أقلام حرة

العراق منار الشرق

ولذا أتخذها البشر موطنا والحضارات موئلا منذ أن هبط آدم على شواطئها، ورست سفينة نوح فوق جوديها، وخطت أقدام إبراهيم على أديمها، وولد عيسى كما تقول بعض الروايات في أفياء نخيلها وأكلت مريم العذراء من رطبها.

وليس مثل العراق بلاد عمرتها الحضارات من جنوبها إلى وسطها صعودا إلى شمالها، يوم كان الظلام يسود ما سواها والجهل يرتع في جوارها.

وليس مثل العراق حاظنة للإسلام منذ أن فتحت أمصاره وعمرت حواظره، حتى أصبح في زمن الإمام علي (عليه السلام) عاصمة الدنيا.

على أرض العراق شع نور الإسلام، ومنه انطلق نحو الجهات الأربع، وفيه ولدت أغلب المذاهب الإسلامية، والفرق الكلامية، وقامت حضارة الإمبراطورية العباسية الزاهية.

ولذا تفرد العراق عن باقي البلدان في كل شؤونه، حتى أنه عاش ثنائية لم تعرفها البلدان الأخرى إذ أنه خضع للحكومات الاستعمارية منذ العصر العباسي الثاني إلى سنة 1958 ميلادية، وهي مدة كان المفروض بطولها أن يشوه كل الموروثات، والقيم، والمتعارفات، والسنن، والعادات ولكن العراقيين بما معروف عنهم من تفرد وندرة وروح صمود ومقاومة، نجحوا رغم ذلك بالحفاظ على موروثهم، ولم يفرطوا به أبدا.

وليس العراقيون وحدهم  يشيدون ببلدهم فقد شاد بقيمه الحكماء والفضلاء، وأمتدحه الطيبون والعقلاء، وتمس له الشرفاء والنبلاء، ويروي المسعودي في الجزء الثاني من مروج الذهب في هذا الباب أن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) حين فتح الله البلاد على المسلمين من العراق والشام، ومصر، وغير ذلك من الأرض، كتب إلى حكيم من حكماء العصر : إنا أناس عرب، وقد فتح الله علينا البلاد، ونريد أن نتبوأ الأرض، ونسكن الأمصار فصف لي المدن، وأهوائها، ومساكنها، وما تؤثره التربة، والأهوية في سكانها؟

فكتب إليه الحكيم عن أقسام الأرض، ثم عن مصر والشام والمغرب العربي، وبعدها عن العراق فقال في وصفه: وإما العراق فمنار الشرق، وسرة الأرض، وقلبها، إليه تحادرت المياه، وبه اتصلت النضارة، وعنده وقف الاعتدال، فضعفت أمزجة أهله، ولطفت أذهانهم، واحتدت خواطرهم، واتصلت مسراتهم، فظهر منهم الدهاء، وقويت عقولهم، وثبتت بصائرهم .

 وقلب الأرض العراق وهو المجتبى من قديم الزمان، وهو مفتاح الشرق، ومسلك النور، ومسرح العينين، ومدنه المدن وما والاها، ولأهله اعدل الألوان، وأنقى الروائح، وأفضل الأمزجة، وأطوع القرائح ، وفيهم جوامع الفضل، وفؤاد المبرات، وفضائله كثيرة، لصفاء جوهره، وطيب نسيمه، واعتدال تربته، وإغداق الماء عليه، ورفاهية العيش به!!

وربما لهذا السبب لم ييأس العراقيون يوما، ولم يقنطوا، وكانوا على مر العصور مفعمين بأمل مشرق بيوم مجيد، مهما ادلهمت الخطوب.

 وربما لهذا السبب أيضا ترانا رغم ما يمر بنا اليوم من محن، وإحن، وتفجيرات، وفتن، ننظر بأمل واعد للغد السعيد، ونحلم بيوم مفعم بالحب جديد، ونثق عن يقين أن شمس الرفاه لابد وأن تشرق على العراق من جديد وتجعله البلد السعيد، فتعود له أمجاده الغابرة وحضاراته العامرة وأيامه الزاهرة. وإن غدا لناظره قريب

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1290 الاثنين 18/01/2010)

 

 

في المثقف اليوم