أقلام حرة

وهبة طلعت أبو العلا ونظرية الوجود المقلوب (7)

محمود محمد علينعود ونكمل حديثنا في مقالنا السابع عن وهبة طلعت أبو العلا ودوره في صياغة نظرية الوجود المقلوب، حيث نستأنف حديثنا عن الحكم الأمريكي الأول للعالم وفي هذا يقول وهبة طلعت : أما الخطوة الثالثة التي خطاها هؤلاء الحراس في طريق إحكام قبضتهم علي العالم فكانت تتمثل في اعتقادي في تقسيم العالم إلي قسمين أو إلي مجموعتين إحداهما صديقة أو حليفة أو تابعة في العلن، والأخرى صديقة أو حليفة أو تابعة في الخفاء . وما ذلك إلا لأن أمريكا لم يعد لها أعداء حقيقيون، لأن العدو الحقيقي يجب أن يكون عدوا متكافئا يملك نفس القدر من السلاح والعتاد – مثلما كان في الماضي إبان عصور التوازن القوي – ومثل هذا العدو لم يعد له وجود بعد الحربين لأن العالم جرد من أهم أسلحته علي الإطلاق – بالإضافة إلي تجريده من كافة المقومات الأخرى – أعني وسائل التدمير الشامل معها حتي الأسلحة التقليدية . فأميركا أصبحت فوق الجميع وهذا يعني ضمنا أنه لم يعد لها أي أعداء حقيقيون . ومع ذلك لم تحاول أمريكا الوقوع في الخطأ الذي وقع فيه غيرها – سواء عن قصد أو عن غير قصد – علي مدار التاريخ أعني ممارسة سياسة القمع والإذلال والانتقام من سائر البشر ممارسة علنية، وإنما شرعت، علي العكس، في انتهاج سياسة علنية حكيمة – تناقض سياستها الخفية التي تحاول من خلالها أن تضمن دوما استمرارية إحكام قبضتها علي العالم – تقوم علي اعتبار سائر الدول أصدقاء لها وبحيث تكون بعض هذه الدول أصدقاء لها في العلن، والبعض الآخر أصدقاء لها في الخفاء . والمنطق الذي يرتكز عليه حراس العالم في ذلك هو، في اعتقادي، أن سائر الدول أصدقاء سواء في العلن أوو في الخفاء دا داموا ينفذون سواء في العلن أو في الخفاء السياسة التي رسمها حراس العالم سلفا والتي يتحتم علي هذه الدول القيام بتنفيذها، هذا يعني، بتعبير فلسفي، أن أمريكا جعلت من سائر الدول أدواتا تستفيد منها في أي قت تشاء، والدولة التي تكف علي أن تلعب الدور المرسوم لها أعني التي تكف عن أن تكون أداة نافعة سوف تتلخص منها علي الفور . أليس هذا، عزيزي الإنسان، هو المنطق الرئيسي للفلسفة الأمريكية المسماة بالبرجماتية ؟

هذا يعني كما يري وهبة طلعت أن أمريكا راحت، في ضوء فلسفتها المساه بالبرجماتية، وباعتبارها الأب الروحي العلني أو الصديق العلني الأكبر للعالم الذي يعرف تماما كيف يديره بنظرة ثاقبة يتحتم علي الجميع الإذعان لها، راحت تقسم العالم في أعقاب الحرب العالمية الثانية إلي نفس المجموعتين اللتين سبق ذكرهما، أعني، مجموعة تضم أصدقاء أو حلفاء أو توابع في العلن، ومجموعة تضم أصدقاء أو حلفاء أو توابع في الخفاء . غير أن الشئ الهام الذي أري أنه يستحق توجيه النظر إليه هنا هو أن أصدقاء أمريكا الحقيقين من بين كل هذه الدول هم الأصدقاء في الخفاء الذين تعتبرهم دوما أعداءها في العلن وذلك لأن هذه الدول المعادية في العلن تؤدي لها في الخفاء أعظم الخدمات بمعني أن هذه الدول تتخذ من ستار العداوة العلنية لأمريكا قناعا لتأدية أعظم الخدمات الخفية الأمر الذي يجعل أمريكا تعتبرها الصديق الخفي الأول . أما الأصدقاء العلنيون لأمريكا فمعظمهم – خاصة الأوروبيين – تعتبرهم أمريكا أعداء في الخفاء يتحتم إجهاض قوتهم العسكرية والاقتصادية وغيرها أولا بأول حفاظا علي جعل ميزان القوي في يد أمريكا وحدها . هذا التحطيم يحدث أحيانا بطريقة مباشرة – وذلك بالنسبة للدول الصديقة لأمريكا في العلن والتي تكون في العادة دولا غير هامة ولا يخشي بأسها – ويحدث في أحيان أخري بطريقة خفية وغير مباشرة وغير مهينة (علي عكس الطريقة المباشرة التي تكون مهينة في أغلب الأحوال، أعني ناجمة عن صراع علني مباشر) – وذلك بالنسبة للدول الأوروبية التي تعتبرهم أصدقاء في العلن في حين أنها تعتبرهم في الخفاء الأعداء الحقيقيين الذين لا نغفل عنهم لحظة واحدة .

