أقلام حرة

اللغة والطبيعة البشرية

كاظم لفتة جبرتخيل ان يبدأ كل شيء من دون صوت، هل نقتنع بأننا موجودون؟هذا مزعج لنا ولو بصورة افتراضية، مزعج الى حد ان يكون فيه الكلام صدى صوتنا، من غير الممكن أن تدب الحياة فينا على صدى اصوات تفكيرنا، كأبواب مغلقة لا يستطيع حتى نَفس صوتنا الولوج منها، ذلك مزعج حقا لوكان حقيقي، فأنا أكتب وقد اختنقت كلماتي وضاق نفسي من شدة تخيل ذلك، ليس بوسعنا الكلام سوى النظر !

لذلك يرى الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو (ان ملكة الكلام طبيعية في البشر، الا ان الكلام ليس طبيعياً فيهم) ! . وهذا ليس بعيداً عن قول رنييه ديكارت في الانا البشرية موكداً وجودها من خلال التفكير فقال: (انا افكر اذن انا موجود) من ذلك نجد أن الفكر مرتبط بالانا البشرية ومعادلة الوجود لا يمكن أن تكون دون وجود معادل لذلك الفكر وهي اللغة، فاللغة طبيعة بشرية كما هي الحرية والانسان حر لما يمتلك من عقل يعبر من خلاله عن ارادته ورغباته ولا يكون ذلك الا باللغة، فالكلام اصيل في الانسان منذُ البدء، لان كل شعب له حضارة ولا يمكن التعبير عنها الا من خلال الكلام، وهذه اللغة هي المعبرة عن طبيعة كل فرد لما تحتويه من مبادئ، أفكار، أهداف، معاني، وأصوات.

لذا تكون اللغة طبيعة بشرية لأنها تعبر عن ما يدور في خاطر الانسان من مشاعر وعواطف وان المبادئ التي تحتويها اللغة تساهم بشكل كبير في تطوير الوعي الإنساني للتعرف على طبيعية النفس والآخرين من خلال فن التعامل، ففي اليونان كان سقراط يعرف طبيعية الآخرين من خلال التحاور معهم واكتشاف ذواتهم وهوياتهم من خلال ألسنتهم فالمرء مخبوء تحت طي لسانه، فلسقراطيه ممارسة لغوية تعتمد منهج التهكم والتوليد في تعرية ذوات الآخرين والإقرار بالحقيقة المطلقة. (اعرف نفسك بنفسك) فمعرفة النفس معرفة أولى لمعرفة الآخر، في مرحلة معرفة النفس تكون اللغة الصورية هي الحاضرة، أما لغة التعامل مع الآخر تخضع للمقاييس المادية لذلك كان الكلام بالصوت هو لغة التعامل، لذلك تكون لغة النفس متربطة بالحقيقة المطلقة، أما لغة التواصل مع الآخرين متربطة بالنسبية لذلك قامت السفسطائية في تعليم الناس فن الخطابة في السياسة .

روسو يرى ان اللغة ملكة فطرية نستطيع من خلالها استنتاج الأفكار والمبادئ عن طريق المثيرات الخارجية كما أنها تزودنا بالقدرة على التفكير دون العوامل الخارجية، فاللغة طبيعة للانسان لكن بطريقة محددة، واذا أراد الانسان الكلام علية اولاً معرفة كيف يمكن أن يفكر، والأفكار العامة تأتي إلى العقل عن طريق الكلمات، والفهم يلتقطها عن طريق الجمل، وهذا يمنع الحيوانات من تشكيل الأفكار أو من الوصول إلى الكمال الذي يعتمد عليهم، اي بمعنى يكون الحيوان خاضع في تعاملاته إلى العوامل الخارجية فتكون افعاله ميكانيكية، لذا نجد طبيعة الانسان ولغته عندما تخضع إلى العامل الخارجي تكون تابعه ومقيدة بلغة العامل الخارجي *.

فتكون طبيعته كالطبيعة الحيوانية الآلية، فاللغة عامل أساسي في تكوين الطبيعة الإنسانية وتطويرها، وبما أنها فطرية لذلك تكون من شروط الحرية ان تكون اللغة غريزة إنسانية تهب له المبادئ التي تجعل منه حراً غير خاضع إلى اوامر وسفسطائية الآخر، وهذا ليس بعيد عن العقل الأسطوري الساذج ايضاً في أنه خاضع بممارساته للعوامل الطبيعية لذلك كانت لغتهم لغة مستعارة من العامل الخارجي، كما أن تعدد لغات العالم يعطي الإنسانية فسحة كبيرة للتطور من خلال التبادل الثقافي اللغوي وهذا ما حدث في العصور الوسطى من خلال حركات الترجمة وإيجاد معاني جديدة بوجود لغات أخرى تختلف في المكان والزمان والبيئة التي كونت معانيها لمعرفة تلك اللغات فتح لنا افقاً جديداً لمعرفة الطبيعة البشرية، فمعرفة اللغة معرفة لطبيعة تفكير انسان ذلك البلد لكي يسهل التواصل معهم والاطلاع على ثقافتهم والاستفادة منها في التحرر من التقاليد والأعراف التي فرضته عليه طبيعة وبيئة مجتمع الفرد المتعلم .

ففي عصرنا اصبحت دراسة لغة الجسد علماً خاضع لبعض التجارب لدراسة الإشارة والإيماءات لحركة الجسد لفهم طبيعة الفرد ومعرفة اثر العوامل الخارجية عليه ومعرفة صحة الكلام الذي يتحدث واخاضها للتحليل والتمحيص العقلي، فاللغة لها تأثيرها على شخصية وطبيعة التكوين المادي (الجسد) للانسان .ولهذا تكون اللغة عامل مؤثر واساسي في تكوين الطبيعة الحرة للانسان .

 

كاظم لفتة جبر

.................

*ينظر: نعوم تشومسكي، غريزة الحرية، مقالات في الفلسفة والفوضوية والطبيعة البشرية، ترجمة: د. عدي الزعبي ومؤيد النشار، ط١، دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع، سوريا، دمشق، ٢٠١٧.

 

في المثقف اليوم