كتابات

ماجد الغرباوي: حطام المسافات

تململت في فراشها الوفير.. راحت تتابع الأفق يعلو ويهبط مع أنفاسها.. صغت لحديث روحها الهائمة.. نداء القلب تهاوى تحت وطأة خيباتها.. مخاوف جمة زلزلت وداعتها.. تنهّدت.. أغمضت عينيها.. أخذت تعدو خلف بقايا ذكريات موجعة.. أطلت بذهول على ربوع حديقتها الغناء. لاحت لها شجرة رابضة في الجانب الآخر.. شامخة.. وارفة الظل.. فارعة الغصون.. تزهو بخضرتها.. شغلتها هالتها عن رؤية ذبول أحد أغصانها.

ميامي التي ألفت لوحتها الجميلة، أصبحت تنقل نظرها الذاوي بينها وبين الشجرة، تمنت لو تحدّثها عن بعد ولو همسا، أو تصغي لآهاتها.  شعرت بانجذاب شديد وغريب نحوها، جرّبت أن تتشاغل عنها، أو تغيب يوما أو أكثر.. أفقد الفراق صوابها.. أرسلت حفنة أشواق معتقة. أجابتها الشجرة بباقة آهات حالمة، انتشرت كفراشات ملوّنة على سطح اللوحة الهامدة في زاوية الغرفة.

 شدّ انتباهها ظلال الكلمات.. حافات صارخة. اقتربت منها.. تراقصت أمامها.. راحت تداعب أحرفها.. ذهلت.. تراجعت.. خوفا أو دهشة.. تسمّرت أمام اللوحة ثانية.. تبدلت ملامحها، ارتبكت وهمسات الروح ظلت جاثية، يتدحرج ظلها فوق جسدها المتهالك. غدت الشجرة اماً تغفو في حضنها.. صديقة تبوح لها بمكنونات قلبها.. حبيبة تبعث الأمل في حطام الأيام. وغدت لوحتها منديل حرير ترتسم فوقه أحلامها، وتتبادل من خلالها مشاعر الحب. تشتبك مع الشجرة بخصام ودود، وتعانقها كلما شعرت بحاجة الى الحنان.

ذات يوم جالت ببصرها.. حددت موقع الشجرة بدقة، تفقّدت غصونها، واحدا واحدا، هالها ذلك الغصن اللعين، راح يتدلى مودعا أنفاسه. هل ستموت الشجرة بموته؟؟ بكت.. شعرت أن جزءا منها ستفقده الى الأبد، راح الإحباط يبدد آمالها، عادت تجر أذيال الخيبة، تسمع نشيج وحدتها. ركزّت نظرها على تقاطعات لوحتها، جالت ببصرها في زواياها الأربعة، بدأت حناياها تتماوج.. منظر غريب.. بحيرة جميلة.. راحت أشعة الشمس تنعكس على حافاتها المنسدلة..  كان ماؤها ساكنا.. سوى موجات هادئة خلفتها رياح عابثة.. اقتربت من الشاطئ.. أمسكت بحجر ينوء بثقله.. ألقته في عمق البحيرة.. تلاحقت الأمواج.. شقت عباب الماء.. ارتطمت بضفاف البحيرة الشمالية. اندهشت حينما رأت كائنا هلاميا، حسبته بشرا يتوشّح سمرة خفيفة. هكذا تراءى لها للوهلة الأولى.

نظرت اليه، أومأ اليها. التمعت أساريرها. أرادت أن تحيي طلعته، لكنها أفاقت.. كبتت مشاعرها.. أغمضت عينيها، وكأنها تذكّرت عهدا قطعته على نفسها، أو قـَسَماً لا تريد أن تحنث به.

تراجعت، وقلبها ينصت لهمساته الغامضة. راحت تلاحق ظلال الشجرة، لاحت منها نظرة جديدة، رأت ذلك الغصن، وهو يودّع الحياة، تاركا فراغا كبيرا.

 شعرت برغبة جامحة لاكتشاف حقيقة ذلك القادم من بعيد. وكيف لها أن تتأكد من صدقه. شعر بقلقها رغم بعد المسافة، أشار لها.. التفتت الى الوراء، عادت ثملة، أسكرتها عذوبة الوهم، تأكد من جدوى لعبته.. عزف ألحانا أكثر جمالا، صبا لها قلبها أو كاد.. تخيلت أنفاسه الدافئة.. راحت تقتفي آثاره وهي محلّقة في عالمه.. تلاحق لهاثه المتعثر.. تستعير من الصمت لغة تتناغم مع وشائج قلقها.

أفرد جناحية، فرحت من أعماق قلبها، أوحى لها بشئ.. لم تصدقه.. تمنت لو يتحدث أكثر.. ظل مواربا في أجوبته، وراح صدى صوته يتغلغل في أعماق تنهداتها.

عادت تفكر ماذا تفعل، أنه حلم أشرق من شاطئ الشمال. هل ستساعده في تحقيق رغبته؟ أم  أكثر من ذلك تتعهده وتتبناه، وربما....

انها فرصة عظيمة.. لا تتكرر. أشاحت بوجهها مبتسمة: ليس مهماً ان اعرف من هو ما دام نبضه يتردد في شراييني.

 كلمتان راحتا تعبثان بها. إنه قرار صعب.. خطوة كبيرة.. مساران بين حياتين. أستبد بها التعب، ألقت بنفسها على سريرها، وهي تهذي.

آه ما أصعبه من قرار!.. هنا حقيقة الشجاعة.. لكن هل دائما يخضع الإنسان في قراراته لشروط الحياة، أم يكتفي بهيام قلبه ورعشات أنفاسه؟.

تسمّرت.. راحت تتقصى تلافيف روحها. هل....؟

 لا يعقل ذلك، كيف أتجرد.. أتخلى.. إنها مواثيقي..عهودي،  كيف أخلعها لمجرد ومضة أمل مجهول.

آه كم أحببتها.. همتُ بها.. لكنها صماء.. خاوية لا تروي عطشي تلك الشجرة.. مشاعري تتوق لقطرات الندى.. ساحطم أغلال الانتظار.

عادت تتهجى ما على اللوحة من كلمات.. صعقت.. وتملّكها الخوف. اللوحة غاضبة.. حروفها تزمجر.. تحذّر.. تتوعد.. ارتبكت، لكنها صممت على تحدى قلاع العذاب.

هل هو قرار نهائي...؟

يا لصعوبة الموقف، لا أفقه هذه الاسئلة.. إنني أذوي.. أتهاوى.. لا مفر من المغامرة.

عادت تنظر الى لوحتها، لا أحد يفهم ما تقول تلك الحروف الهامدة الا هي.. قرار مصيري.. الشجرة ما عادت تملأ عينيها. أرادت ان تلقي نظرة خاطفة، كي تستعيد ثقتها بتلك الفروع الشامخة، لم تر سوى ذلك الغصن اللئيم يتدلى. صكت وجهها وصرخت: إذاً سأكون له.

 لا.. لا.. لا.. لا. إني اجازف، إنه قرار خطير، كيف لي أن أضمن كل شي. القرارات الكبيرة قوامها الحكمة والتروي والبصيرة.. اما أنا فأتلخبط.. قلقت أنا.. سأكتفي بمساعدته. وليصارع الحياة بنفسه.

ما الفرق بين هاتين الكلمتين او المفهومين؟ حقا سؤال سخيف، أو جوهري.. لا ادري.

أي عذاب تبعث فينا اللغة، تتشابك حروفها ونضيع في لجج معانيها. اللغة أداة الغواية.. أداة الضلال.. محنة الإنسان مع خالقه.. مع الغيب، مع رجل الدين، مع رجل السياسية وحتى رجل المال.

اضطهدتني اللغة، كيف أختار؟ هل هو ضياع بين كلمتين؟ أم خيار بين حياتين؟ لكن لماذا أهتم به وأنا أجهل حقيقته؟ هكذا صعقتها هواجس العقل، الا انها لاذت بسذاجتها.

رددت تلك الكلمتين بشغف.. دققت في حروفهما، أحاطت علما بالمتشابه منها.. بحثت عن فوارقها.. دلالاتها.. معانيها. استنجدت بكل مصادر اللغة.. إنها مسافة شاهقة. هكذا أدركت بعد حيرة طويلة، وقلق تلاشت معه ابتسامتها المشرقة.

إذا سأنصت له ثانية وثالثة حتى أكتشف حقيقته، كي اتخذ قرارا حاسما. ظلت تترقب ظهوره، سهرت الليال.. أتعبها الأرق.. تركت نفسها تحلم.. تتمنى لحظة العناق، بعد أن ذابت شوقا على ايقاع همساته، حتى رقّ قلبها، وشرعت نوافذه.

ولما أطل ذات يوم صرخت بقوة: سـ.. سـ.. سـ...!! لاحت منه علامات الرضا والحبور.

أعدّت عدتها.. استرخت سرائره وهو يشاهد همّتها.. راح يرقص، وعيونها تزف له الفرح.. لكنها لم تنس الشجرة.. ألقت عليها نظرة الوداع.. تفقّدت أغصانها جيدا، رأت تقادم السنين وما فعلتها من شقوق بجذعها المتهالك، ركّزت جيدا. بات الغصن يتدلى، يقترب من الأرض، يلتقط أنفاسه الأخيرة، شدّت من عزيمتها، وخاضت غمار البحيرة.. فاجأها القلق.. خلعت رداء الشك ومضت.

تحركا معا.. وحلم اللقاء يتراقص فوق أهدابها. وبين فرحة وشهقة، كانت خطواتهما تقترب، تتهامس.. ولما ترنحت أقدامهما فوق الماء.. باغتتها الدهشه.. جفلت.. مشهد غريب...

التفتت الى الشجرة

ارهقتها حنايا أغصانها.

عادت لتصحبه

امتلأت قبضتها شوكا!!!

 ***

بقلم: ماجد الغرباوي

2013-06-27