كتابات

ماجد الغرباوي: مرايا الحروف

الى المعدمين .. صبرا

كثمل ٍ ترنحتُ .. اقاوم ريحا عاتية .. هبت في يوم قائظ .. انعدمت معها الرؤيا الا قليلا.

كان قريبا مني .. هزني منظره .. نحيف .. طاعن .. حاسر الرأس .. يتصبب عرقا.

لا أملك سوى قنينة ماء، أُطفئُ بها حرارة جوفي الملتهب. أشرت إليها .. شكرني واعتذر .. لأنه كان صائما.

بهرني صبره .. كدت أصرخ لولا ذهوله عني، كأنه ينتظر قادما مهما، أو صديقا حميما ..كل ما استرعى اهتمامه مبنى متواضع .. قابع في إحدى زوايا الشارع .. يأمّه الناس بلهفة ..

فجأة هرول الشيخ الكبير، تاركا عمله، وهو يردد: وصل ... وصل...

استفهمت منه: مَنْ ..؟ .. مَنْ..؟

التفت إليّ وقد زاغ بصره:

انه رجل ....

ثم أردف يردد كلمات تلاشت مع لهاث انفاسه المتسارعة، غير أني التقطت من كل واحدة حرفها الأول، فوجدت نفسي أعدو خلف لغز محيّر. ماذا يعني:

رجل (د ...)، (د ...)، (د ...)، (د ...)،

تقاذفتني الشكوك .. جالت بي الأوهام .. أقتفيت أثره .. توترت حينما رأيت امرأة تحمل على كتفها الهزيل طفلا .. مريضا .. شاحبا .. قد دلفت الى ذات المكان ..

شاب يجر أذيال الخيبة طأطأ رأسه ودخل هو الآخر، غير مكترث لحيرتي وذهولي.

أضحى الشارع مقفراً، سوى لهيب شمس حارقة، ودمدمة ريح عاصف، وهمهمات تصدر من داخل المبنى.

باغتتني رعشة .. لم أفهم سببها .. كاد الخوف يسحقني لولا بقايا جرأة، ورغبة ملحّة لاكتشاف معنى دالاته الأربعة ..

قاومت ضعفي ودخلت خائفا .. وجلاَ .. أتلفت .. لم أجرؤ على اقتحام الباب الثاني ..

نفحات هواء تتسرب ثقيلة .. نتنة، مع بقايا ضوء خافت، يتلاشى كلما توغّلت في ظلمة ذلك الفناء. رحت أنظر عبر شق الباب .. صمت رهيب يخيم على المكان .. وجوه خاشعة تترقب .. تحلّقتْ حول شخص حجبت تلك الدالات ملامحه. كان الشيخ الطاعن مبهورا به، يجلس بين يديه بخشوع .. يتودد له .. يتوسله بعينين ذاويتين، أرجوك .. صدقني .. هذا كل ما لديّ ..

رحت أصغي لحديثهما لعلي اكتشف إحدى الدالات، او أفهم تناسقها.

كان (السيّد الجليل) كما رددوا اسمه، وسيماً، ذا عينين نرجسيتين، ولحية مسترسله، طافحا بالحيوية والعافية، ينظر لمن حوله بجفون مسدله ..  يتحدث بوقار وسكينة .. انشغلت شفتاه بتمتمات غامضة، أدمن عليها منذ زمن بعيد، وعينه على ولده الصبي، تردع عنه انفاس جلسائه.

أخذ (السيّد الجليل) يتلو مواعظه الملغومة بالوعيد .. صعق لسماعها الرجل الطاعن، أقسم أنه صادق .. اضطر لشراء قرصين من الخبز، فنقص من المبلغ درهم. فأكّد له (السيّد الجليل) انه جرم، متى كان ذلك من حقك؟ قلوب حرّى تنتظره، (وبطون لا طمع لها بالقرص منذ ايام).

ثم سأل الرجل الكبير، أنت ماذا تعمل؟

تصاعدت الآهات من صدره، تبعتها حسرات موجعة .. ازاول عملا بسيطا، يؤمّن لي رزقا كفافا، تارة لا يكفي لسد رمق عيالي، وما يفيض منه الا نادرا، وها آنذا أتيت بحقه اليك .. أرجو ان تقبله مني، وتغفر لي.

شاح (السيّد الجليل) بوجهه عنه، ثم نظر له بشزر، هل تعلم ماذا يعني نقصانك  درهما منه؟ .. ظل يتأفف بمكر .. يهز رأسه .. يقلّب بصره ذات اليمين وذات الشمال .. ارتعدت فرائص الشيخ، انكب على يده يقبّلها ويتوسل إليه.

مشهد عصيب .. مددت يدي إلى جيبي، لعل درهما أهمله النسيان أنتشل به كرامة الشيخ الطاعن وأحفظ ماء وجهه .. بحثت في كل زاوية ثم خرجت يدي بيضاء للناظرين.

انسحب الرجل الطاعن بعد أن لاحت علامات الرضا على محيّا (السيّد الجليل)، فاقترَبتْ منه المرأة، تحمل ولدا عليلا .. شكت له حالها .. أعرض بوجهه عنها .. ارتبكت عندما أحالها على الرزّاق العليم. وراح يُبعد ولده عنها، ويؤكد: تمنيت لو بمقدوري مساعدتك. وما بيدي سوى مال لا يحق لي التصرّف به.

كان الشاب يصغي لما يدور حوله .. ينتظر دوره في الحديث معه. وعندما همّ بالكلام، هبّ (السيّد الجليل) مع ولده تاركا خلفه عيونا حيرى، وآهات أرعبها الفقر والخوف.

ذهلتُ من هول المشهد، صارعتني ارادات شتى، أي سطوة لهذا الشخص على الناس؟ .. تبعْتُهُ، وهم يتدافعون من حوله، يتبركون بتقبيل يديه، حتى إذا خلا الشارع إلا منه، تعالى صوت الصبي وهو يتمرد على ارادة أبيه، ويصرّ على شراء لعبته، فما كان من (السيّد الجليل) إلا الرضوخ لرغبة ولده!!!!

 عدت ادارجي باحثا عن ورقة بيضاء ألقي عليها وزر حيرتي .. كتبت الدالات الأربعة كما هي:

(د ...)، (د ...)، (د ...)، (د  ...)

ثم علا صوتي متجهما: عرفت أي رجل هذا،

إنه:

رجل  (د) (د + د + د)