بأقلامهم (حول منجزه)

في حوار جريء عن الإصلاح الديني.. الاستاذ ماجد الغرباوي (1-2):

- لا تجديد في الفقه بمعزل عن تجديد مقولات العقيدة

في هذا الحوار؛ لربما يقع بعضهم مصدوماً وهو يقرأ آراء الباحث العراقي الاستاذ ماجد الغرباوي، 

إلا أن الأخير اُشتهر باجتهاداته الجريئة حتى وهو يمضي ما يقارب الربع قرن في الدراسات الاسلامية ويشرف على دوريات شبه رسمية، وقد صدرت له مجموعة مؤلفات وترجمات وتحقيقات، وفي كلّ ذلك يعبّر عن هاجسه الكبير في إصلاح النظام التقليدي للتعليم الديني. في حواره مع ‘’الوقت’’ يقول الغرباوي إن ‘’آفاق التجديد واسعة، وإمكاناته متاحة، لكن الأهم من كلّ ذلك هو المنهج في التجديد’’، فهذه هي نقطة الانطلاق كما يقول، لأن ‘’كلّ مشاريع التجديد للأسف ما زالت تحوم حول البناء الفوقي، وتتعامل مع الأسس كمسلمات وخطوط حمراء’’، ولهذا السبب لم تولد علوم دينية جديدة، لأننا ‘’لا نقارب الأسس المعرفية لها، وننشغل بالبناء الفوقي القائم ربما على أسس وهمية’’، وهذا ما جعل خطوات التجديد في نظر الغرباوي، ورغم أهميتها، ‘’غير كافية ولم تسد حاجاتنا الضرورية’’. وفيما يلي نص الجزء الأول من الحوار معه:

* هل لازال التجديد في السياق الإسلامي يأخذ مدى واسعاً؟ ما هي الآفاق الممكنة لحركة التجديد الإسلامي المعاصر؟

ـ أعتقد أن جميع الآفاق ما زالت مفتوحة أمام التجديد الإسلامي، وثمة مهام كبيرة تنتظر المفكرين والعلماء، وهو أمر متاح وليس مستحيلا أو متعذرا عندما يتوفر الباحث على منهج صحيح، وأدوات علمية ناجحة، لأن التجديد عملية منضبطة، وتحتاج إلى عدة معرفية كافية. التجديد لا يقتصر على حقل دون آخر، لأنه قراءة وفهم في ضوء العصر وحاجاته ومتطلباته، وهو عملية هدم وبناء، لا تقف عند حدود العمارة الفوقية، وإنما تغور في عمق الأسس والمقولات، لمعرفة حقيقة المسلمات والثوابت، التي هي محدّدات العقل الإسلامي وأسس بنائه الفوقي. هذا ما أفهمه عن وظيفة التجديد.

أنا لا أتفق مع المرابطين في دائرة البناء الفوقي، ممنْ تعتريهم هواجس غير طبيعية عند مقاربة الأسس والبنى التحتية. ودليلي هو جمود الواقع وعدم حصول النقلة المتوخاة من عملية التجديد، مما يعني أننا نختلف في تحديد دلالة المفهوم، ومصاديق الموضوع. كان التجديد يتحاشى التحرش بالأسس والبنى التحتية مخافة انهيار العمارة الفكرية والعقدية، لكن من خلال الاستكشافات المعرفية والمناهج العلمية الحديثة تبيّن أن مصداقية التجديد تتوقف على تجديد الأسس أولا وقبل كل شيء. فكثير من المسلمات في شتى العلوم الإسلامية بات من الضروري إعادة النظر في حقيقتها، ومدى صدقيتها، وإلا سيبقى الاشتغال المعرفي قائما وفق تزويرات علمية تعيق حركة التقدّم والتجديد.

