون ولايجوع.. بلد ثرواته تكفي نصف سكان الكرة الأرضية، أسلموه لإيران بكل بجاجة. فماذا بقي من عاصمة الرشيد التي كانت يوماً منارة الدنيا، بغداد التي تغنى بها الشعراء وانطلقت من رياضها أعذب القصائد.. مدينة بلا كهرباء وهي التي أنارت الدنيا يوماً ما.. ماذا بقي من اليمن السعيد الذي هو أصل الحضارات، بلد دمرته سياسات المملكة السعودية المتصابية، دمرته عاصمة حزمهم كي تنتفع وترتفع مبيعات السلاح الأمريكية.. فلا ميليشيات الحوثي سقطت، ولا نفوذ ايران تضاءل، بل على النقيض زاد وزادت معه كميات السلاح التي يشترونها تارة من أمريكا وتارة من ألمانيا وروسيا. وهكذا تجري اللعبة الوحيدة التي تجيدها سياسات الأنظمة العربية، الغرب يشعلون حرباً والعرب يشترون السلاح..

دفع بن زايد أموالاً لا يعرفها إلا الله كي يمول انقلاباً فاشلاً ضد رئيس ديمقراطي في تركيا، أنا أعتقد أنهم يحتاجون لمئة سنة ضوئية حتى يصلوا لنصف رجولة أردوغان ومواقفه وإنجازاته ووطنيته، كان بإمكانه-بن زايد- مثلاً أن يوفر تلك الأموال للتحالف مع تركيا، لكن هل من المعقول أن يتحالف هذه الأعرابي الجلف مع تركيا ويغضب أسياده في أوروبا وأمريكا، فلا نجح الانقلاب ولا دام عزهم، وذهبت الأموال سدى..

في ليبيا يفعلون الشيء نفسه.. صنعوا "حفتر" الذي تصدعت رؤوسنا من كثرة ما نسمع اسمه في نشرات الأخبار على قناة الجزيرة.. طبعاً حفتر صديق بن زايد وماكرون ويقوم بالمهمة على أكمل وجه.. الفارق الوحيد أن درجة الذكاء أعلى بقليل من السيسي الذي صنعه بن زايد أيضاً.. كل ذلك كي يعطوا الشعوب العربية دروساً بألا يجربوا أن يثوروا ويقولون لهم هذا سيكون مصيركم ومصير بلدانكم إن فكرتم بالثورة... هرعوا إلى السودان مباشرة بعد نجاح ثورته كي يعطوا المجلس هناك بعض الدروس.. أرادوا فعل الشيء نفسه في الجزائر والإبقاء على الحالة (البوتفليقية) بمعاونة فرنسا صاحبة النزعة الاستعمارية القديمة، لكن الشعب الجزائري كان لهم بالمرصاد...

أوروبا طوت كل خلافاتها القديمة ووحدتها المصالح، مئات السنين من الحروب بين الأوربيين لكنهم مزقوا تلك الصفحة..

تغريده من مطرب عربي تشعل حرباً لا هوادة فيها بين الشعوب العربية(ما بتطفيها ولا حتى مي البحر المتوسط)..

خسارة مباراة كرة قدم بين فريقين عربيين تشعل خلافاً لا حدود له بين البلدان والشعوب.. تصريح ما يمنعك من حج بيت الله الحرام... مدح أردوغان يصنفك بقائمة الإرهابيين وتصبح مطلوباً..

كيف يمكن أن تصلح العقلية العربية؟

كيف ؟ متى؟ هل يملك أحد الجواب...؟

رحل مرسي إلى سماء ربه، ولعله استعجل الرحيل فهذا الزمن ليس له ولا يليق به..

إنه زمن العبيد فقط ولا مكان للأحرار فيه..

سأختم مقالي هذا بما قاله الشاعر العظيم أبو الطيب المتنبي في حكام مصر قبل ألف ومئة عام بنبوءة شعرية مذهلة لا تجيدها سوى عبقرية شاعر عظيم فكأن الزمن لم يتغير..

قال المتنبي قبل أكثر من ألف ومئة عام وكأنه يهجو السيسي بعينه:

أكلما اغتال عبدُ السوءِ سيدَهُ          أو خانه فلَهُ في مصر تمهيدُ

صار الخصيّ إمام الآبقين بها        فالحرُّ مستعبد والعبدُ معبود

نامتْ نواطيرُ مصرَ عن ثعالبها      فقد بشمن وما تفنى العناقيدُ

العبدُ ليس لحر صالحٍ بأخٍ             لو أنه في ثيابِ الحرّ مولود

لا تشترِ العبدَ إلا والعصا معه       إن العبيد لأنجاس مناكيد

 

أسماء شلاش

 

 

في المثقف اليوم