وإذا كنت المجموعة الاولي – الأصدقاء في الخفاء والأعداء في العلن – قد عرفت في التاريخ باسم المعسكر الشرقي أو المعسكر الشيوعي أو المعسكر الروسي، فإن المجموعة الثانية – الأصدقاء في العلن والأعداء في الخفاء – قد عرفت كما يذكر وهبة طلعت في التاريخ باسم المعسكر الغربي أو المعسكر الرأسمالي أو المعسكر الأمريكي – وإن كان المعسكر الأول قد اندرج في حلف واحد عرف في التاريخ المعاصر باسم حلف وارسو، فإن المعسكر الآخر قد اندرج في حلف آخر أطلق عليه اسم حلف شمال الأطلنطي .

هذا التقسيم الأمريكي لدول العالم – في أعقاب الحرب العالمية الثانية – إلي دول صديقة في العلن عدوة في الخفاء، ودول عدوة في العلن صديقة في الخفاء، لم تكن تقسيماً ثابتاً أو مطلقاً كما يذكر وهبة طلعت، وإنما كان، علي العكس، تقسيما نسبيا أوو ديناميكيا يسمح بتحول بعض الدول – إن لم يكن كلها إن أمكن – من أحد هذين القسمين أو العسكرين، إلي الآخر . والغرض من هذه الديناميكية هي نشر الغموض أو اللبس أو التوهان الذي يعد الهدف الأساسي للسياسة الأمريكية، والذي تهدف من ورائه إلي تنويه البشر وتحويل عيونهم وأبصارهم عن حقيقة ما يدور من ناحية، وإلي تجنب الثبات أو الطابع الاستاتيكي الذي يجعل البشر يألفون علي المدي الطويل، ومن الناحية الأخرى، ما يدور (في صراع وخلافه) من حولهم ويتعايشون معه الأمر الذي يجعل الأشياء والأحداث تفقد طابعها الديناميكي وتتحول إلي واقع يكون جزء من حياتهم العادية يألفونه ويتعايشون معه بصورة عادية تماما وقد لا يعيرونه أي اهتمام علي الإطلاق لفقدانهم الدافعية تجاهه أو ليأسهم منه أو من تغييره مثلهم في ذلك مثل المريض الذي يصاب بمرض عضال لا يمكن أن يبرأ منه علي الإطلاق، ومن ثم لا يكون أمامه إلا أن يحاول التأقلم عليه، الأمر الذي يحدث بكل تأكيد من فرط معايشته له – إن التأقلم – أو المجاراة – هو، بتعبير سياسي، العدو اللدود، العدو الحقيقي الوحيد في الخفاء، لحراس العالم .

هذا التقسيم الأمريكي للعالم إلي مجموعتين أو قسمين أو معسكرين أو حلفين رئيسيين أفضي في اعتقاد وهبة طلعت إلي وجود زعيمين رئيسيين لهذا التقسيم أحدهما زعيم حقيقي والآخر زعيم كاذب أو مصنوع، أحدهما زعيم أصيل، والأخر زعيم زائف . الأول يشير إلي الزعامة الأمريكية العلنية التي تزعمت في العلن - أقول في العلن لأنها في حقيقة الأمر تزعمت الاثنين في الخفاء، كما سأوضح فيما بعد – ما عرف باسم حلف شمال الأطلنطي، والآخر يشير إلي الزعامة الروسية التي أجبرتها أمريكا علي تزعم ما عرف في ذلك الحين باسم حلف وارسو . هذان الزعيمان – الأصلي والزائف واللذان هما في الحقيقة زعيم واحد هو الزعيم الأمريكي - هما اللذان ظلا ثابتين – أعني، زعيمين للعالم بشقية لفترة طويلة من الزمان .