تحليل مفهوم ‘’السّيرة’’

* هل يمكن تقريب الفكرة من خلال الأمثلة والتطبيقات العملية؟

ـ أضرب لك مثالا من خلال عينة في منتهى الحساسية كي تكون الفكرة واضحة جدا، ولكي يتحوّل التجديد والإصلاح الديني هماّ عاما وفاعلا. سوف لن أتطرق إلى أمثلة الفقه والأصول والتفسير والحديث وعلم الكلام، وكلها مجالات بحاجة ماسة إلى التجديد المتواصل، وإنما أذهب مباشرة إلى إحدى الأسس التي تقوم عليها هذه العلوم وغيرها، وهو ‘’السيرة’’ (قول المعصوم، وفعله وتقريره)، سواء كانت سيرة الرسول وفقا للرؤية السنية، أو سيرة الرسول وأهل بيته الكرام كما لدى الشيعة الإمامية.

السيرة كما تعلمون هي إحدى مصادر التشريع الإسلامي، إضافة إلى القرآن والعقل والإجماع، وإن كثيرا من الأحكام والتشريعات تعتمد السيرة مصدرا لتشريعها، بل حصرت بعض الفرق والمذاهب الإسلامية مصادر التشريع بالسيرة، وقالوا بعدم جواز الأخذ بالقرآن منفردا، مع التنكّر للعقل والإجماع، كما يقول الإخباريون، وأهل الحديث أو السلفيون مثلا. فلو أعدنا النظر في مفهوم السيرة، وفقا لرؤية قرآنية أيضا، فلا شك أن كثيرا من الأحكام ستتأثر بالفهم الجديد، وسنخرج بنتائج أكثر رحابة وسعة ورحمة.

إعادة بناء «السّيرة»

* نظراً لحساسية الموضوع؛ هل يمكن إعطاء صورة أكثر تفصيلا حول هذا التطبيق؟

ـ تعلمون أن للسيرة ما للقرآن من حجية، فهي (وفقا للفهم السائد) تخصّص آيات الأحكام وتقيّدها، بل إن خبر الواحد الثقة قادر من الناحية الأصولية على تقييد وتخصيص القرآن، مما يكشف التماثل في الحجية. فلو أعدنا النظر في مفهوم السيرة في ضوء الآيات الكريمة وبعيدا عن الصناعة الأصولية والمنطق الأيديولوجي، فإن وظيفتها ستنحصر في التفسير والبيان والتوضيح والشرح والتفصيل (كما هو منطوق مجموعة من الآيات: ‘’وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزّل إليهم ولعلهم يتفكرون’’). وبالتالي ستفقد السيرة قابليتها على التخصيص والتقييد، و تبقى بعض الآيات على إطلاقاتها، لنتوفر على مساحة أكبر من الحركة في إطار نصوص آيات الأحكام. وأيضا سيخرج من دائرة الحجية عدد كبير من الأحاديث، التي ليس لها علاقة بوظيفة السيرة الجديدة، إذ ليس كل ما صدر عن الرسول كان مرتبطا بالأحكام الشرعية الموجودة في القرآن الكريم، وليس في هذا إنكار لحجية شيء من سيرة النبي (معاذ الله) أو تحجيم لدورها (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى)، وإنما يجب التمييز في سيرته بين أقسام:

أقسام السيرة الأربعة

القسم الأول: ما هو مختص ببيان وتفصيل الأحكام الواردة في الكتاب العزيز، فهي حجة ولا يمكن التخلي عنها. كما بالنسبة إلى العبادات، فبدون السيرة لا يمكننا معرفة عدد الصلوات وكيفيتها مثلا. والقسم الثاني: ما هو شأن شخصي للنبي الكريم، كأن يحب هذا اللون من الطعام، أو يرغب بذلك النوع من اللباس. ولا شك أن هذا القسم ليس أحكاما شرعية، وإنما تصرفات بشرية، (قل إنما أنا بشر مثلكم)، فالمثلية تقتضي أن يكون له (ص) رغبات خاصة وله ذوق مميز. فما يكرهه النبي من طعام أو شراب ليس محرّما أكله، وإنما هو شأن شخصي، فربما هناك طعام يتلذذ به النبي بينما لا نرغبه نحن أو بالعكس. فما لم يرد فيه نص قرآني أو تصريح بالحرمة الشرعية فليس بمحرم (قل لا أجد علي محرم ...).

