أقلام حرة

وطن حرٌّ ..... وشعب سعيد

حيث كان أفخمها ذلك الذي يلفّه سياج من القصب المقشور.... بعد أن عقد أطراف دشداشته التي طرزتها ثقوب بعدد سنوات عمره وزينتها ألوان الرقع التي ما تشابهت منها اثنتان، صدح الصبي بأعلى صوته: سنمضي سنمضي إلى ما نريد .... وطن حر وشعب سعيد. لم يدرك ذلك الفتي ماهيّة تلك الكلمات  ولا سرّ استحضار مخليته لها في هذا التوقيت بالذات، ولكنه وجد لها صدى" عذبا في عقله الباطن قبل أذنيه. انشدها ثانية وثالثة ورابعة ورددتها خلفه جوقة من حفاة نصف عراة، شققت شفاهم سموم الحر اللاهب في ذلك اليوم التموزي الصاخب. تضاعفت الجوقة عددا" وازدادت الحناجر اتساعا" وترنح الجميع على صدى تلك الأنشودة ولم تدم سعادة الفرح الغامر سوى لحظات....حين حضر هادم اللذات ومفرق الجماعات (ناصر الشرطي)، برفقة سلاحه الفتاك،  تلك (الصوندة) البلاستيكية السوداء التي كان يتأبطها ليل نهار حتى نال بسببها لقب (تأبط شرا"). ما أن سمع ذلك الشرطي النصف مخبول تلك الأهزوجة، حتى أزبد وأرعد وهدد وتوعد وتنادى بالويل والثبور وختمها بسوء عواقب الأمور لهؤلاء الصبية وذويهم الذين لم يحسنوا تربيتهم  وهي العبارة التي تعود أن يذيل بها خطبه الشوهاء دائما. تراكض الصغار وتفرقوا شذر مذر وهم غير مدركين سبب تطاير الشرر من عيني متأبط الشر ذلك ولا سبب غضبته التي أوصلت الأمور إلى هجومه الكاسح على ذلك الصبي الذي ابتدأ تلك السيمفونية. حاول قائد تلك الاوركسترا أن يتملص من قبضة ذلك الوحش الكاسر ولكن احد ثقوب دشداشته خذله حين علق في مسمار ناتئ من جسد تلك الدكّة الخشبية وكاد بطلنا الصغير أن يقع فريسة سهلة لمخالب ذلك الوحش. استدركت بعفوية طفولية الموقف، فمددت قدمي أمام إقدام ذلك الشرطي وما أن  تلامست أقدامنا حتى تعثر وخر منكبّا" على وجهه بعد إن أخذني في طريقه وتدحرجنا معا  وتصاعد غبار التراب حتى غطى كل ملامحنا، وما انجلت الغبرة الاّ وذلك الوحش قد أطبق بكلتا يديه على زمارة رقبتي وكادت أصابعه تطحن عظامها لولا تدخل جارنا (نجم النجار) الذي سارع و تدارك الأمر قبل أن يستفحل، وأطفأ غضب ناصر الشرطي (بثلاثة دراهم)  كانت فدية لفك رقبتي.