لهذا كما يقول وهبة طلعت : لتعلم عزيزي القارئ الإنسان أن الرؤية التي سادت لفترة طويلة من الزمن والتي تزعم أن روسيا كانت تتزعم نصف الكرة الشرقي، وذلك في مقابل تزعم أمريكا لنصف الكرة الغربي، هي رؤية زائفة خدع بها البشر – ولا يزالون – لفترة طويلة من الزمان . فحقيقة الأمر الخفية أو المقلوبة هي في اعتقادي أن أمريكا هي التي صنعت المعسكر الشرقي – في مقابل صنعها للمعسكر الغربي – وجعلت روسيا علي رأسه الأمر الذي يعني أن أمريكا جعلت من روسيا أمريكا أخري، أفضل أن أطلق عليها اسم أمريكا الخفية، ولكن في ثوب مخالف، وجعلتها تنفذ الوجه الحقيقي الآخر الخفي للسياسة الأمريكية العلنية الإيجابية أعني الوجه السلبي، أما الوجه الإيجابي العلني فقد تكلفت به أمريكا العلنية باعتبارها الدولة التي تزعم في العلن أنها الدولة المحبة للسلام والعدالة والحرية والمساواة بين بني البشر . فروسيا كانت قد دمرت تماما في أعقاب الحرب مثلها في ذلك مثل أي دولة أخري، ولم يكن أمامها سوي الانصياع التام لأوامر أمريكا، هذا وإلا سيلحق بها نفس الدمار الذي لحق باليابان، والذي قد يلحق بأي دولة أخري تسول لها نفسها الخروج عن هذا الإطار .

هذا يعني أن أمريكا جعلت من روسيا أمريكا خفية تنفذ تحت اسمها الوجه السالب للسياسة الأمريكية، أما الوجه الموجب فقد تكلفت به أمريكا العلنية . ولهذا لم يكن البيت الأبيض الامريكي سوي الوجه الإيجابي للبيت الأبيض الروسي الذي كان يمثل القطب السالب الخفي للسياسة الأمريكية . هذه الحقيقة يمكن أن تتأكد في اعتقادي حتي من خلال التسمية اللفظية للاسمين . فكلمة الكرملين الروسية قد اختارتها أمريكا بكل دقة وعناية لأنها تعني حتي من الناحية اللفظية البيت الأبيض الأمر الذي يؤكد ضمنا أن البيت الأبيض الروسي، أو الكرملين في اللغة الروسية، لم يكن في نهاية المطاف سوي البيت الأبيض الخفي للبيت الأبيض العلني، أعني، للبيت الأبيض الأمريكي فالبيتين ينفذان السياسة المزدوجة ل حراس العالم أعني السياسة الأمريكية بوجهيها السلبي والإيجابي . وعلي حين اضطلعت أمريكا العلنية أعني الولايات المتحدة الأمريكية أو بالتحديد حراس العالم بالوجه الإيجابي العلني الذي يعد دوما بالرخاء والحرية والعدالة والمساواة بين سائر البشر، اضطلعت أمريكا الخفية المسماة روسيا بالوجه السلبي لهذه السياسة، والذي يمثل الغاية الحقيقية أو الجوهرية لسياسة حكام العالم أعني الإجهاض المستمر والخراب الدائم لكل دول العالم حتي يبقي العالم كله وعلي الدوام في قبضتهم .

