أقلام حرة

وهبة طلعت أبو العلا ونظرية الوجود المقلوب (11)

محمود محمد علينعود ونكمل حديثنا في مقالنا الحادي عشر والأخير عن وهبة طلعت أبو العلا ودوره في صياغة نظرية الوجود المقلوب، حيث نكمل عن الحكم الأمريكي الاول للعالم وفكرة الصراع الساخن وفي هذا  يقول وهبة طلعت: ولهذا لتعلم عزيزي الإنسان أن ما سمي بحق الفيتو ليس سوي أكبر دليل علي أن العالم محكوم ولا يستطيع أن ينفذ إلا السياسة الأمريكية المرسومة سلفا، والتي لا يمكنه أن يحيد عنها . وإذا حدث ووجد أي خروج ظاهري أو علني عن هذه السياسة، فإن هذا لا يحدث إلا لكونه يخدم في الخفاء مصالح أمريكا . فحث الفيتو يجعل من المحال إضفاء طابع المشروعية علي قرار تصدره هيئة الأمم ويكون متعارضا مع مصالح أمريكا الخفية أو حتي العلنية . وعلي هذا يكون الظن العلني الذي مؤداه أن حق الفيتو هو حق خصص لصالح الشعوب لا ضدها هو ظن كاذب ومخادع ولا أساس له من الصحة، لأنه علي الرغم من أن هذا القرار قد يكون في صالح الدول في الظاهر، إلا أنه ليس كذلك في الخفاء . فهو يخدم مصالح أمريكا أولا وأخيرا . ومصالحها يمكن أن تختزل في شئ واحد هو أن يتحقق وباستمرار جدل السلب- الإيجاب . هذا هو في اعتقادي المنطق الذي أملته السياسة الأمريكية علي العالم في أعقاب الحرب العالمية الثانية، والذي ظل سائدا لفترة طويلة من الزمان . هذا المنطق كان ينطوي كما رأينا علي نتائج عديدة علي قدر كبير من الأهمية . وإذا كنت قد أشرت إلي هذه النتائج فيما سبق، فسوف أحاول في هذا الجزء الختامي من وصف الحكم الأمريكي الأول للعالم تلخيص أهم هذه النتائج في النقاط التالية :

أولا:- إن منطق الحرب قد اختلف عما كان عليه قبل وأثناء الحربين العالميتين، بل وحتي منذ بداية الخليقة . فالحروب لم تعد الآن متروكة لتقلبات القدر، بل أصبحت محسوبة ومقدرة ومعروفة سلفا . وحراس العالم هم وحدهم الذين يخططون لها، ويمدون أطرافها بعتاد محسوب في ضوء القيمة التي ستجلبها الحرب عليهم، ثم بعد ذلك يختارون ويحددون ساعة انطلافها، وهم يعرفون سلفا سائر نتائجها . هذا هو منطق الحروب في الوقت الحاضر أعني منذ الحرب العالمية الثانية . ولكن هذه الحقيقة أخفيت عن البشر ولا يعرفها غير حراس العالم – والصفوة – الذين ينتشرون في كل مكان، لأنه لو صارت هذه الحقيقة ملكا مشاعا بين سائر البشر لفقدت الحر أهميتها، ولعزفت الشعوب عن خوضها، إذ كيف أدخلت – أو تدخل أنت أو نحن جميعا – حربا أعلم أن نتيجتها محسومة سلفا لصالح أحد الطرفين؟ ! إن هذا بلا شك سيفقد الحرب أهميتها، وسيدخلها البشر مرغمين، لا عن طواعية، وهذا من شأنه أن يحدث أضرارا علي كافة المستويات . والحروب كلها لم تعد تدار إلا تحقيقا لأهداف سياسة حراس العالم، تلك الاهداف التي تكون خفية في العادة ومناقضة من كافة الوجوه للأسباب العلنية المزعومة التي يتشدق بها أطراف النزاع باعتبارها تبريرات واهية ومضللة للدخول في الحرب . وحراس العالم هم الذين يدفعون (أو يكرهون) – تحت زعم أداء الادوار – أطراف النزاع (باعتبار أنه لا يوجد شعب في العالم يريد الصراع أو حتي يرغب في الدخول فيه) إلي الدخول في الحرب، ولا يترك لهم في العادة إلا هذا الخيار . غير أن أطراف الحرب لا يمكنها أن تعلن علي شعوبها أنها دخلت الحرب مرغمة، بل تصورها زورا وبهتانا علي أنها حرب مقدسة ودفاعا شريفا لابد من القيام به ردا للعدوان ودفاعا عن الأرض، والعرض، والشرف، والكرامة !! وعلي هذا النحو يتم خداع وتضليل الشعوب .ولكن حقيقة الأمر الخفية أو المقلوبة هي ان أطراف الحر تدخل دوما في الحروب مرغمة تحقيقا لسياسة حراس العالم وخدمة لأغراضهم . والأطراف لا تملك حق الاعتراض، لأن ذلك معناه التحطيم المهين وتمريغ الوجه في التراب والفناء الحقيقي ربما إلي الأبد . ولهذا عندما تستيقظ من نومك، عزيزي الإنسان، في صبيحة أحد الأيام وتسمع ع اندلاع حرب بين طرفين – أو أطراف – فعليك أن تدرك علي الفور أن مثل هذه الحرب لم تحدث فجأة أو في يوم وليلة، وإنما هي صنعت ورتب لها ترتيبا دقيقا حتي تبدو في الظاهر وكأنها حربا ذاتية، في حين أن حقيقة الأمر الخفية أو المقلوبة هي أنها حدثت بفعل الصدفة المدبرة سلفا كي تبدو صدفة، وبمعونة مشكلات تاريخية مصنوعة تنفج فيها النار بين الحين والآخر ضمانا لتكرارها، وما اندلاع الحرب إلا استكمالا لتلك العملية التي رتب لها منذ وقت طويل – هذا ينطبق في اعتقادي علي كل حرب مهما كانت اسبابها ومبرراتها العلنية المزعومة، لأن الصدفة لم يعد لها مكان في ميدان الحرب . والأمر لا يتوقف عند هذا الحد، إذ عليك أن تدرك أيضا عزيزي الإنسان أن ادعاء أي طرف أنه يمتلك أسلحة الدمار الشامل، علي سبيل المثال، هو ادعاء كاذب ومخادع ومضلل، وذلك لأن وضع مثل هذه الأسلحة في أي دولة من الدول لا يكون إلا بمعرفة حراس العالم ولخدمة أهدافهم . وفي النهاية يجب أن تدرك أن بعض الحروب التي تندلع في العصر الحديث يكون الغرض منها خفض عدد سكان العالم هو في حقيقة الأمر ضرورة ملحة . وما دام البشر لا يقتنعون بذلك، فلا بأس من تخفيضهم من خلال الحرب – هذه حقيقة ولكن البشر عنا غافلون! فمنطق السياسة التي يديرها حراس العالم يجعل من الحروب عنصرا هاما في خفض عدد سكان العالم . وهم يجعلون البشر ينجبون صغارهم وبالقدر الذي يريدونه، ثم ينتظرون حتي يصلوا إلي سن معينة، ثم يسوقونهم إلي الحرب – عن رضي وطيب خاطر من ذويهم المخدوعين ! – حيث يلقون حتفهم، وذلك تطبيقا لمنطق أن كل شئ تحت التحكم أو السيطرة . هذا المنطق لا ينطبق علي الحروب فحسب، بل علي كل شئ يدخل في ذلك حتي الانقلابات السياسية التي تحدث في أي دولة من الدولة . فكل شئ يحدث بفعل الصدفة المدبرة سلفا كي تبدو صدفة . هذا يفسر السر في كون أن الحرب تندلع فجأه وتنتهي دون أن يعلم أحد في العلن لماذا بدأت أو لماذا انتهت . فكل شئ يبدأ في العادة في الخفاء وينتهي في الخفاء، وكل ما يقال في العلن ليس سوي ستارا يخفي تحته حقيقة ما يدور وما يتحقق من أهداف . وإذا كنت، عزيزي الإنسان، في شك من هذا، فلن أطلب منك إلا أن تطرح علي نفسك هذا السؤال : كيف يمكن لشئ أن يحدث مصادفة علي هذه الأرض؛ وكل شئ – حتي بيوت النمل ! – أصبح، خاصة إبان الحكم الأمريكي الثاني للعالم الذي سأتحدث عنه فيما بعد، مراقبا ليلا ونهارا طوال العام . هذه الحقيقة تنكشف لنا من خلال حقيقة أخري مرعبة نعيش فيها ونحن عنها غافلون . ألسنا نشاهد جميعا وبصورة تكاد تكون يومية لعبة كرة القدم، علي سبيل المثال ، في أي مكان في العالم، وهي تجري وقت حدوثها . حسنا !، وألسنا نري جميعا كم حجم كرة القدم مثلا علي شاشة التلفاز، ناهيك عن حجم اللاعبين أنفسهم أو حتي حجم المنشآت المحيطة . ألست تري كل ذلك – وغيره – في حجمه العادي من جهاز في يدك لا يتعدى حجمه السنتيمترات . بلي ! ولكن، ألم يدر بخلدك هذا السؤال : أليس الذ جعلك تري هذه الأشياء في حجمها الطبيعي علي الهواء مباشرة ومن أي مكان في العالم وأنت قابع في منزلك تمسك بجهاز تلفاز صغير يزيد عن حجم علبة الكبريت قليل، بقادر أيضا علي مراقبة كل شئ في الكرة الأرضية بداية من أضخم الأشياء وانتهاء بدبة النملة (هذا إذا قلنا تجاوزا أن دبة النملة هي أقل الأشياء) ؟ أليس الذي يفعل هذا، بقادر علي أن يفعل ذاك؟ بلي ! فالتقدم المذهل في التكنولوجيا الفضاء – الذي سنتحدث عنه فيما بعد – جعل الكرة الأرضية تبدو في نظر حراس العالم كرة صغيرة أشبه بكره القدم لا اهمية لها ولا خوف منها . والخوف كل الخوف أصبح الآن موجها إلي ذلك العالم الكاهن وراء هذه الكرة، أعني إلي الكون كله . فالكرة الأرضية بكل ما فيها أصبحت تحت التحكم أو السيطرة، وحراس العالم يتطلعون الآن إلي إخضاع الكون كله – إن أمكنهم – لهذا المبدأ .

ثانيا:  إن النتيجة الثانية الهامة التي ترتبت علي حكم أمريكا الأول للعالم هي حرمان العالم من التسليح النووي بكافة أنواعه، مع السماح لدول معينة بإنتاج أسلحة تقليدية معينة، يكون إنتاجها بمعرفة حراس العالم وفي ظل مراقبتهم، كما يتم توزيعها بين سائر الدول بمعرفتهم ضمانا لعدم وجود تفوق حتي في هذا النوع من التسليح تأكيدا لعدم حدوث أي توازن في ميزان القوي .

ثالثا: والنتيجة الثالثة تكمن في انتهاء عصر الاستعمار أو الاحتلال العسكري، واستبداله بالاستعمار السياسي – الاقتصادي مع الاحتفاظ بوجود قواعد عسكرية محدودة في كل مكان في العالم حتي يتمكن حراس العالم من مراقبة كل ما يجري عن قرب  وباستمرار ضمانا لتحقيق أهداف سياسته الخفية والعلنية علي حد سواء .

ربعا: أما النتيجة الرابعة فهي تحول العالم أجمع إلي ادوات يستخدمها حراس العالم في أي وقت، سواء بطريقة علنية أو بطريقة خفية،  من أجل تأدية نفع أو من أجل الاستفادة منها، وإذا فشلت أداة من هذه الأدوات أو كفت عن تأدية نفع فلا استبعد أن يتم التخلص منها وإلي الأبد . هذا يعني أنني أري أن هناك قدرا محتوما ينتظر الكل ولا يمكن لأحد الفكاك منه . فوقت الفكاك قد ولي وانتهي زمانه، مثلما ولي زمان أي تغيير أصيل . فهناك إطار حدد سلفا ول يعد بوسع أحد الخروج عنه – اللهم إلا بقدر محسوب بحدد بمعرفة حراس العالم . ومن يشذ عن هذه القاعدة لن يكون مصيره إلا الفناء أو العدم المعدم . لهذا انتبهوا أيها السادة، واعتبروا يا أولي الأبصار !!

هذا المنطق الذي فرضه حراس العالم أجبر الكل علي التعامل بمنطقين أحدهما خفي مبهم، والآخر علني ظاهري . الأول يكمن في تنفيذ سياسة مفروضة علي الكل من قبل حراس العالم ولا يمكن لأحد الخروج عليها، أما الآخر فيتمثل في تصرف يملكون جميعا حق تقرير مصيرهم ويتمتعون جميعا بحرية فعل ما يرونه صالحا لهم – كل حسب مصلحته. هذا المنطق الأخير – العلني أو الظاهري – هو المنطق الذي أذيع في العلن وللأسف صدقه البشر !! في حين أن حقيقة الأمر الخفية أو المقلوبة هي أن الكل كان – ولا يزال وسيظل – يتعامل بالمنطق الخفي باعتباره المنطق الحقيقي . ومما لا شك فيه، في اعتقادي، أن المنطق العلني هو المنطق الذي ترحب به أمريكا في العلن، ما دام كل شئ يسير في الخفاء طبقا لما تراه . هذا هو السر في التضارب والتخبط والتوهان الدائم الذي يعايشه الجميع . فالبشر – كل البشر – يعيشون الآن موزعين بين منطقين أحدهما علني إيجابي يوهمهم ويعدهم بالآمال الكبار، والآخر خفي سلبي يسلب منهم كل الآمال ولكنهم لا يشعرون !! وهكذا تاه العالم بين منطق السلب – الإيجاب، منطق الهدم – البناء، منطق لا تدعه يعيش، ولا تتركه يموت، وظل واقفا في مكانه يتخبط بين هذا، وذاك، في حين قفز التقدم الأمريكي قفزة أخري رهيبة وجديدة مكنت أمريكا من إعادة تشكيل واجهة العالم تشكيلا جديدا يختلف عن التشكيل أو التقسيم السابق الذي ظل يعمل بكفاءة إلي وقت قريب ثم سرعان ما بدأ ينخر فيه السوس والعطب، الأمر الذي جعل امريكا تتخلص منه من أجل إعادة تقسيم العالم تقسيما جديدا أكثر ديناميكية وحيوية بعدما اكتسب التقسيم السابق وبمرور الوقت طابع الثبات وأصبح شيئا قديما يجب التخلص منه .

وفي نهاية حديثي لا أملك إلا أن أقول تحية طيبة لصديقي المبجل المرحوم وهبة طلعت أبو العلا الذي كان يمثل لنا نموذجاً فذاً للمفكر الموسوعي الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

وتحيةً أخري مني لهذ الرجل العظيم الذي لم تستهوه السلطة، ولم يجذبه النفوذ ولكنه آثر أن يكون صدى أميناً لضمير وطني يقظ وشعور إنساني رفيع وسوف يبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفرداً.

رحم الله صديقنا وهبة طلعت، الذي لم يختلف عليه أحد والذي بالفعل صدق فيه قول الشاعر: وليس موت أمرئ شاعت فضائله كموت من لا له فضل وعرفان.. والموت حق، ولكن ليس كل فتى يبكي عليه.. إذا يعزوه فقدان في كل يوم .. ترى أهل الفضائل في نقصان عد وللجهال رجحان. الذي صدق فيه قول الشاعر: رحلتَ بجسمِكَ لكنْ ستبقى.. شديدَ الحضورِ بكلِّ البهاءِ.. وتبقى ابتسامةَ وجهٍ صَبوحٍ.. وصوتًا لحُرٍّ عديمَ الفناءِ.. وتبقى حروفُكَ نورًا ونارًا.. بوهْجِ الشّموسِ بغيرِ انطفاءِ.. فنمْ يا صديقي قريرًا فخورًا .. بما قد لقيتَ مِنَ الاحتفاء.. وداعًا مفيدُ وليتً المنايا.. تخَطتْكَ حتى يُحَمَّ قضائي.. فلو مِتُّ قبلكَ كنتُ سأزهو.. لأنّ المفيدَ يقولُ رثائي.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط.

 

 

في المثقف اليوم