والقسم الثالث: الأحكام الولائية، وهي مجموعة الأوامر والنواهي التي صدرت عنه بما أنه حاكم وولي أمر المسلمين، وقد صدرت عنه لمقتضيات زمانية وضرورات وقتية، ويضرب الشهيد الصدر مثالا لذلك بالماء والكلأ، فإن أوامره في هذا الخصوص ليست أحكاما شرعية لها ما للقسم الأول من إطلاق زماني وأحوالي. وأخيرا: أن يصدر عنه سلوك بوصفه رمزا للقيم الإنسانية، ومثالا للخلق الربانية الرفيعة. فهي أيضا أحكام أخلاقية غير إلزامية ما لم تكن منصوصة أو مشرّعة. والتأسي مفهوم واسع ذو مصاديق متعددة.

اكتشاف تاريخية النصوص

* ما الذي يمكن استخلاصه مما سبق من نتائج علمية؟

ـ خلاصة هذا الكلام بطوله؛ أن الفهم الثاني للسيرة يجعلها مقتصرة على البيان والشرح والتفصيل، ويسلب عنها صلاحية التقييد أو التخصيص، فضلا عن التشريع لأنه منحصر بالله تعالى، وعلى النبي تقع مسؤولية تبليغه إلى الناس. وهذه فائدة كبيرة جدا في عملية تجديد الفكر الديني، وبهذا ستختلف النتائج، ونتوفر على مطلقات قرآنية، كانت مرتهنة لقيود الفهم الأول للسيرة، ويمكننا تفسير النصوص القرآنية وفقا لقبلياتنا، وحاجات عصرنا، وفي ضوء مقاصد الشريعة وغاياتها. نحن لن نخسر شيئا من السيرة لو اعتمدنا الفهم الثاني لها، غاية الأمر أننا سنتوفر على فرص أكبر لتجديد وفهم قضايانا الفكرية والعقدية. كما أن الفهم الثاني للسيرة يكشف لنا عن تاريخية جملة كبيرة من النصوص، التي كانت وما تزال تحجب عنا النص القرآني.

مثال تطبيقي آخر: العصمة

* هل يمكن التطبيق على مثال مفهومي آخر ومن الداخل العقيدي إذا أمكن؟

ـ نعم، هنا مثال آخر لا يقل أهمية وخطورة من ‘’السيرة’’، أقصد مفهوم ‘’العصمة’’. فالملاحظ أن أساتذة البحث الخارج في الحوزات العلمية يشرعون في تدريس الفقه والأصول ونحن لا نعلم عن رأيهم العقيدي أي شيء، بينما ينقلب الفقه رأسا على عقب لو كان للفقيه رأي آخر عن مفهوم العصمة. لا نعلم ماذا يفهم ذلك الفقيه من العصمة؟ ما هي حدودها؟، كيف استفاد ذلك؟ هل درس عصر تشكـّل فكرة العصمة بشكل نقدي؟ ما هو دور ‘’هشام بن الحكم’’ في بناء الفكر العقيدي، باعتباره من الآباء المؤسسين للفكر العقيدي الشيعي؟ هل فعلا يؤمن بالعصمة كما يطرحها في مجلس الدرس، أم يجامل ويخادع؟! هل العصمة في حدود التبليغ أم أوسع من ذلك؟ وما هو مقدار السعة؟ مطلقة أو مقيدة؟

* من الواضح أن هذه الأسئلة تتصــل مباشــرة بالــرؤيــة العــقدية للفقيه، فما هي النتائج المترتبة عليها؟

