أقلام حرة

لماذا يتقدمون ونتأخر

من التظافر بحيث يبدو تضامنيا تكافليا من جانب اهتمامه بالمفردات الحياتية التي تتعلق بأدق شعيرات العلوم. والعمل الإبداعي العلمي القائم على منهجية نخبوية يحتاج أكثر ما يحتاج لهذا التضامن والتظافر المحمود ليصبح أكثر كمالا وأيسر قبولا واعم فائدة، لأن للطاقة البشرية حدودا تقف عندها ولا تتمكن من تجاوزها إلا بمساعدة وجهد الآخرين. وقد أدركت الأمم المتقدمة  في الأقل خلال السنوات الأربعين الماضية أهمية هذه  المظافرة فاتخذها العلماء والمبدعون منهجا عملياتيا لانجاز مشاريعهم بما فيها المشاريع العظيمة التي يبدو واقعا  أنها ما كانت لتحوز هذا التألق لولا تمكنهم من التعامل معها بمهنية عالية وما كانت لتصبح بهذه الروعة والدقة لولا الحشد الكبير لجهد كبير تظافر للوصول بها إلى القمة، طبعا ليس شرطا أن تكون القمة التي يعم خيرها كل البشر ولكنها بالتأكيد القمة التي تخدم وتنفع القائمين على هكذا مشاريع.والجهد حتى عندما يتم تسجيله باسم شخص ما دون بقية المشاركين من الاختصاصيين والباحثين والعلماء الآخرين فإن فائدته تعم مجتمعهم كله وتخدم مشاريعهم الكبرى فيتحول الانجاز من مرحلة الشخصانية إلى مرحلة الوطنية وهو المطلوب من الأعمال البنائية بالتأكيد.

وليس غريبا القول أننا سبقا غيرنا بهذا الإنجاز الرائع  يوم كانت نوايانا صافية وقلوبنا مفعمة بالخير ويوم  كانت "نحن" اكبر من "أنا" فينا،لكن من الغرابة  أننا تخلينا عنه كليا وتركنا العمل به لغيرنا من الأمم عندما تضخمت الـ "أنا" فينا فقتلت كل فرصة للتعاون المثمر. ومن الأمثلة الرائعة على هذا التعاون إنجاز كتاب سفينة البحار للمجلسي رحمه الله، فهذا السفر الرائع الذي يبلغ عدد أجزائه بحدود مائة جزء ينسب للشيخ المجلسي وحده ولكنه في الواقع جهد مشترك  لعشرات العلماء الآخرين من أصدقاء وطلبة العلوم الدينية الذين كانوا يدرسون لدى المجلسي اشتركوا سوية لجمع مادته من بطون الكتب وقدموها للمجلسي لإنجازه بهذا الشكل الرائع وليأخذ فيما بعد اسمه دون سواه. وحينما أخذ الآخرون هذا النمط القائم على حشد الجهد الجمعي لخدمة المجموع  أبدعوا أفكارا عظيمة نسبت لواحد منهم  غالبا ولكنها واقعا كانت جهدا مشتركا لمجموعة كبيرة من المتخصصين في العلوم الساندة، ولولا جهودهم وعلومهم ما كان لشخص واحد أن ينجح بإنضاج هكذا موضوع، وما كان للموضوع أن يحصل على هذا القدر الكبير من الاهتمام، خذ مثلا صموئيل هنتنغتن وكتابه الموسوم (من نحن؟ التحديات التي تواجه الهوية الأمريكية) هذا الكتاب التحليلي الذي ترجم إلى عشرات اللغات الحية ومنها العربية وبيعت منه ملايين النسخ حيث تجد الدور الرائع للتظافر في ولادته، وهو ما أشار إيه المؤلف بقوله: (قدمت تامي فريسبي وماريوس هنتا وجون ستيفنسون مساعدة قيمة في المراحل الأولى بتوفير المواد وتنظيم البيانات  وكتابة الملاحظات وتلخيص أبحاثهم وتقديم ملاحظات مفيدة عما كنت أحاول فعله، وفي هذه المرحلة نفسها نضدت كارول رادواردز وجينا فلاهيف مسودات الفصول الأولى من المخطوطة) ثم انتقل للحديث عن المرحلة الثانية فقال: ( في الوقت الذي كنت فيه محظوظا للغاية بفريق المساعدين الرائع بث بايتر، تد فاين، جيمس بري، فدون مساعدة فريق هذا الكتاب ما كانت هذه المخطوطة قد أنجزت... كانت مساعدة جيمس بري أساسية في جمع وتحليل البيانات الكمية وتطبيق كفاءته الرائعة في الكومبيوتر معتمدا على خلفيته في القانون والأهم تقديم مشورته  الحكيمة حول كيفية عرض حججي أما تد فاين فلاحق وكشف ونبش كهوف شبكة مكتبة هارفرد المتعددة عددا ضخما من الكتب والوثائق ومجموعات البيانات) وبعدها انتقل للحديث عن المرحلة الثالثة قائلا: (قرأ لورنس هاريسون وبيتر سكري وتوني سميث مسودة المخطوطة وقدموا ملاحظات قيمة للغاية) ولم ينس الإشارة إلى ما قدمته السكرتيرة بث باندر من مساعدة تتمثل في تثبيت المواعيد وتقديم القهوة والمعجنات.

وخذ مثلا البروفسور محمد أبو نمر وكتابه الموسوم (اللاعنف وصناعة السلام في الإسلام) الذي كتبه باللغة الانكليزية لصالح معهد السلام الأمريكي والذي ترجم إلى اللغة العربية لتجد نفس الدور التظافري الرائع يتكرر ثانية فيما أشار إليه الكاتب عرفانا بالجميل حيث قدم شكره لمساعديه في البحث (آمال خوري، ولين كينكل، وباتريك نكوغا، ولآخرين غيرهم راجعوا الكتاب وساعدوه  في جمع البيانات، ومنهم عامر عبد الله الذي راجع الكتاب ، ولو كريسبيرك ومايكل ناغلر واسماعيل محي الدين ومبارك عوض وعبد العزيز سعيد وديفيد سموك لمقترحاتهم، وجو غروفر من كلية غليفورد. ولم يقف الدعم والتظافر عند هذه النقطة وإنما

تعداه لتقديم الدعم والمعونة المادية والمعنوية مثل مؤسسة عمادة كلية غيلفورد للمنح الجامعية وكلية الخدمة الدولية وحل النزاع والسلام الدولي في الجامعة الأمريكية والمعهد الأمريكي للسلام  ومعهد جون بي كروك (مؤسسة روكفلير للدين والسلام لتقديم المنح الجامعية) في جامعة نوتردام)

وخذ مثلا الدكتور هوستن سميث وكتابه الرائع (أديان العالم) الذي بيع منه في أمريكا وحدها أكثر من مليون ونصف المليون نسخة وترجم إلى أغلب اللغات الحية فهو بعد أن رأى الحاجة الماسة لتأليف كتاب عن أديان العالم رأى أيضا أن الجهد الفردي لا يمكن أن ينجز عملا بهذه الأهمية فحصل فعلا على المساعدة من مجموعة عقول بناءة وهي المساعدة التي قال عنها: (لم يعلمني سوامي ساتبراكانندا الزعيم الروحي لجمعية الفيدانتا في  سانت لويس كل ما أعلمه عن الهندوسية فحسب، بل  عمل باذلا غاية جهده في تحرير الفصل الأول الذي يحمل ذلك العنوان، كما ساعدت كتابات آرثر ويلي على بناء تلك العاطفة التي نشأت لدي تجاه الصين... في حين صحح الدكتور هنري بلاتوف عددا من الأخطاء الناشئة من عدم الدقة في أول مسودة للفصل الذي كتبته حول بوذية الزن ... أما البروفسور جوزيف كيتاغاوا من جامعة شيكاغو فقد نقح فصلي الكونفوشيوسية والإسلام كما أضفت لفصل الإسلام اقتراحات البروفسور فؤاد لأهواني من جامعة القاهرة وكان للحاخامين روبرت جاكوب وبرنارد ليبنيك والأب الدكتور ألين ميلر من جامعة سانت لويس انتقادات مفيدة للغاية للفصول المتعلقة باليهودية والمسيحية، أما لويس هان فقد نقح مخطوطة الكتاب) وكما فعل هنتنغتن في مدحه لعمل السكرتيرة كان هوستين سميث قبله قد وجه الشكر لسكرتيرته السيدة لورنا جارماني كسكرتيرة وكاتبة طابعة.

  وكذلك كما فعل أبو نمر في مدحه للجهات المانحة كان هيوستن من قبله قد امتدح مؤسسة دانفورث التي أمنت له ولفريق العمل رحلة مدفوعة الثمن حول العالم لمدة سبعة أشهر لأجل تأييد واثبات محتويات مخطوطة الكتاب.

كما أنه قال جملة من الممكن لو قيلت في مجتمعنا العلمي لقلبت الموازين، ادعى فيها أنه استلهم أفكار شخص آخر لتنضيج فكرة كتابه ونصها: (عندما قرأت المخطوطة المكتملة فوجئت كيف جاءتني كثير من أفكاره لأول مرة أثناء المحاضرات التي ألقاها جيرالد هارد خلال الفصلين الدراسيين لدورتي عن مقارنة الأديان) وجملة أخرى قال فيها: (لكن يجب الاعتراف بأنه إذا تمكن الكتاب من مخاطبة عقل القاريء مباشرة فإن هذا يدين بجزء كبير منه لأفكار مايو سيمون التي تظهر في كل فصل بل تقريبا في كل صفحة)

وهنا أريد القول أنه إذا كان النموذجان الأول والثاني حديثين ومعاصرين فإن هوستين سميث بدأ العمل بمشروعه في أواخر خمسينات القرن الماضي وأصدر طبعته الأولى تحت عنوان(أديان الإنسان) عام 1958 لأثبت من خلالها أنهم استساغوا هذا النهج التظافري قبل انتشار الحاسوب ودخوله الحياة العامة ولم يتخلوا عنه بعد أن دخل الحاسوب كل بيت، أي أن التظافر في عقيدتهم العلمية أحد أبدع وسائل الوصول للكمال المنشود.

والنماذج كثيرة لا تحصى لكن ليس فيها أنموذجا عربيا واحدا، فمتى نتمكن من إرجاع بضاعتنا لأنفسنا ونقول بفرح: هذه بضاعتنا ردت إلينا ومتى نعمل بنهج التظافر في الأقل تقليدا للغربيين؟ أم أن الـ "أنا" فينا ستبقى السيدة الآمرة إلى الأبد ونبقى عبيدا لها؟ 

 

  صالح الطائي

[email protected]

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1290 الاثنين 18/01/2010)

 

 

في المثقف اليوم