أقلام حرة

محمد ثابت الفندي .. حفيد رفاعة الطهطاوي في التنوير الفلسفي

محمود محمد عليإذا كان رفاعة الطهطاوي كاتب وفيلسوف ومؤرخ واقتصادي مصري، وهو المؤسس لحركة النهضة الفكرية في مصر الحديثة ، وهو الذي عمل علي توعيه الشعب المصري ونشر الثقافة والحضارة في عالمنا العربي .. وإذا كان هو ذلك هو الشاب الذي ولد بصعيد مصر؛ وبالذات في مدينة طهطا التي تقع في محافظة سوهاج ليلتحق بالجامع الأزهر في العام 1817 ليدرس العلوم الدينية .. وبعد أن تخرج منه ذهب ليلتحق بالجيش المصري ليعمل إماماً فيه .. وإذا كانت الأقدار قد سهلت له أن يرشحه الشيخ "حسن العطار" للسفر إلي فرنسا في العام 1826 بصفته إمام البعثة التي أرسلها "محمد علي باشا" من أجل دراسة العلوم واللغات الأوربية الحديثة .. وإذا كانت الأقدار قد شاءت له أيضا وهو في فرنسا أن يجتهد ويبدع في دراسة اللغة الفرنسية والكتب العلمية لينال بعد خمس سنوات من الجد والكفاح والعمل والمثابرة امتحان الترجمة والذي قُدم في شكل مخطوط بعنوان " تخليص الإبريز في تلخيص باريز " ، والذي يعد أحد أهم أسباب شهرته... وإذا كان بعد ست سنوات قضاها في فرنسا وجدناه يعود إلي مصر في عام 1832 ليعمل مترجما في مدرسة الطب، ثم مترجماً أيضاً للعلوم الهندسية والفنون العسكرية في المدرسة المدفعية ، بل وبفضله نشأت مدرسة الألسن عام 1835... وهلم جرا.

هذه السيرة العطرة لرفاعة الطهطاوي كانت حلم الصباح والمساء لذلك الهرم الذي نكتب عنه هذا المقال وهو الدكتور "محمد ثابت الفندي" (1908 - 1993) (أستاذ الفلسفة بكلية الآداب جامعة الإسكندرية والذي تتزامن ذكري وفاته هذه الأيام) ؛ والذي اعتبره بأنه خالد ومتجدد كما النيل، وأعماله كالآثار المصرية القديمة تزداد قيمة كلما مرّ عليها وقت، وما زالت في حاجة إلى من يكتشف المزيد منها.. لقد صنع هذا الرجل العظيم أسطورته الشخصية بما يملكه من فكر صدّره إلى العالم، فقد كان من الرعيل الأول للفكر العربي المعاصر وأوائل المتخصصين في فلسفة العلم عامة وفلسفة الرياضيات على وجه الخصوص في مصر والعالم العربي.

ولد بمدينة أبوتيج من أعمال محافظة أسيوط في صعيد مصر في اليوم الرابع عشر من أغسطس 1908 وتعلم في بلدته بمراحل التعليم المختلفة، ثم التحق بكلية الآداب جامعة القاهرة بعد أن تحول إليها من كلية الحقوق إعجاباً بطه حسين، وتنقل بين أقسام الكلية المختلفة: اللغة العربية، والجغرافيا، حتى استقر في قسم الفلسفة ودرس على كل من الشيخ "مصطفى عبد الرزاق" و"منصور فهمي" و"يوسف كرم"، وتخرج عام 1931 ، وحصل على درجة الماجستير 1933 من الجامعة المصرية ، ثم سافر إلى فرنسا مبعوثاً إلى جامعة باريس، وفيها حصل على الليسانس الفرنسية 1938 ، ثم دبلوم الدراسات العليا 1939 والدكتوراه بمرتبة الشرف الممتازة 1945 ؛ كانت الرسالة الأولى حول "الأسس الفلسفية والمنطقية في العلوم الرياضية" بينما خصص الرسالة الثانية "للقضايا الموجهة في البحوث المنطقية المعاصرة" ، وقد عاد الدكتور الفندي إلى جامعة الإسكندرية- وكان من مؤسسيها الأوائل؛ حيث عين مدرساً 1952 ، وأستاذا مساعدا عام 1957  ، ثم أستاذا للمنطق الرياضي. وأصبح رئيساً لقسم الفلسفة وعميداًَ لكلية الآداب بجامعة الإسكندرية في الفترة 1961 -1965 ، ثم عميداً لكلية الآداب جامعة بيروت العربية التي أسهم في تأسيسها لمدة ثماني سنوات وبعد ذلك أستاذاً متفرغاً بكلية الآداب جامعة الإسكندرية حتى (وذلك حسب ما ذكره أحمد عبد الحليم في بحثه عنه بعنوان الفندي (ثابت) وبدايات البحث في المنطق الرياضي).