ـ أنت تعلم أن نتائج البحوث العلمية تتأثر سلبا وإيجابا بتغير الأجوبة العقدية في هذه المسألة بالذات. فمثلا إذا قلنا بالعصمة المطلقة بالنسبة إلى الأئمة فسنعتبر تعدّد النصوص الصادرة في مسألة واحدة، أمرا داخليا، فنضطر إلى قواعد الجمع العرفي لرفع التعارض إن وجد. بينما إذا قلنا بالعصمة السلوكية، وأن الأئمة يمثلون أعلى درجات الكمال الإنساني وأنهم مستحفظون من قبل النبي، وعندهم علم بالقواعد الكلية التي تحتاج إلى رأي واجتهاد في تطبيقها على جزئياتها، (وهذا لا يتنافي مع صدور السهو بل والخطأ)، فحينئذ سيتعامل الفقيه مع الروايات على أنها جهات متعددة ولا يضطر إلى القواعد الأصولية لرفع التعارض، وربما جاء فقيه آخر واعتبرها آراء اجتهادية يمكن مناقشتها، أو طرحها إذا اكتشف زمنيتها وتاريخيتها. وربما يأتي فقيه ثالث ليعتبر الأئمة امتدادا للنبي، لكن لا تشملهم أيِّ من صفاته الخاصة بما في ذلك العصمة. والنتيجة العامة؛ أن ثمة اختلافات كبيرة إذا أُعيد النظر في القواعد والأسس التي يقوم عليها البناء الفوقي للفكر والفقه الإسلاميين.

تجديد مقولات العقيدة

* يتضح من ذلك أنك لا تتردّد في تحريك التجديد باتجاه العقيدة، أليس كذلك؟

ـ وكيف يحصل تجديدٌ في الفقه ونحن لمّا نجدّد في مقولات العقيدة؟ لم نفكّكها، لم نحاكمها محاكمة نقدية؟! نعم ندافع عنها، ونراكم فوقها، لكن لا يمكن مقاربتها بتجرّد، وبعيدا عن البعد الأيديولوجي والحس الطائفي! وهذا يتنافى مع التجديد. والجو العام الآن باتجاه إضافات أيديولوجية لتضخيم الجانب القدسي في العقيدة، وأنت تعلم أن كل إضافة هي حجر في طريق التجديد والإصلاح، لأن كثيرا من القضايا مرتبطة بمسائل العقيدة ارتباطا عضويا، فمنذ عقدين بدأ التنظير للولاية التكوينية، فمن يجرؤ على مناقشة العصمة التشريعية؟!

العلوم الإسلامية

* ماذا هناك أيضاً من تطبيقات وأمثلة؟

ـ هناك المقولات المشهورة التي على أساسها تصدّى المفكرون المسلمون لتأسيس علوم إسلامية (اقتصاد إسلامي، علم اجتماع إسلامي، نظام سياسي إسلامي..). فهل ناقشنا تلك الأسس بمنهج نقدي صريح؟ هل تصدى الإسلام فعلا لوضع نظام اقتصادي أو سياسي أو اجتماعي، أو أن مهمة الدين شيء آخر، وأن الأنظمة المذكورة ما هي إلا تراكمات بشرية، تحكمها أطر أخلاقية ودينية؟ يجب أن يبدأ التجديد من الأسس التي يقوم عليها الفكر الإسلامي، يجب أن تُنقّح وتُصاغ وفق منطق عقلي، لا يحيل على المجهول، ويجافي منطق التسالم والإجماع والشهرة. وإنما أضرب هذه الأمثلة كي تتضح الفكرة، ونعرف ما هي الأسباب في عدم وجود تجديد حقيقي وفاعل. ونعرف أيضا أن ثمة آفاقا كبيرة ما زالت بكراً ولم تصلها يد التجديد وتنتظر جهودا موضوعية، غير مؤدلجة ولا ملوثة بالحس الطائفي، والتعاطف التاريخي.

زعزعة الثقة بالمسلمات

* يبدو أن جزءاً كبيراً من إعاقة التجديد يأتي مما تسمّيه بالتعاطف التاريخي. أليس كذلك؟

ـ يجب استدعاء التاريخ، لكن هذه المرة لفحص كلّ المقولات والمسلمات، بعد زعزعة الثقة بها، كي نتوفر على بناء فوقي يقوم على أسس معرفية لا تتقاطع مع العقل، وتمتلك أجوبة عقلانية لكل الإشكالات، دون مواربة أو خوف. كفانا إحالات غير مبرّرة، كفانا إحالات على اللامعقول، كفانا انكفاء إلى الخلف وتدحرجٍ إلى الوراء، يجب الاستفادة من معطيات العلوم الحديثة، ويجب تحديث وتجديد علومنا، ويجب علينا التحلي بشجاعة كبيرة لنعلن على رؤوس الأشهاد كلّ خطأ معرفي، حتى وإنْ كان يمسّ صميم العقيدة. ولنعلم أن المعيق الأول في عملية التجديد هو كثرة الثوابت والجزميات والنهائيات التي لا نعلم عن حقيقتها لحد الآن سوى التسالم والشهرة، حتى تحوّلت إلى بؤر حمراء لا يمكن مقاربتها أو التحرّش بها.

مشاريع الإصلاح والتجديد

* وماذا عن مشاريع الإصلاح والتجديد القائمة اليوم في أكثر من اتجاه ومكان؟

ـ المشاريع كثيرة، وقد سجّل بعضها إضافات حقيقة، وراكم رؤى وحلولا جذرية، وإنْ كانت محدودة. علينا ألا ننسى جهود السيد محمد باقر الصدر، الشيخ مرتضى مطهري، علي شريعتي، والشيخ مهدي شمس الدين، السيد محمد حسين فضل الله، محمد مجتهد شبستري، عبد الكريم سروش، مصطفى ملكيان، وغالب الشابندر وآخرين في الخط الشيعي، ويقع على رأسهم مشروع الشيخ عبد الجبار الرفاعي، أي مشروع مركز دراسات فلسفة الدين. كما يجب ألا ننسى جهود المعهد العالمي للفكر الإسلامي بما اشتمل عليه من علماء وأساتذة ومفكرين، إضافة إلى السادة طه عبد الرحمن، أبو يعرب المرزوقي، حسن حنفي، محمد أركون وآخرين. جميعهم يسعى لتجديد الفكر الإسلامي كي يستطيع مواكبة العصر ويلبي حاجات المسلمين. ولسنا بصدد جرد جمع الجهود، لكن علينا التوقف قليلا لنقارن بين منهج المفكر الإيراني عبد الكريم سروش مثلا، الذي يغور في أعماق العقيدة والفكر، ولا يتهيب من مقاربة الممنوع، ثم يخرج لنا بنتائج جديدة، وبين آخرين لا يغادرون العمارة الفوقية للفكر الإسلامي. أو بحوث محمد أركون وهو ينقب في باطن المسلمات والمقولات في ضوء مناهج العلم الحديث، لينتهي إلى نتائج جديدة.

الفهم العصري للدين

* في سياق حديثكم حول نقد الذات ومراجعتها، لا تترددوا في طرح ما تطلقون عليه بـ’’الفهم العصري للدين’’. إلى أي مدى تنطوي هذه المقولة على قيمة أصيلة خالية من إشكال التلفيق أو الدمج التلفيقي؟

ـ عندما أدعو إلى فهم عصري للدين، أنطلق من الفصل بين الدين والفهم أو المعرفة الدينية. الدين هو النصوص المقدسة (القرآن وما صح من السنة المرتبطة به). وأما المعرفة الدينية فهي الفهم البشري للدين. الدين ثابت والمعرفة الدينية متغيرة متأثرة بظروفها الزمانية والمكانية. الدين ملزم لنا، والمعرفة الدينية غير ملزمة لنا. أنا غير ملزم بتقليد السلف الصالح رضوان الله عليهم، هم لهم فهمهم ولنا فهمنا، لهم ظروفهم وحاجاتهم، ولنا ظروفنا وحاجاتنا. معطيات العلوم اختلفت، والحاجات تبدّلت، والآفاق المعرفية اتسعت. فكيف أستفتي الموتى عن قضايا لا يعرفون حيثياتها؟ وكيف أجبرهم على فهم عصر لا ينتمون له؟ ما قام به السلف الصالح هو قراءة وفهم للنصوص، وها هي النصوص بين أيدينا، فما حاجتنا لماض مثقل بمشكلات لا تعنينا؟ لماذا نرتبط بوضع لم نسهم في تأسيسه ولم نكتوِ بناره؟

الفقهاء بين العصر والسلف

عندما ندعو إلى فهم عصري للدين؛ نطالب الفقهاء أن يعيشوا عصرنا، ويتفهموا مشكلاتنا، ويعوا التحديات المحدقة بنا. لكن للأسف ما زال الفقيه يلتفت إلى الوراء كلما أراد استنباط حكم شرعي، انظر إلى الفقهاء كيف يتبارون في حشد أقوال السلف الصالح لإثبات صحة أقوالهم. يثق بعقل المفيد والطوسي أعلى الله مقامهم، وهو عقل ينتمي إلى مرحلة مختلفة، بينما لا يثق بعقله الذي ينتمي إلى عصر المناهج المعرفية الحديثة. فهو متقوقع في اللا تاريخ، يطلُّ علينا عبر سدٍّ منيع من القرون، فكيف يفقه الواقع ويشرّع لمشكلات لا يعي ملابساتها، أو يعي حقيقتها وظروفها لكنه يستعير لها حلولا وُضعت وفق ظرف تاريخي مغاير تماما؟!

مخاوف استعلائية من التجديد

* وكيف تعلقون على المخاوف التي تُطرح بشأن التسرّب ‘’الحداثي’’ في أمثال هذه المقولات، مما باتت تتوجسّ منه المؤسسة الدينية اليوم؟

ـ أعتقد أنه خوف غير مبرّر، فهم يخشون من انهيار الأسس المعرفية للعلوم الدينية إذا قاربتها العلوم الحديثة، ويعتقدون أنهم بمنأى عنها لأنهم يرتبطون بالإلهي والغيبي، وهناك تسديد ولطف مستمر في فقه النصوص واستنباط الأحكام الشرعية، فهم في غنى عن كل تلك العلوم؟ وبالتالي فهي مخاوف استعلائية متغطرسة، سبّبت لنا كارثة داخلية وعزلتها عن المجتمع والحياة. أو أن التخوّف نابع من مصالح شخصية، إذ يختص الفقهاء بمصطلحات وخطاب خاص، ولهم أسلوبهم الذي لا يفهمه إلا من عاش وترعرع في تلك الأجواء، وباتت معرفة تفسير النصوص المغلقة سلطة يستأنس بها الفقيه ويتباهى بها على الآخر المختلف. سلطة توفر له مكانة اجتماعية وأخرى علمية، ويستطع فرض سطوته على الآخرين. سلطة يشيّد بها مملكته وعلياءه الملكوتي. ألا تنظر كيف يلجأ رجل الدين إلى مصطلحاته الخاصة حينما يعجز عن الرد أو الإجابة على إشكال ما؟ وبالتالي فرجال الدين يحتمون بتلك العلوم، فكيف يُسمح لعلوم أخرى أن تتسلسل إلى دائرة مشاغلهم العلمية وتفسد عليهم كل شيء؟ فدأبه الاستهزاء بتلك العلوم، وتقديس علومه، التي ما فتئ ينسبها إلى الشارع المقدس، وإلى الغيب واللطف الإلهي، ليطمس بشريتها، كي لا يتجرأ احد على مناقشتها أو التمرد على سلطة القائمين عليها، إنها نتاج بشري، واجتهادات تمتّ في ظل شروط تاريخية، ونحن لا نستهزئ بتلك العلوم والكتب معاذ الله، إنها جهد بشري محترم، ونتاج عقل إنساني، إلا أننا نعترض على التشبّث بها، نعارض التنازل عن عقولنا، ونرفض الرجوع إليها واستفتائها في شأن يخصّنا

 ***

الوقت – حاوره: نادر المتروك

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=16025

 ............................

تابع القسم الثاني من الحوار مع الكاتب والباحث ماجد الغرباوي