والدليل العملي أو الواقعي الرئيسي الذي يقدمه وهبة طلعت هنا كمبرر لرؤيته هذه يمكن أن نضعه في كلماته التالية والتي يقول فيها وهبة طلعت : أنظر عزيزي الإنسان إلي كافة الدول التي ضمت إلي المعسكر الروسي أو الشرقي أو الشيوعي أو الأمريكي الخفي أو السلبي ولسوف تجد أن الخراب والدمار قد حل بهذه الدول بلا استثناء، ثم انظر إلي هذه الدول عينها عندما عادت وانضمت إلي المعسكر الأمريكي أو الغربي أو الرأسمالي العلني أو الإيجابي، ولسوف تجد أيضا أن الأمل والنماء قد بدأ يزحف عليها فأمريكا العلنية لم تشأ – خاصة في أعقاب استيلائها علي عرش العالم – أن تناقض نفسها، أعني أن تكون رمزا للخراب تارة وللنماء تارة أخري، لأن ذلك كان سيفضحها أمام العالم الذي فضلت كسب ولاءه في العلن علي الأقل لأسباب ذكرناها فيما سبق، ولهذا فضلت أن تظل متسقة في العلن أعني فضلت أن تظل في نظر العالم المخدوع دولة معبرة عن الحرية والإخاء والمساواة في العلن، في حين راحت في الخفاء تنفذ الجانب السلبي، الذي يعد بالنسبة لها الجانب الأهم والأعظم، تحت اسم روسيا التي هي أمريكا الخفية . هذه الفكرة المزدوجة هي التي عبر عنها دوما من خلال القاعدة الأمريكية الشهيرة التي تطبقها دوما علي العالم أجمع، والتي تقول : لا تدعه يعيش، ولا تتركه يموت . فالبشر – كل البشر – يجب أن يتأرجحوا بين هذين الجانبين . والمعسكر الروسي أو أمريكا الخفية كان يجسد الجانب المتعلق ب لا تدعه يعيش، وعندما تصل الأمور إلي حد الموت، تقوم أمريكا العلنية بتجسيد الجانب المتعلق ب لا تتركه يموت . هذه العملية متحققة دوما في الواقع العملي، ولقد عبرت عنها الفلسفة بلغة السلب – الإيجاب، ال لا – ال نعم، الهدم – البناء . هذه العملية كانت تعمل دوما وباستمرار في التاريخ بصورة تلقائية أو شبه تلقائية علي أبعد تقدير، وإلي أن اتخذت طابعا مقننا ومدبرا منذ أن تولت أمريكا حكم العالم في أعقاب الحرب العالمية الثانية . إنها اللغة أو العملية التي تسير دوما وباستمرار من السلب، وإلي الإيجاب، ثم العودة إلي السلب من جديد، ثم منه إلي الإيجاب مرة أخري ... وهكذا . هذه هي العملية التي تمضي، بتعبير دارج، من الهدم، إلي البناء، ثم إلي الهدم، ثم البناء، وهكذا باستمرار، وذلك تحقيقا أو تجسيدا للجدل الكامن في العبارة الشهيرة لا تدعه يعيش، ولا تتركه يموت، أو لمنطق الحرية (أو الخير أو النماء) – القهر (التحكم أو الاستعباد أو الهدم) الذي لا يتوقف أبدا .

هذا المنطق – أو الجدل – تجسد بكل معانيه حتي في تمثال الحرية الذي نصبه حراس العالم في قلب مدينة نيويورك . فالتمثال في حد ذاته يجسد فكرة الحرية التي رفعوا شعارها في العلن في أعقاب الحرب العالمية الثانية، غير أن تجسد الحرية نفسها لا يعني في الخفاء سوي نفيها أو مناقضها، وذلك لأن الحرية في حد ذاتها لا يمكن أن تقبل التجسيد أو التحديد . ففي تجسيد الحرية يكمن تكبيل الحرية أو تحويلها إلي عبودية . وبينما هلل البشر في العلن لوضع هذا النصب التذكاري الذي يجسد الحرية، ثم تكبيلهم في الخفاء، وعن غير وعي منهم، في قيود حديدية أو فولاذية لن يمكنهم التحرر منها إلي الأبد . لهذا السبب لا أستطيع أن أجد في تمثال الحرية إلا كل معاني القهر والعبودية .