وقد قدم ثابت الفندي عدداً من المؤلفات في مجال فلسفة العلم والمنطق الرياضي هي: "فلسفة الرياضيات" و"أصول المنطق الرياضي" و"مناهج البحث العلمي" و"فلسفة العلوم التجريبية" و"الفلسفة الحديثة فلسفة هيوم وكانط"، و"التأملات في الإنسان والزمن".. كما كتب في الفلسفة الإسلامية فى الفترة المبكرة من حياته عدة مؤلفات هى: "فلسفة الغزالي"، و"صلة النفس بالجسم عند ابن سينا" وتحقيق كتاب ابن سينا "قوى النفس الناطقة وأحوالها" مع تعليقات ودراسة مقارنة لأعمال ابن سينا نشرت بمجلة المشرق التي تصدر عن جامعة القديس يوسف ببيروت وكذلك كتب عن ابن سينا حياته ومؤلفاته، وهي مقالاته التي كان قد نشرها في مجلة المعرفة كما قال أحمد عبد الحليم، كما كتب عن "الله والعالم عند ابن سينا"، وفي الفلسفة العامة له عملاً هاماً اصدره تحت عنوان "مع الفيلسوف". كما كتب بالفرنسية عن: "التصورات الأساسية لفكرة التطور" و"الجوانب العقلية والتجريبية في فلسفة كوندياك"؛ كذلك كتب عن "التفسير في علم التاريخ"، وتطور المنطق في فترة ما بين الحربين العالميتين.

ويتمثل إسهام الفندى الفلسفي في تقديمه أول دراسة مستفيضة في العربية حول المنطق الرياضي أو" اللوجستيقا" التي تطورت في أعمال برتراندرسل ووايتهيد، وأصبحت حركة واسعة أسهم فيها الفلاسفة والرياضيون الذين اجتذبتهم مسائل المنطق وفلسفة العلوم أسس الرياضيات، ونقائض نظرية الأعداد اللامتناهية. وهو يقدم لنا أصول هذا العلم، أي إنه لا يقتصر على صورته الرياضية المعاصرة فقط بل يعود إلى جذورها في الفكر الفلسفي لبيان الدواعي الفلسفية لنشأة هذا العلم، الذي يعد ثمرة التضافر بين الفلاسفة والرياضيين؛ حيث خصص الفصول الأولى من دراسته لبيان صلات العلم بالعلوم القريبة منه لفحص خصائصه الخارجية التي تميزه عن المنطق التقليدي عند استقلاله تماماً الفلاسفة. وذلك لأن المنطق الرياضي يدعي لنفسه خصائص مثل: استقلاله تماماً عن الفكر، أي عن كل نزعة سيكولوجية في المنطق، واستيعابه للرياضيات البحتة ؛ بحيث تصبح مجرد امتداد لقوانين المنطق، وقد عالج في الفصول الأخيرة الخصائص الداخلية الثلاث لبناء هذا المنطق باعتباره نظرية حسابية جديدة: العمليات المنطقية المختلفة، النوعية الجبرية لهذه النظرية التي تفرق بينها وبين أنواع الجبر الأخرى، ثم التكوين والبناء الداخلي في صورة "نسق استنباطي" الذي يسمح بالبرهنة على كل القوانين المنطقية برهنة استنباطية ( وذلك حسب ما ذكره أحمد عبد الحليم في بحثه السالف الذكر).

وقد مثل في الفترة من 1947-1949 الحكومة المصرية بمنظمة اليونسكو بباريس خبيراً علمياً في مجال الإنسانيات؛ وشارك في تصميم استفتاء على نطاق دولي حول حقوق الإنسان من أجل صياغة وثيقة حقوق الإنسان، التي شارك في مناقشتها في الجمعية العامة للأمم المتحدة في خريف 1948 نيابة عن الدوس هكسلي. وبهذا يعد (كما قال أحمد عبد الحليم) من رواد حقوق الإنسان في العهد الحديث، ونشر في هذا العام عدة دراسات بمجلة اليونسكو باللغة الفرنسية حول: "المفكرون الكلاسيكيون العرب"، "وثيقة حول حقوق وثيقة عن الديموقراطية ومعاونيها عند مفكري الأمم المختلفة قديماً وحديثاً". وكتب بتكليف من اليونسكو عدة دراسات بالفرنسية للتعريف بالأدب القصصي العربي وأُختير عضوا باللجنة التحضيرية للميثاق الوطني عام 1961 وعضو بالمجلس الأعلى للآداب والعلوم الاجتماعية، ورئيس هيئة الآداب والفنون والعلوم الاجتماعية في الإسكندرية ما بين عامي 1961-1965 وقد منحته جامعة الإسكندرية جائزتها التقديرية.

كما عُرف الدكتور الفندي باعتباره أحد ثلاثة اضطلعوا منذ فترة مبكرة بنقل دائرة المعارف الإسلامية إلى اللغة العربية مع زميليه "إبراهيم زكي خورشيد" و"أحمد الشينتاوي" وشارك في إصدار 34 عددا ً منها بالترجمة والتعليقات المستفيضة الجادة التي تصل إلى نفس حجم المادة الأصلية، مثل تعليقه على مادة ابن سينا. كما شارك في تحرير مجلة المعرفة في الثلاثينات وكتب وترجم عدة دراسات صوفية ونقل كتاب الفرنسي "رينيه جيتون".

ومن جهة أخري أسهم في تأسيس أول معهد للدراسات الاجتماعية، وهو "معهد العلوم الاجتماعية" وكتب كتاباً عن "الطبقات الاجتماعية" ؛الذي عرض فيه للموضوع من وجهة نظر المدرسة الفرنسية، وعلى الأخص موريس هالفاكس صاحب كتاب المورفولوجيا الاجتماعية". وقد درس الفندي الطبقات من ناحية علاقتها بالتركيب المورفولوجي والحركات السكانية وأثر المفهوم الطبقي في الكثافة السكانية، مواكبا في ذلك التغير الاجتماعي في مصر، أثناء احتدام المشاكل التي أدت إلى قيام ثورة يوليو وأوضح فيه أن التركيب الطبقي في مصر هذه الفترة لا يختلف عن التركيب الطبقي في فرنسا، كما كتب عن الفلكلور في ضوء علم الاجتماع.

ونستطيع أن نقول مع أحمد عبد الحليم بأن ثابت الفندي كان مؤسساً لمدرستين علميتين في الإسكندرية: احدهما مدرسة علم الاجتماع، ومدرسة المنطق الرياضي وفلسفة العلوم ؛ حيث كان من المؤمنين بوحدة العلوم الإنسانية تحت راية الفلسفة التي تعد في نظره أم العلوم فكان من أوائل الفلاسفة العرب الذين عنوا مبكراً بالابستمولوجيا والمنطق المعاصر.

وكان الفندي يؤمن بأن الفيلسوف عنده وحده الذي يدرك حدود العلم كمعرفة، كما يدرك غموض الإيمان بهامه كمعرفة، فيستيقظ (كما قال أحمد عبد الحليم) عنده الوعي بأسئلة ملحة كثيرة تجملها كلمة "الفلسفة"، وهو وحده الذي يتفتح عقله إلى كل ما لا يعرف بطريق العلم والإيمان، ويستبقهما إلى ذلك "اللامعروف" Unknowable الذي قد يلوح أو ينكشف عبر حدودهما، وبعد حدود العلم بكل تأكيد. فهو إذن الذي يتجاوز تلك الحدود أو يفارقها إلى المتجاوز أو المفارق. ويضيف، والذي عبرنا عنه بلفظي يتجاوز ويفارق. يدل في آن واحد على حركة الفكر حين يتجاوز حدود العلم وموضوعاته ويتجه صاعدا على طريق المفارقة، كما يدل على الحد الذي تنتهي إليه تلك الحركة الصاعدة وهو المفارق بالذات. وهكذا درجت فلسفات هيدجر وسارتر وهوسرل. على القول بأننا نفارق نحو مستقبلنا ونحو إمكاناتنا ونحو الموجودات الأخرى.

ويرى الفندي من أشق مهمات الفلسفة طوال عصورها هو أن تتعرف إلى طبيعتها الحقة، وهي لم تستطع إلا أخيراً أن تجعل أنصارها وخصومها يجمعون على أنها ليست علماً من العلوم، وانما هي في طبيعتها وجوهرها ذلك التجاوز لمنهج العلوم علما من العلوم أو كالعلوم. ولموضوعاتها المحددة، إلى مبدعات فكرية عظيمة تقرر الفلسفة قيامها في عالم مفارق للطبيعة أو على الأقل في عالم فكري معقول، كأسس وأصول لكل ما عداها، وترى فيها الحقيقة بالذات أو الحقيقة القصوى أو المبدأ الأول. ويؤكد على ذلك بقوله دون أن نتوقف عند بيان ما للفلسفة من موضوع وكيف هي معرفة من نوع خاص وان كانت في ذلك كله على خلاف العلم من حيث أنها تجاوزه له، موضوعا ومنهجا، نمضي مباشرة إلى التمهيد للفلسفة (كما قال أحمد عبد الحليم).

كما يرى الفندي أن استقلال الفيلسوف عن كل المؤثرات سمة من سماته العقلية الأساسية:.... فالسلطة الدينية التي لا تقر إلا فلسفة واحدة تؤيدها صورة لاهوت أو السلطة الزمنية التي تستند أحيانا إلى فلسفة واحدة تؤيدها كفلسفة الحزب أو الطبقة، إنما هي سلطة تعزل الفلاسفة باسم الفلسفة، ذلك لأنها تستند إلى ما يشبه الفلسفة، إلى فلسفة تحجرت في واقع موضوعي، فأصبحت قيدا لا يصح التحرر منه. إنها "اللافلسفة" ضد الفلسفة. وعلى هذا يوضح أن عزلة الفيلسوف إنما هي نتيجة أخرى أو ثانية تلزم بالضرورة عن طبيعة الفلسفة كفكر متجاوز ومستقل عن كل المؤثرات الخارجية وبخاصة عن السلطتين الدينية والزمنية.

وبعد أن أوضح أهمية تاريخ الفلسفة كمنبع يقارن العلم والفلسفة من حيث تاريخهما وأهميته كمنبع بالنسبة لكل منهما، يقول: "أن للفلسفة منطقا أو جدلا باطنيا تسير بمقتضاه الفلسفات قدما. فكل فيلسوف يقف من سابقه موقف المحاور والمجادل من زاويته الخاصة فيرفض من هذه الزاوية التي يقف فيها ما لا يراه من خلالها، ويثبت ما أراه هو في نفس المسائل". ويضيف فيما يختص بتاريخ الفلسفة بأنه وليد عملية جدلية باطنية في الفلسفات ذاتها، وأن فيلسوف اليوم لا غنى له عن ذلك التاريخ الطويل في إبراز أفكاره الفلسفية، إن لم يكن الأمر كذلك في فلا اغربة أن يكون اليوم تاريخ الفلسفة منبعا من منابعها وإن لم يكن الأمر كذلك في البداية لأنه لم تكن هناك تاريخ أو فلسفة.

ويضيف منبع رابع من أهم منابع الفلسفة عند الإنسان وهو الضمير الخلقي، منبع الواجب الخلقي؛ الذي هو نداء من الضمير، من الوجود الإنساني الحق إلى وجوده الظاهري المحدود. إن هذا النداء لا يتقدم إلي كموضوع للمعرفة فيحتمل الشك وإنما هو يأتيني كيقين مطلق من وجودي العميق بقصد العمل. ومن ثم فهو منبع لإرادتي الحرة وليس هدفا لها، وعندما أصدر عنه بملء حريتي أشعر عندئذ فقط أنني مطابق لوجودي الصادق، وأنني أنا نفسي بإخلاص (كما قال أحمد عبد الحليم).

وفي نهاية حديثي لا أملك إلا أن أقول تحية وفاء وعرفان واحترام لهذا الأستاذ الجليل الذى لم يُضف إليه مقعد العمادة ولم تغيّره المناصب، وظل معدنه أصيلاً لامعًا لا يصدأ أبدًا، فهو ذلك الذي كان متربعًا على قمة أساتذة المنطق وفلسفة العلوم في الوطن العربي، رغم محنة ضعف البصر نتيجة الكر والفر بين صفحات الآلاف من الكتب والدراسات والمقالات التي تعامل معها الدكتور ثابت الفندي فى رحلة أكاديمية فريدة كانت أدواته فيها هي الذكاء المشتعل والنظرة الحكيمة والبصيرة الواضحة والرؤية الشاملة.. فلقد كان رحمه الله صاحب قلب كبير، وعاطفة جياشة، وكبرياء لا ينحنى، ونفس تعلو فوق كل الصغائر. رحمه الله بما قدم لنا ولغيرنا من إسهامات مجيدة فى ميادين المنطق وفلسفة العلوم وتاريخ الفلسفة.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل - جامعة أسيوط

 

 

 

في المثقف اليوم