منذ ذلك الحين كبر (نجم) في عيني وكبرت فينا الأيام حتى صارت أعواما سبعا، واخذ (نجم ) يزودني ببعض الكراريس التي كانت تحمل عبق الحرية والعدالة والحلم بوطن حر وبشعب يمتلك زمام إرادته. داعبت مخيلتي تلك الكلمات وأعجبتني بعض الأفكار التي حملتها حتى ضمنتها رسائل عشقي لتلك الحبيبة التي حطّت رحالها في قريتنا قادمة من مدينة أخرى وافترشت سويداء قلبي من النظرة الأولى.  شاطرتني هي الأخرى إعجابها بما تحمل تلك الكراريس من عشق من نوع آخر، بل وفاق ولعها ببعض المفاهيم إلى الحد الذي طبعت فيه تلك الكلمات إلى جانب صورة وجهينا التي انطبعت على جذع شجرة البرهام العملاقة التي كنا نستظل بها من حر صيفنا اللاهب ومن نظرات أبيها التي لا ترحم. تسارعت أيامنا وكبرت زينب وكبر الحب  وكبرت في الدنيا الأشياء ، الاّ صورة وجهينا المرسومة في جذع الشجرة وإلاّ تلك الكلمات التي أصبحت أثرا" بعد عين حين تصاعدت وتيرة القمع لأمانينا على يد هكسوس البعث  الذين حطموا حلمنا اللذيذ بوطن حر واغتالوا السعادة من مرابض أيامنا. كبرت زينب وكبر الإدراك وكبر جذع شجرة البرهام وبان عيها اثر السنون بعد أن أرغمت على حمل لافتات البعث الصفراء وهي تلصق عنوة على جذعها، وناءت أغصانها منكسرة بما علق عليها من أدران  فاشية حمقاء. ذوت فرحة أيامنا وخمدت حرارة الشوق لعناق عرّابة حبنا الحنون التي شوه جسدها الحاني  ذلك الصديد الذي غطّاه. راعنا ما كنا نراه من تأوه وذبول لمظلة حبنا الكبير الذي نما وترعرع تحت ظلال أغصانها الشماء. وفي رابعة نهار شباطي رمادي كالح أثقلت فيه كلاب البعث المسعورة من نهشها في جسد شجرتنا الغالية ، انتابنا الغضب ودبت فينا روح الغيرة والحمية ، أشعلت زينب  شرارة الانتقام من تلك اللافتات الصفراء ومن الشعارات الكاذبة التي كانت تحملها تلك اللافتات البغيضة،  حين ملئت جردلا" من بقايا زيت اسود لفظه محرك سيارة والدها .... غمسنا أيادينا في ذلك الزيت وطبعنا اكفّنا على وجوه تلك اللافتات الصفراء الممتقعة... أخذتنا نشوة الثار، فرحنا نوشح تلك اللافتات بمئات من الأكف السوداء .... سرقنا الزمن وبدأت الشمس انزوائها من قمة سمتها وكادت تباشير المساء أن تفضحنا حين مرت دورية لشرطة امن السلطة التي جن جنون أفرادها لهول ما وقعت عليه أعينها... تسابقت  تلك الكلاب الزمهرية  صوب شجرتنا التي إحالتها أفكارهم المريضة إلى ساحة وغى فتنادوا إلى الفتك بمن كان في ذلك الفعل سببا وكنا قاب قوسين أو ادني من أنياب تلك الكلاب المسعورة لولا تصادف مرور جارنا ( نجم) الذي أدرك على الفور بأننا واقعان لا محال بين براثن أولئك الأوغاد،  فما كان منه إلاّ أن شاغلهم ببديهة مذهلة حين غمس يديه ولوث ملابسه  ببقايا ذلك الزيت ليحول أبصار السفلة إليه وليوهمهم بأنه الفاعل الحقيقي من اجل أن يفك رقابنا ثانية، ولكن بثلاث من سنوات عمره هذه المرة قضاها بين جدران زنزانات البعث وسراديبه.  بعد السنوات الثلاث تلك، دارت طواحين الظلم والجور على أشدّها واستشهد ( نجم) سابحا" بدم أوداجه، وغرّبت بي المنافي و شرّقت بزينب حماقات أبيها وعنجهيته الفارغة.

لازالت تلك الدربونة (المترية) ترزح تحت وطأة الإهمال والنسيان، ولازلت اردد أغاني زينب وأناديها وأنا معلق في الطابق العاشر من إحدى علب الاسمنت الشاخصة في مدينة  خلت ولو من رائحة للبرهام، ولازالت شجرة البرهام  تلك شامخة تحكي على رؤوس الإشهاد قصة مجدها  ومجد فديّها الشهيد (نجم النجار)، بعد أن اندرس البعث وعاهاته إلى ابد الآبدين، وما زال أحفاد الشهيد نجم يحلمون بوطن حر..... وشعب سعيد.

كلمة لابد منها: لم أكن شيوعيا" وكانت زينب الابنة البكر التي كان يكنى بها أبيها، العضو في حزب البعث الفاشي و كانت تمقته حد الإعياء، لكنها تتوقف عن كرهه فقط امتثالا" لأمر البارئ جل وعلا ( وبالوالدين إحسانا).

 

صقر الحيدري

[email protected]

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1284 الاثنين 11/01/2010)

 

 

في المثقف اليوم