إن التقسيم الأمريكي الاول للعالم لم يتوقف عند حد تقسيم سائر الدول التي دول بعضها تابع لأمريكا العلنية، والبعض الآخر تابع لأمريكا الخفية، بل تعداه في مثير من الأحيان إلي حد تقسيم الدولة الواحدة – وذلك في حالة ما تكوون تلك الدولة صالحة للقسمة كاليمن مثلا – إلي قسمين أحدهما تابع لأحد الطرفين الرئيسيين (أمريكا العلنية مثلا)، والآخر تابع للطرف الآخر (أمريكا الخفية أو روسيا) . والغاية الأساسية التي كان يهدف إليها حراس العالم هو جعل سائر دول العالم خاضعة بمعني من المعاني لهذا النوع من التقسيم، الأمر الذي يجعلها جميعا خاضعة ضمنا لمبدأ أو لقاعدة أمريكا الخفية – أمريكا العلنية أو السلب – الإيجاب أو الخراب – النماء أو لا تدعه يعيش، ولا تتركه يموت . والتقسيم روعي فيه التجاوز المكاني الدائم بين المعسكرين : الخفي، والعلني . فإذا وجدت دولة من الدول تدور في فلم معسكر أمريكا العلنية مثلا، سرعان ما تجد بجوارها دولة أخري – وفي كثير من الأحيان كانت الدولتان في الأصل دولة واحدة – تدور في فلك أمريكا الخفية . ولاشك في أن هذا التجاوز المكاني كان يسهل علي حراس العالم إقحام الدولتين – أو الدول المتجاورة مكانيا والمختلفة سياسيا – في صراع يحدث بين الحين والآخر بطريقة محسوبة ومدبرة تماما تحقيقا لمنطق السلب – الإيجاب، او الهدم – البناء، وذلك من أجل أن تظل سائر الدول في تراجع وتقهقر مستمر يمكن أمريكا الخفية من أن تطفو علي السطح وحدها كدولة حاكمة للعالم .

هذا بالإضافة إلي أن أمريكا كانت تستخدم هذا التقسيم المتجاور كما يري وهبة طلعت لجعل سائر الدول رقباء علي بعضهم البعض، الأمر الذي سهل عليها مراقبة كل ما يجري في العالم – مستعينة بهذه الدول نفسها – في وقت لم تكن تملك فيه بعد كافة الوسائل التي تمكنها من مراقبة ما يجري في كل مكان في العالم وبدون مساعدة من أحد . هذا يعني أن التقسيم كان يؤدي خدمة مزدوجة ل حراس العالم فهو، من ناحية، ينفذ مبدأ السلب – الإيجاب أو الهدم – البناء الذي تضعه أمريكا دوما نصب عينيها وتلعب فيه أمريكا الخفية والعلنية – باعتبارها القوة الأعظم التي ترتمي سائر الدول في حضنهما التماسا للحماية والامان – الدور الرئيسي باعتبارهما القوتين (اللتين هما أصلا قوة واحدة) المحركتين للصراع بين سائر دول العالم . وهو يساعد أمريكا، من الناحية الأخري، علي معرفة ما يجري في سائر دول العالم – هذا بالإضافة إلي وسائل التجسس التي كانت تقوم بها من قواعدها الموجودة في كل دولة من دول العالم – نظرا لأنها جعلت من سائر الدول رقباء علي أنفسهم وعلي بعضهم البعض .

هذا يفسر السر في استغناء أمريكا في هذا العصر عن الاستعمار والاحتلال العسكري للدول ظل منتشرا حتي فترة الحربين العالميتين . وهنا يقول وهبة طلعت : فهي لم تجد أي مدعاة إلي مثل هذا الاستعمار الذي كان يبدد الأفراد والمعدات ويستهلك أكثر مما كان يجلب لها من خيرات . ولهذا استبدلت هذا الاستعمار أو الاحتلال العسكري بنوع آخر من الاحتلال هو الاحتلال السياسي – هذا الاحتلال يفترض بدوره الاحتلال الاقتصادي بل وسائر أنواع الاحتلال الأخرى – الذي كانت (ولا تزال وستظل) تحصل من خلاله علي ما تريد . وهكذا تحول الاحتلال إلي احتلال داخلي أعني من داخل الدول نفسها بدلا من كونه احتلالا يأتي من الخارج – علي غرار ما كان يحدث في الماضي . ولا شك في أن هذه الحالة الأخيرة هي الأفضل ما دامت تفضي إلي نفس نتائج الاستعمار العسكري أو الغذو الخارجي ... وللحديث بقية

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم