أقلام حرة

الأبعاد الحقيقية للغزو الأمريكي لأفغانستان (7)

محمود محمد عليفي هذا المقال السابع والأخير نعود ونكمل حديثنا عن البعد الحقيقي لعزو الولايات المتحدة لأفغانستان؛ وذلك عقب أحداث 11 سبتمبر مباشرة، وفي نعود مرة أخري ونكمل مناقشتنا للبعد الثالث وهو البعد الاقتصادي، وخاصة  التحكم في المصالح الاقتصادية للقوي الإقليمية الكبرى، وفي هذا نقول: تتمتع أفغانستان بموقع جغرافي يجعلها ممر ترانزيت مهماً لصادرات النفط والغاز الطبيعي من وسط آسيا إلى بحر العرب، ضمن خطوط أنابيب تكلفت مليارات الدولارات، وهذا ما أعده تقرير معلومات عن الطاقة صادر من الحكومة الأمريكية في سبتمبر 2000م، حيث يقول خبير النفط "جيمس دوريان " أن هؤلاء الذين يسيطرون على الطرق النفطية لوسط آسيا سيؤثرون مستقبلاً على كميات تدفق النفط وتوزيع إيراداته".

وبناءً على تلك الحقيقة وظفت السياسة الأمريكية منطقة قلب آسيا لخدمة الهداف الأمريكية، مستندة إلى شعار (فرق تسود) بين دول المنطقة عوضاً عن سياسة التكامل والتوحيد، كما أنه في منتصف التسعينيات ظهرت في الولايات المتحدة مدرستان فكريتان، بصدد السياسات التي ينبغي على الولايات المتحدة انتهاجها إزاء تلك المنطقة:

الأولى: توصي بالمصالحة والاصطفاف، بمعنى ضم الدول الصديقة في المنطقة خاصة تركيا وأذربيجان وجورجيا فيما عرف بــ" كتلة باكو- جيهان"، والثانية: توصي بالاحتواء والعزل، ويقصد بها أن تعتمد السياسة الأمريكية في المنطقة على تقليص أو الإطاحة بنفوذ القوي الأخرى ذات النفوذ التقليدي المناوئ لها خاصة إيران وروسيا.

وفي هذا الإطار يمكن أن تعتبر "سياسة خطوط الأنابيب"، بمثابة الوسيلة الأهم لتحكم الولايات المتحدة في المصالح الاقتصادية للقوي الإقليمية الكبرى من خلال بسط سيطرة الشركات الأمريكية في مجالي التنقيب ومد خطوط الأنابيب استناداً إلى تكتيك " الاستبعاد والضم"؛ بمعنى استبعاد دول النفوذ القديم خاصة إيران وروسيا مقابل ضم الدول المتحالفة معها لا سيما تركيا، وهكذا يمكن أن نفسر أن اختيارات مسارات خطوط الأنابيب، قد لا تكون هي الأفضل أو الأوفر اقتصادياً أو فنياً ولكنها الأجدى سياسياً لتحقيق الأهداف الأمريكية، وهو ما يدلل عليه خط باكو- جيهان الذي أنشئ بعد الغزو الأمريكي لأفغانستان وتحديدا في 18سبتمبر 2002م.

وينسب إلى هذا الخط تحقيق عدة مكاسب للولايات المتحدة على النحو   التالي :

أ- يدعم الاستقلال والسيادة لأذربيجان والدول المشابهة حديثة الاستقلال عن الاتحاد السوفيتي بكسر الاحتكار الروسي للعلاقات الاقتصادية والسياسية مع أذربيجان وجورجيا، ومن ثم تستطيع هذه الدول تطوير اقتصادياتها وسياساتها الخارجية بحرية دون خوف من أعمال انتقامية من جانب روسيا.

ب- منع ارتباط أمن أوربا بالطاقة الروسية، فوجود خط باكو- جيهان، يعني أن خطوط تركيا المحلية ستصبح متصلة بخطوط أوربا عبر هذا المشروع، وهو ما يمكن أن يؤثر سلباً علي روسيا، والتي تعمل علي دعم سيطرتها الاحتكارية علي أسواق الطاقة الأوربية، حيث تعد وسيلة الانتقال الوحيد لنقل غاز آسيا الوسطي إلى أوروبا، ولاسيما وأن الغاز الروسي يمثل تقريبا 25% من الطلب الأوروبي، وهى أحد الأدوات الرئيسية للسياسة الخارجية الروسية، للحيلولة دون اتخاذ البلدان الأوربية مواقف متشددة مع روسيا في إمدادات الغاز إلى أوروبا.

جـ - منع إيران من الاستفادة من ثروات بحر قزوين، وذلك أن احتلال أفغانستان من شأنه أن يحكم سياسة الاحتواء والعزلة التى تنتهجها الولايات المتحدة ضد إيران ويحول بينها وبين استغلال ثروات بحر قزوين .

د- خلق إطار إقليمي من التعاون بين تركيا– الحليف للولايات المتحدة والجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطي يحث هذه الدول على اختيار "النموذج التركي" بأبعاده الديمقراطية والعلمانية واقتصاد السوق في تضاد واضح مع نموذج إيران ومن ثم زيادة العزلة المضروبة حولها، ولعل هذا ما يفسر رضوخ الرئيس الأذري– وقتذاك – حيدر علييف Heydar Aliyev (1923-2003م)، للضغط وتراجعه عن بيع 10% من الحصة الأذرية  في نفط قزوين لإيران وبيعه بدلاً من ذلك بواقع 5% لشركة إكون الأمريكية، والـــ 5% الأخرى إلى الشرطة الحكومية التركية .

4-إعادة تشغيل الصناعات العسكرية الأمريكية:

يضاف إلى ذلك يعزي بعض الباحثين العزو الأمريكي لأفغانستان، إلى رغبة الولايات المتحدة في إعادة تشغيل العديد من الصناعات العسكرية، التي بدأ بعضها في التوقف والبعض الآخر يعانى من خسائر فادحة، ومن ثم فإن ضمان استمرار نمو الصناعات العسكرية، هو هدف هام لانتشال الاقتصاد الأمريكي من حالة الركود، ولقد لجأت الإدارات الأمريكية المختلفة لهذا الأسلوب في أحيان كثيرة لإخراج الاقتصاد الأمريكي من حالات الركود، على غرار ما حدث بعد اشتعال الحرب العالمية الثانية عام 1939 م، حيث كان الطلب المتزايد على الأسلحة الأمريكية العنصر الأساسي لانتشال الاقتصاد الأمريكي من حالة الركود خلال عقد الثلاثينيات .

5- التحكم في تراجع الاقتصاد الأمريكي:

إن تطورات الاقتصاد العالمي ومكانة الولايات المتحدة الاقتصادية تمدها برؤية متبصرة عن الدور الاقتصادي في رسم الاستراتيجيات وتنفيذ السياسات وبناء التحالفات، فالإحصائيات والأرقام التي تنشرها المؤسسات الدولية والمنظمات الاقتصادية، تشير إلى تراجع الاقتصاد الأمريكي على مستوي مؤشرات المنافسة الاقتصادية والإنتاجية العالمية، لصالح الأقطاب الاقتصادية البارزة مثل: الصين والاتحاد الأوربي واليابان، بسبب الأزمات المالية والهيكلية الداخلية والتباطؤ والانكماش اللذين أصبحا السمتين المميزتين للاقتصاد الأمريكي في مطلع القرن الواحد والعشرين، فضلاً عن تراجع سعر صرف الدولار وارتفاع مستوي الدين القومي والعجز في الموازنة العامة الأمريكية . هذا الأمر أثار نقاشاً أمريكياً داخلياً حول ما إذا كانت هذه الصورة تنبئ عن بداية تراجع القوة العظمي الأمريكية، وسقوط أحد الأضلاع الأربعة للقوة الشاملة ألأمريكية، والمتمثل في ضلع القوة الاقتصادية (أضلاع القوة الشاملة الأربعة، وهي: الاقتصادية، السياسية، الثقافية، والقوة العسكرية)، في صورة شبيهة بما حدث للاتحاد السوفيتي السابق، عندما انهار اقتصاديا عجل بوضع القدم الأولى على طريق الانهيار الشامل، وهو ما دفع بالولايات المتحدة إلى وضع استراتيجية لإبقائها كقوة عظمى تتلخص في ثلاث نقاط:

- إحداث صدمة عالمية للنظام الدولي لإيقاف حركة المنافسة العالمية.

- تحويل اللعبة الدولية من الميدان الاقتصادي إلى الميدان العسكري والأمني، بمعنى تغيير اللعبة العالمية من نقطة الضعف الأمريكية (الميدان الاقتصادي) إلى نقطة القوة الأمريكية (الميدان العسكري).

- اختيار الشرق الأوسط الكبير لكونه أكبر مصدر للطاقة في العالم لاستغلاله والسيطرة على مصادر الطاقة في الألعاب الخفية للولايات المتحدة مع منافسيها الرئيسيين، وهم الاتحاد الأوربي، والصين،  واليابان (115).

6- حجب الموارد النفطية على المنافسين للهيمنة الأمريكية :

يري وزير الخارجية الأمريكي الأسبق "هنري كيسنجر"، أن العالم يشهد منذ فترة عملية إعادة تركيب للخريطة الجيوإستراتيجية، وأن هناك احتمالات ومخاطر لصدامات عسكرية، ومنافسات عنيفة على الموارد وفقاً لذلك، فإن الولايات المتحدة الأمريكية تعيد ترتيب وهيكلة مناطق مختلفة من العالم على قاعدة" التحكم في تدفق إمدادات النفط والغاز"، فالمناطق ذات الحيوية الاقتصادية للولايات المتحدة، هى المناطق الغنية بمصادر الطاقة كالخليج العربي ووسط آسيا. فالتواجد ألأمريكي في هذه المناطق يهدف إلى التحكم في هذه الثروات النفطية وتوظيفها، كوسائل ضمن اللعبة الاستراتيجية العالمية في السيطرة، والتحكم في المنافسين المحتملين واللاعبين الذين يشكلون تحدياً للهيمنة الأمريكية، وفي هذا الإطار، ينظر العديد من الخبراء والمحللين إلى الحرب الأمريكية على الإرهاب، والتى بدأت من أفغانستان، لكونها تحمل أجندة اقتصادية، تتعلق بالسيطرة على منابع ومصادر الطاقة، والتحكم في خطوط النقل، والمثير للانتباه أن خريطة الإرهاب والدول المارقة– حسب الرؤية الأمريكية– هي ذاتها الخريطة العالمية لمنابع النفط والغاز، ضمن منطقة الشرق الأوسط الكبير من شمال إفريقيا حتى شرق أفغانستان، فغزو أفغانستان لم يكن مجرد رد فعل تلقائي على أحداث 11 سبتمبر 2001م، إنما حدث بالنظر لأهمية وضع أفغانستان في الجغرافيا السياسية، للنفط والغاز الطبيعي لمجمل المنطقة في آسيا الوسطي وبحر قزوين، وذلك فيما يتصل بالهدف الأساسي من التواجد العسكري الأمريكي في آسيا الوسطي .

ولا شك في أن الحرب على أفغانستان قد أتاحت الفرصة للولايات المتحدة، لاختراق آسيا الوسطي بما تشكله أفغانستان من نقطة فاصلة في التوازنات العالمية والإقليمية، لكونها تشغل مركزاً استراتيجياً هاماً بين القوي النووية العالمية والإقليمية في آسيا: روسيا، والصين، وإيران، والهند، وباكستان، فضلاً عن قربها من نفط بحر قزوين، بحيث إنها تسمح لأي قوى خارجية تتواجد بها بالسيطرة على قلب منطقة آسيوية هامة حيوبوليتيكا وجيواستراتيجيا. وبالتالي فإن الولايات المتحدة وجدت في غزو أفغانستان الآلية الفعالة لفرض الهيمنة والسيطرة العالمية الأمريكية تحقيقاً للمصالح الاستراتيجية الأمريكية في العالم بإحكام قبضتها على العالم سياسياً، وعسكرياً، واقتصادياً، واستكمال حلقة الحصار الأمريكي على المحور الصيني- الروسي الساعي لتحقيق التعددية القطبية، إضافة إلى تطويق إيران ومراقبتها وتحييد نفوذها على منطقة  الخليج .

فكان هذا هو السبب الحقيقي والمباشر لحرب بوش في أفغانستان، وكانت حلبة لكل من يتابع تقارير الـــ CNN والواشنطن بوست  Washington Post، فقد اجتمع السفير الأمريكي "ويندي شامبرلين " Wendy Chamberlin في أفغانستان مع وزير النفط "عثمان أمين" في نوفمبر 2002م في سبيل استكمال مناقشة الخطط الخاصة بإنشاء خط النفط والغازعبر أفغانستان، وباكستان، وتشجيع باكستان على السعي لبناء محطة تحميل النفط عبر بحر العرب .

لقد استغلت الولايات المتحدة الأمريكية أحداث الحادي عشر من سبتمبرعام 2001م، لتحقيق أهدافها في منطقة آسيا الوسطى والقوقاز، وهي تصر على تواجدها العسكري في تلك المناطق، للقضاء على الإرهاب، والحركات المتطرفة، وتقوم كذلك بتوسيع حلف الناتو، ليشمل دول المنطقة، وإيجاد أجواء أمنية، وسياسية، وعسكرية، توفر بيئة مناسبة للسيطرة  .

وبالتالي مثلت السيطرة على أفغانستان يحتل جزءاً مهماً من لعبة الامبريالية وسط آسيا، حيث رأت الولايات المتحدة الأهمية القصوى للسيطرة على أفغانستان لثلاثة أسباب رئيسية :

1-أهمية وجود الشركات الأمريكية للنفط منذ الدقائق الأولي، فسوف تُمنح فرصة للسيطرة الكاملة على عمليتي الإنتاج والتوزيع.

2- التدخل الأمريكي سوف يقدم للولايات المتحدة السيطرة على مصدر نفطي ممكن أن تعتمد عليه دول كالهند والصين.

ج - على الولايات المتحدة التدخل السريع خوفاً من سقوط هذه الثروات في يد منافسي الولايات المتحدة الكبار في المنطقة مثل إيران، وبشكل خاص روسيا . لكن مع الغزو الأمريكي لأفغانستان وتنصيب "حامد قرضاى" رئيساً للبلاد، فإن القوات الأمريكية تبذل جهداً لتأمين أعمال إنشاء أنابيب النفط، تاركة وراء ظهرها مسؤولية حفظ الأمن في المدن الأفغانية للقوات الأطلسية الأخرى، لكن دون أي نتيجة على ما يبدو، وذلك بسبب المقاومة لشرسة للشعب الأفغاني، وحركة طالبان ومنظمة القاعدة الرافضة للوجود العسكري الأمريكي على الأراضي الأفغانية.

نخلص من كل ما سبق بأن كانت الحرب على أفغانستان عام 2001 م تنفيذاً لمشروع الهيمنة الأمريكية على نفط العالم، والذي بلورته الإدارة الأمريكية بحرب الخليج الثانية عام 1991م، والتي كانت تهدف من ورائها لشيئين  :

أ- ضمان السيطرة على أهم وآخر الحقول النفطية.

ب- لغرض عملية عسكرية تم من خلالها تطويق عدو سابق ومحتمل في المستقبل هو روسيا .

وبالتالي فقد جاءت أهمية أفغانستان كموقع استراتيجي لشركات النفط الأمريكية، في سبيل بناء خط أنابيب عبر أراضيها، لنقل النفط والغاز من بحر قزوين مروراً إلى موانئ المحيط الهندي جنوباً، على أن نفط منطقة قزوين له سوقان رئيسيان : غرباً الأسواق الأوربية وجنوباً الأسواق الآسيوية، أما الخيار الأول فكان يتطلب نقل النفط عبر أنابيب تمر من الشيشان عبر البحر الأسود مروراً بمضيق البوسفور إلى البحر المتوسط . إلا أن مضيق البوسفور كان مزدحماً بالناقلات المحملة بنفط البحر الأسود، أضف إلى ذلك أن الأوضاع في الشيشان كانت ملتهبة بالمعارك بين الروس والانفصاليين الشيشان، هذا أدى إلى تعديل وجهة النظر، فاختارت الشركات الأمريكية الحل الثاني ببناء خطوط عبر الأراضي الباكستانية والأفغانية، ففي عام 2001م أى قبل ستة أشهر من هجمات سبتمبر وقع "ديك تشينى" الذي كان يرأس شركة "هاليبرتون" آنذاك عقداً رئيسياً مع شركة نفط أذربيجان في سبيل تطوير قاعدة بحرية لدعم عمليات التنقيب عن النقط في مياه بحر قزوين .

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم