أقلام حرة

العرب وغياب التخطيط العلمي .. دبي أنموذجا

ومصيبة ولا أثقل، ونكاية ولا أصعب، وشماتة ولا أمر... مرة أخرى يشمت بنا الأصدقاء قبل الأعداء، والحساد قبل الغابطين، والأهل والأقربون، ومن يأكل معنا في نفس الماعون ... مرة أخرى تعلن الأحداث أننا نسير في الطريق الخطأ، ونضع أهم مخططاتنا على صفيح رمال صحرائنا المتحركة، ونرسم أخطر مناهجنا بماء بحارنا ... مرة أخرى نجد أننا مقصرون، ونحتاج إلى مراجعة مواقفنا، وسياساتنا، ومناهجنا، ومطالبنا، وآمالنا، وأحلامنا ... مرة أخرى نحاول  القفز على نتائج التحليلات، وتجاوز خطوط التحذير الحمراء، ونوغل في الغلواء ... مرة أخرى يتجاهل العرب كل المعطيات، ويتركون كل الحسابات، ويغفلون عن كل المؤشرات،  ويظنون أن كل لماع ذهب، وكل سائل ماء، ولذا تراهم يلقون بأنفسهم في أحواض التيزاب ليتخلصوا من حر القيض، ويمارسون رياضة السباحة لتلطيف أجسامهم على صفحات الرمال الساخنة ... مرة أخرى أثبتت التجارب أن ثقافة النفط فرضت نفسها علينا فرضا وعلمتنا التدفق للأعلى دون حماية أو سند، ودون تفكير بطريقة النزول، ولا حتى التفكير ببناء سلم للطواريء ، حيث أصبحنا بعد أن ظهر النفط في بلادنا، وعبقت رائحته في أنوفنا، ولمعت دولاراته في عقولنا، وتكدست ثرواته في  حساباتنا المصرفية وخزائننا نتحدث فقط عن الأغلى، والأعلى، والأكبر، والأوسع، والأرفه، والأجدد، والأندر، والأغرب، والأرفع، ونسينا كل المصطلحات الوسطية الأخرى ... ومرة أخرى تبين أننا كما كنا عبر التاريخ لا نصحوا إلا على صوت هزيمة مرة، أو تداعيات أزمة خانقة لا نعرف طريقا لحلها، ولذلك يفاجئنا هولها، وتشلنا مفاجئتها، وتسحقنا ويلاتها، وتنهكنا تراكماتها.

 وألا بربك كيف يعقل أن نعيش في القرن الحادي والعشرين ونحن لا نجيد التخطيط لأبعد من حدود أنوفنا ولمديات بصرنا فتفوتنا أبسط الملاحظات التي تحجبها أبسط الحواجز، مثل ملاحظة أن إنفاقنا، وإسرافنا، وخططنا المستقبلية ومشاريعنا التي تم التخطيط لها توافقا مع سعر 150 (دولار/ برميل) لا تتواءم مطلقا مع منطق العقل، وتقلبات السوق؟ وأنها  بدل أن توعد بغد مشرق معطاء سعيد، باتت تشكل مصدر قلق كبير لعقلائنا بسبب بنائها على توقعات دوام هذا السعر اللاعقلاني وما يسببه من إزعاج للدول المستهلكة، هذا السعر الذي بدأ يعود إلى توازنه منذ النصف الثاني من عام 2008 من خلال الهبوط السريع والتراجع الكبير، فالبرميل الذي كان ثمنه 150 دولاراً في تموز 2008، أصبح بأربعين دولاراً  في بداية 2009 ومع السعر الجديد هبطت معنوياتنا، وتبددت أحلامنا، وأنكشف ظهورنا، وبتنا أمام مجموعة مؤشرات تدل كلها على وجود أزمة حقيقية تلوح في الأفق وتحتاج إلى حراك سريع وحقيقي وجدي، وأن لا نقف قبالتها مكبلين بعقول عفا عليها  الزمان، ولم تعد تصلح للتعامل مع عصر التكنولوجيا وثورة المعلومات؟ ولاسيما وأنها لم تكن مؤشرات غامضة أو حراكات مستترة مبطنة مموهة، فالذين أوكلنا لهم تنفيذ مشاريعنا، ورسم خرائط مستقبلنا، وزودناهم بكل وسائل الراحة والرفاهية، ودفعنا لهم مرتبات خيالية، ما إن شموا رائحة الأزمة ورصدوا نهوضها من تحت ركام التخبط حتى بدأوا بتصفية مخلفاتهم، ثم بدأت مئات السيارات الفارهة التي اشتراها أصحاب ومدراء وموظفي الشركات بالتقسيط المريح تتجمع عند بوابة المطار بعد أن هجروها  ولم يدفعوا بقية أقساطها، وعادوا إلى بلدانهم خفافا، بعيدا عن الأزمة ومؤثراتها.

رغم كل هذا  لم نتحرك وحينما أصبحنا بين فكي كماشة استحقاق أقساط الديون التي كبلنا بها أنفسنا، لم نعترف لا بهذه الحقيقة ولا بمقدار ديوننا، وما اعترفنا به لا يمثل سوى قمة جبل الجليد. أما ما حصلنا عليه من الأهل والأقرباء والأصدقاء والحلفاء من دعم  فبعض من شظايا هذه القمة، ربما لأننا في زمن رفاهنا أوجعنا قلوب أخوتنا ولم نلتفت لهم في أيام الضيق والعوز والحاجة التي مرت بهم، بل ولم نقدمهم على غيرهم حول مائدتنا، ولم نيسر لهم أسباب الإقامة المريحة بين ظهرانينا كغيرهم من الغرباء الذين لا تربطنا بهم وشيجة ولا عشيرة.

لقد كانت دبي  لؤلؤة الخليج العربي، وعروسه الغناء، وفتاته المدللة التي ترفل بالعز، كانت تتسابق مع الزمن لبناء تجربة فريدة فيها الكثير من الطموح المستقبلي، لتأمين مصادر تمويل جديدة بديلة عن الموارد النفطية التي من المؤمل نضوبها في القريب العاجل، ولاسيما وأن احتياطي نفطها لا يزيد عن خمس احتياطي نفط "أبو ظبي" الذي لا يمثل بدوره سوى جزء يسيرا من احتياطي النفط السعودي أو العراقي، في وقت لم نجد مثل هذا التوجه الجدي المستقبلي عند هاتين الدولتين العربيتين الكبيرتين.

 كانت دبي تحلم بإنشاء قاعدة سياحية فريدة تدر عليها موارد طائلة لا تقل عن موارد البترول الآيل للنفاد، وكانت تريد لهذه القاعدة أن تكون متميزة بأرقامها القياسية في العالم كله فبنت الميناء الأكبر،والبرج العملاق ، والبناء الأعلى، والفندق الأفخم ، والمركز التجاري الأضخم، وبدأت بمشروع بناء الفندق الأكبر، ومدينة الملاهي الأكبر، ليس قياسا بالموجود في المنطقة، أو العالم العربي، بل قياسا بما موجود في العالم كله، ثم بنت أول فندق تحت الماء بمواصفات ساحرة، وبيوتا على جزر عائمة، و مدنا خيالية، وجزرا ساحرة، وأبراجا مدهشة، وساحات تزلج على الجليد وسط الصحراء، وأبدع نافورات الماء ولا أروع، وبيوتا ولا أرفه، لا يوجد مثلها حتى في الأحلام. فتحولت خلال ثلاثين عاما من إمارة صحراوية جرداء جدباء، إلى غابة غناء، وحديقة فيحاء، وفردوس وجنة، بزت خلفها دول الشرق والغرب، وتقدمت في حقل العمران على أكثر الدول تقدما في العالم.

 ولكن العجلة، وغياب التخطيط العلمي المدروس ، والهوس اللامنضبط، وطبعنا العربي الغريب الذي كنا  ولا نزال نحمله إرثا، وهو أن يتخلى غنينا ومترفنا عن فقيرنا ومحتاجنا، ويتخلى قومنا عن أخينا في أزمته، ويبتعدون عنه في محنته، ويتركونه يصارع مشكلته لوحده، وأشياء كثيرة أخرى يطول ذكرها والحديث عنها، جعلت مشكلتها تنمو بشكل عملاقي يتساوق مع مشاريعها العملاقة، فحولتها إلى عروس عربية أسيرة في قفص، يسوقها نخاسها ليبيعها لمن يدفع أكثر.

إن دبي إن كانت قد قصرت تجاه أخوتها العرب بالأمس، فإنها تحتاج اليوم إلى عطف ومساعدة هؤلاء الأخوة، وهي حتما استفادت من الدرس البليغ، وستعيد النظر في سياساتها السابقة، لكن هل سيسمح لها موقفنا البارد  معها من إعادة النظر بعلاقتها معنا إذا ما صحت وعادت لها عافيتها؟ وقبل هذا، هل من الممكن أن تتعافى وتعاود نشاطها الأول بما يمنحها قدرة اتخاذ القرارات الحدية الصعبة؟ أم أن لابدية الرضوخ ستجبرها على بيع قممها ونوادرها في المزاد العلني لتعود واحدة من الدول والكيانات العربية  التي تتخبط في التخلف؟

وما حدث في دبي إن لم يكن مشكلة كبيرة جدا كادت أن تقوض كل ما تم بناؤه من قبل، فإنها جرس إنذار  كبير رن ليبين حقيقة أمرنا الهش وكياننا القائم على كذبة كبيرة و خدعة أكبر، والذي تحول بسبب سياسة الحكام، واعتباطية المحكومين ولاأباليتهم إلى مجرد مؤسسة لا تملك أسس البقاء وعوامل الصمود

وما نبغيه من كتابة هذه المواضيع  يأتي في دائرة الطرق على جداران الغفلة العربية التي طال أمدها، عل أمتنا تصحو وتنتبه لحقيقة أمرها، والخطر المحدق بها من كل الجهات.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1292 الاربعاء 20/01/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم