أقلام حرة

سـتون ... يا مرحبا

تلك التي رسمها الأمس المزهر، ولترسو في ميناء الوجه الكالح وتترك ظلا وتحجرا ينبيك بالحقيقة التي يرفض أن يخبرك بها المحيطون  مجاملة وربما نفاقا وتزلفا.

 جاءت الستون لتقول أنك في هذا العمر بركة ماء جف ماؤها وهجرتها طيورها ولم يبق في قاعها سوى عويدات من قصب يابس تشبثت بالأديم بقوة كل العنف الرجولي الباقي في روح مهاجرة، أو مشرفة على التحرك نحو الرحيل اللابدي، لا لكي تبقى خضراء فقد يبست مقومات الحياة فيها، وإنما مجرد أن لتبقى واقفة كما كانت من قبل، لأنها تخجل أن تبدو ضعيفة منكسرة أمام الأنظار، وترفض أيضا الاعتراف بالهزيمة، مجرد كبرياء زائفة، تاجرنا بها من قبل وربحت تجارتنا، أما الآن وقد حان الرحيل وانقضى العمر الطويل، فلم يعد لها من وجود وحقيقة، ولم تعد هناك قوة تدفعها لتكون..

أما ما يخطه اليراع وتجود به القريحة، فهو بقايا عصارة النسغ الصاعد في عود البردي الوحيد الذي استوطن البركة عقودا خمسا وأكثر، والذي صافح كل مواليد شمسها وشهد كل صباحاتها ومساءاتها بانتظار أن يشهد الغروب الأخير حيث لا شروق آخر ..

وأما ما تركه الماء بعد جفافه من البركة فمجرد شقوق وانثناءات وتجاعيد وانثيالات وتموجات وتكسرات تخبر الناظر بأنها كانت تعيش هاهنا وتستوطن..

ومع ذلك تراني لست حزينا ولا قانتا أو يائسا لأني أعرف أن ذرات مياهي حملتها الريح وأهدتها لغيوم السماء التي أمطرتها سيولا كونت ثلاث برك يانعة ماؤها صاف رقراق وزروعها نضرة خضراء وطيورها صادحة غناء...

وهي الحقيقة التي أسعدتني وأدركت من خلالها أن خوض غمار بحر الغرب بلا عودة لن يكون موتا وسفرا إلى العدم، فمن ثنايا موتي ولدت حياة تلك البرك لتكتب لإسمي الامتداد والتجذر، وهذه هي سنة الأضداد في الحياة، كتاب منشور، وبتوقيع السنين مسطور، فيه شعر منثور يحكي قصة الستين التي تربعت على أنقاض ما انقضى  من السنين، وبقيت آثارها ترنيمة طائر حزين هزمته العواصف وتراب الميادين فذوى كما هي الشمس عند الغروب، وإذا ما كانت الشمس ستولد في غد من جديد فإن غروب الجسد يعود ليشرق مرة أخرى ولكن ليس في هذه العوالم وإنما هناك عند ما لم يره أحد أو يعرف كنهه،وبين غروبها وشروقها الجديد سفر شاق طويل زاده ما قدمه المرء خلال الستين وما أنتجه خلال تلك السنين وقليل من الثقة، وكثير من الإيمان واليقين

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1294 الجمعة 22/01/2010)

 

 

في المثقف اليوم