أقلام حرة

الحرب النفسية ودورها في زعزعة استقرار الدول الوطنية (1)

محمود محمد عليعرف الإنسان الصراع لأجل البقاء، منذ فجر التاريخ، فقد "لجأ منذ القدم إلي استغلال مناطق الثروة والنفوذ عن طريق ترهيب أخيه الإنسان بإطلاق الدعاية والشائعات المغرضة، وبث الشك والخوف والشقاق في صفوف الخصوم". والحرب النفسية شكل من أشكال الصراع المبرمج الذي تستخدمه الدول والمؤسسات الكبرى وصولاً إلي تحقيق أهداف متنوعة؛ سياسية وعسكرية واجتماعية وثقافية. إنها حرب "حرب تحطيم المعنويات، وحرب الأعصاب، وحرب غسيل الأدمغة، وحرب العقول،وحرب الأفكار"، كسلاح "غير مباشر يعتمد علي مبادئ وتطبيقات علم النفس في مجال تغيير الاتجاهات النفسية، وتشكيل الفكر والوجدان والسلوك بما يتناغم مع أهداف الطرف المستخدم لها" .

وقد كان الجيل الرابع من الحروب مفهوم ارتبط في نشأته وتطوره بتطور الإعلام وشيوع تطبيقات النظام الدولي الجديد، بل ويعود إلي الحروب، عندما أدرك بعض القادة العسكريين أن جنودهم يقاتلون قتالاً شرساً تارة، ويتبلدون إلي حد الجبن تارة أخري، وكذلك جنود العدو الذين يستبسلون في الدفاع عن مواضعهم تارة، وينسحبون متقهقرين تارة أخري حتي عزا ذلك التناقض الانفعالي إلي العالم النفسي وتوجهوا إلي المختصين لدراسته وتطوير وسائل تقويته عندهم، وإضعافه عند خصومهم، فكانت إجراءاتهم العملية في هذا المجال شملت العديد من الوسائل والأدوات وضعت تحت عنوان الحرب النفسية التي عُرفت ما بعد الحرب العالمية الثانية بالاستخدام المخطط من جانب الدولة في وقت الحرب أو في وقت الطوارئ لإجراءات عاتية بقصد التأثير علي آراء وعواطف وسلوك جماعات أجنبية عدائية أو محايدة أو صديقة بطريقة تعبر عن تحقيق سياسة الدولة وأهدافها .وعرفت بعد ذلك بقليل بأنها "حملة شاملة تستعمل كل الأدوات المتوفرة وكل الأجهزة للتأثير في عقول جماعة محددة بهدف تدمير مواقف معينة، وإحلال مواقف أخري تؤدي إلي سلوكية تتفق مع مصالح الطرف الذي يشن هذه الحملة" .

علاوة علي أن حروب الجيل الرابع قد أكدت انحسار فرض الإرادة بقوة السلاح المادي، ذي التكلفة الباهظة في المال والأرواح وتحقيق الأهداف، لذلك رأت الولايات المتحدة أن "الحرب النفسية تفي بأغراض استخدام السلاح وأكثر دون اللجوء إليه، فهي لا تعتمد علي التدخل المباشر، واستخدام القوات المسلحة المرتبطة بالاستعمار التقليدي، والعدوان المعلن، وما يؤدي إليه من رفض ومقاومة. كما أن تأثير وأمد استخدام القوة محدودان، مقارنة بالحرب النفسية، ناهيك عن قلة تكلفتها إذا ما قورنت بحرب السلاح" .

ولما كانت حروب الجيل الرابع تسعي إلي دفع العدو إلي تحطيم نفسه، أو انهزامه عن طريق نفسه، فإن إخضاع دولة بالوسائل النفسية أرخص بكثير من إخضاعها بقوة السلاح، لقد أصبح في مقدور الجيوش أن تنتصر بواسطة الحرب النفسية، بأقل عدد وعلي أرض غير مناسبة إذا مهد لها علم النفس الطريق، بإضعاف معنويات الأعداء العسكريين والمدنيين، وبتقوية القوات الضاربة والجبهة الداخلية. ويمكن تعريف الحرب النفسية ومفهومها بأنها "وضع الأمور والشؤون السياسية والعسكرية والاقتصادية والعقائدية التي خطط لها موضع التنفيذ الفعلي بهدف التأثير علي الآراء والمواقف ووجهات النظر والسلوكيات في هدف معين؛ لذلك لجأت إلي الحرب النفسية بغرض استخدام الدعاية ضد الخصم بالإضافة إلي استخدام وسائل أخري لها طابع النشاط الحزبي، أو الاقتصادي، أو السياسي علي النحو الذي يكون مكملاً لنشاط الدعاية، وإذا أخذنا في ذلك أن الحرب النفسية هي لون من النشاط الدعائي الذي استجد بعد الحرب الكونية الثانية" .

وتوجه الحرب النفسية لشل معنويات العدو وتقليل عزيمته علي القتال وإلقاء الرعب في قلبه ودفعه إلي الاستسلام . والحرب النفسية حرب شاملة توجه إلي القوات المسلحة وتمتد إلي الجبهة الداخلية، إلي الشعب كله عسكريين ومدنيين، وهي حرب متصلة ومستمرة في زمن الحرب والسلم علي السواء .. إنها تشن قبل الحرب الفعلية "لتحطيم معنويات العدو، وتتغلغل الحرب النفسية في جميع شؤون ونواحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية" .

وتقوم الحرب النفسية علي الهجوم والدفاع في وقت واحد وتستخدم أوسع نطاق الحرب الخاطفة ؛ "فالحرب النفسية هي تحطيم قوة الجيش وانهزامه عن طريق نفسه وإن الحرب النفسية أقل كلفة من الحرب المادية وباستطاعة أي جيش أي جيش أن ينتصر بواسطة الحرب النفسية بأقل عدد فهي وسيلة لإضعاف معنويات الأعداد العسكريين والمدنيين وتقوية معنويات القوات الضاربة والجبهة الداخلية" .

لذلك رأي أنصار حروب الجيل الرابع أن "الحرب النفسية من أخطر أنواع الحروب، لأنها تستهدف في الإنسان عقله وتفكيره وقلبه لكي تحطم روحه المعنوية، وتقضي علي إرادة القتال والمواجهة لديه تقوده نحو الهزيمة، كما أن الحرب النفسية هي أخطر الحروب التي تواجه الحركات الثورية والإصلاحية في كل زمان ومكان، فهي تحاول أن تصيب الأفكار والتعاليم الناهضة، وتحول بينها وبين الوصول إلي العقول الرسوخ في القلب، وهي تعمل علي بذر بذور الفرقة والانقسام بين أبناء الشعب، أو المجتمع الواحد وتضع العقبات أمام مسيرة التقدم والتطور، وتعمل في الظلام وتطعن من الخلف" .

كما تلجأ الحرب النفسية إلي تشويش الأفكار، وخلق الأقاويل، والإشاعات المغرضة، ونشر الإرهاب، واتباع وسائل الترغيب والترهيب، مما يجعل هذه الحرب أشد خطورة من حرب المواجهة العسكرية في ميادين القتال، كما تفعل إسرائيل في الشارع الفلسطيني من حرب نفسية، تعتمد علي بث الشائعات التي يقف وراءها الطابور الخامس وخفافيش الظلام، بهدف خلق البلبلة في المجتمع الواحد، وشق الصف الوطني، ووضع العقبات أمام مسيرة البناء والتقدم الاجتماعي، مستخدمة كل ما تستطيع من أدوات "كعمليات غسيل للدماغ ودعايات وإشاعات وغيرها من أدوات الحرب النفسية" .

وتدخل الحرب النفسية ضمن ما يُطلق عليه " نظرية الحرب بلا قتال "، حيث لكل جيش في العالم مصدران للقوة معنوي ومادي، والمصدر المعنوي أهم بكثير من المصدر المادي لإحراز النصر بتوجيه ضربات نفسية قوية إلي معنويات العدو لأنها مصدر القوة لديه وأفضل سلاح لتوجيه الضربات النفسية للعدو هي " الحرب النفسية التي تستهدف عقل وتفكير قلب المقاتل بهدف تحطيم معنويته والقضاء علي رغبته وقدرته علي القتال لأن الشخصية هي ميدان الحرب النفسية لأن الحرب المادية ليست العامل الوحيد ولا الأول في كسب الحرب" .

وتوجه الحرب النفسية "لشل معنويات العدو، وتقليل عزيمته علي القتال، وإلقاء الرعب في قلبه، ودفعه إلي الاستسلام والحرب النفسية، حرب شاملة توجه إلي القوات المسلحة، وتمتد إلي الجبهة الداخلية، إلي الشعب كله عسكريين ومدنيين، وهي حرب متصلة ومستمرة في ومن الحرب والسلم علي السواء" .

ومن هذا المنطلق يمكن القول أن الحرب النفسية، وكما يراها خبراء علم النفس العسكري، هي استخدام مخطط من جانب دولة، أو مجموعة من الدول للدعاية وغيرها، من الإجراءات الإعلامية الموجهة إلى جماعات عدائية، أو محايدة، أو صديقة للتأثير على آرائها، وعواطفها، ومواقفها، وسلوكها، بطريقة تعين على تحقيق سياسة، وأهداف الدولة، أو الدول المستخدمة.

لذلك رأي منظرو حروب الجيل الرابع أنه يمكن استخدام الحرب النفسية من خلال بث الشائعات في المجتمعات المستهدفة، عن طريق رفع أو تدمير الروح المعنوية للمستهدفين، ويمكن توضيح ذلك من خلال ما حدث في ثورات الربيع العربي، فمثلاً في تونس يمكن تلخيص الدور الذي لعبته مواقع التواصل الاجتماعي في الانتفاضة الشعبية في تونس بالقول أن جزءاً من تاريخ " ثورة الشباب" في  تونس كتب على الحائط الافتراضي لموقع فيس بوك لأن "نظام زين العابدين بن علي يحكم بقبضة جميع الاتصالات الإلكترونية، ويضيق على الصحفيين والإعلاميين، ومنع المراسلين المحليين والأجانب من السفر إلى سيدي بوزيد لتغطية الأحداث، وكان الإعلام التونسي يصف الأحداث بأعمال إرهابية مخربة، وقد حاولت السلطات حجب المعلومات" ؛ فمع القمع والتضييق الإعلامي الذي كان يعيشه التونسيون، كان البديل شبكة الأنترنيت؛ وبالتحديد الفيس بوك الذي تمكن من خلاله الشعب التونسي الالتفاف على الرقابة، وعلى التعتيم الإعلامي، وسمحت للكثيرين بنقل كم هائل من المعلومات من صور وفيديو إلى العالم وإلى التونسيين عبر موقع فيس بوك وعبر الإنترنت، مما ساعد في إقناع التونسيين بأن الوقت قد حان للانتفاضة والتحرك للخروج إلى الشارع والانضمام إلى الشباب في ثورتهم، وما حدث في تونس حدث في مصر وفي جميع دول الربيع وفي هذا السياق يقول الأستاذ "الطيب بوتيفالت":" إن القنوات الفضائية لعبت دور مكبر صوت للحركات في الشارع العربي، وكانت أطلقت في الهواء وأحدثت ضجة كبيرة ووجدتها مادة استهلاكية مهمة، لذلك مالت حصة الأسد من المشاهدة" هذا على حسب رأيه. وفي حوار خاص أكد بوتيفارد:"  أن مبادرة تحريك الشارع انطلقت من شبكات ووسائل الاتصال الاجتماعي، بل إن صحيفة لوم وند الفرنسية قالت:" إن الثورات العربية بنت الإنترنت، مضيفاً بأن ذلك كان طبيعياً لأن وسائل الإعلام التقليدية تراجعت لصالح وسائط الاتصال الاجتماعي أو ما نسميه الاتصال الجديد" .

ومن ناحية أخري فإن خليط من العوامل والأسباب الإعلامية، والاقتصادية والاجتماعية، والسياسية، والأمنية التي تراكمت على مدار عقود من الزمن، جعلت الشعوب العربية أشبه ببرميل البارود الجاهز للانفجار في أي لحظة، لذلك بمجرد اشتعال شرارة البوعزيزي في مدينة سيدي بوزيد بتونس، حدث الانفجار الهائل في المنطقة العربية ككل، حيث يقول بعض الباحثين إن :"حادثة حرق محمد البوعزيزي لنفسه وإن لم تكن هي الدافع للثورات، إلا أن مبررات الثورات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، كانت موجودة في واقع هذه التمعنات كوجود الغاز المشبع في جو الغرفة، فكانت حادثة البوعزيزي بمثابة الشرارة التي انطلقت، فأوقدت النار في ذلك الغاز القابل للاشتعال أصلاً فاشتعلت الغرفة برمتها" .

ومن هنا نستنتج أن بث الشائعات من خلال وسائل الاتصال الاجتماعي من " تويتر، فيس بوك، يوتيوب" كان لها الدور الكبير في إسقاط الأنظمة. ....... وللحديث بقية!

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط.

 

في المثقف اليوم