كتابات

ماجد الغرباوي: ميادة ابو شنب ونصها: "استِعارةٌ مَوسِميّة".. قراءة أولية

منذ مطلع القصيدة تفاجؤنا الشاعرة ميادة ابو شنب في نصها الجديد (استِعارةٌ مَوسِميّة) باسلوب رمزي، يدعو للتأمل في سياقات النص بحثا عن مآلاته ضمن المنحى الفكري والثقافي لها. فهي شاعرة رهيفة ترتكز في كتاباتها الى خلفية فكرية وثقافية، يؤكد ذلك ديوانها الأول الصادر سنة 2002م بعنوان: "بريد السنونون" إذ تجد الشاعرة تعمل في أكثر نصوصها على ثيمتين: "حرية المرأة". و"تداعيات العلاقة بالرجل المتخلف" او (الصحراوي) كما تسميه، حيث لازمها خوف مرير من رجل لا يفهم المرأة الانسان، ينهش كرامتها وانسانيتها .. يتشبث بجسدها .. يتحكم بارادتها .. يصادر حريتها في التعبير عن ذاتها وتطلعاتها .. ذلك الانسان الذي يرتاب في سلوك المرأة مهما كان حضاريا، لذا كتبت على الغلاف الخلفي للديوان تعبيرا عن هموم جميع النساء، في نضالهن ضد سلطة الرجل الدكتاتور:

أخافك خريفا مراهقا

وأنا ورقة شجر

أخافك بردا وثلوجا

وأنا تائهة

يغرقني رذاذ المطر

وبكل حواسي الأنوثية

أخافك رجلا صحراويا

يدعي التحضر

 في نصها الجديد، (استِعارةٌ مَوسِميّة) ظلت الشاعرة وفية لمنهجها في الكتابة الواعية لأهدافها فعالجت في نصها الجديد موضوع الغربة والاغتراب والبعد عن الأحبة والأوطان، واشكالية العلاقة العاطفية ضمن اطار يرواح بين التفاؤل واليأس. الا انها في هذا النص اختلفت في اسلوبها الكتابي عندما عمدت لتوظيف الرمز كآلية للتعبير عن همومها، فنجحت في التقاط مفاصل مشهد عصي على الوصف، من خلال اسلوب بديع في كتابة النص، فعبّرت رمزيا عن مشاعرها، باستعارات وتشبيهات راقية، جسّدت خوفها وقلقها، فكانت مفاجأة صادمة عندما وعت ان ميسانها (الحبيب / الوطن) .. الحب المستعر في روحها، ينسل او يتلاشى، في غفلة من الزمن، تاركا احلامها في مهب لحن (ذؤابة) ضوء لقيط، تأبى الروح ان تأنس به او تتفاعل معه، بل تشعر معه بغربة حقيقية، وتراجع شعوري لا ارادي:

يتسلّلُ من ظِلِّ قوسِ النّصرِ مَيْساني،

ليُؤنسَني بلحنِ الضّوءِ اللّقيط.

كأنها تريد في هذا المقطع ان تضع ميسانها / الحبيب / الوطن أمام معادلة قاسية، اما انت او البديل الطبيعي لغيابك ضوء لقيط لا تخفى خصائصه، لهذا استخدمت أدوات التعريف في اشارة بليغة تعني ذلك الضد، الآخر / المراوغ / المخادع المعهود. لتؤكد فداحة الخسارة، لذا راحت تعاتبه برقة وعفوية، تصوّر مشهدا وجدانيا، عاطفيا، تمر به كل أنثى حينما تعيش سعادة حالمة ثم تنهار في لحظة غياب يعكس واقع وحقيقة مرّة، فتتوسل اليه بانبهارها وضعفها، وتكتب برقة تؤجج مشاعرنا، فنتفاعل مع محنتها.. حضور رمزي او مؤقت، وغيباب واقعي، معادلة قاهرة، تبعثر الروح في عنفوانها، فلا تجد الشاعرة سوى الكلمات:

أتَفقدُني خِلسةً في خريفِ خوائِكَ،

رعشةَ رهامٍ ...

تَميدُ في أنفاسِ المَغيب.

فهي تعيشه لحظة سحرية، لا يتوارى عن عينها ووجدانها، مهما كان البعد، ومهما بعدت الشقة، لذا رغم اليأس تعود الشاعرة لتعزف سيمفونية الآمل، ما يعكس قوة تعلقها بميسانها / بحبيبها، وعمق العلاقة الروحية والعاطفية، فاختارت اسلوبا رمزيا بارعا في التعبير عن امنياتها المشوبة باليأس، ضمن قدسية الامكنية والازمنة التي احتضنت حبهما:

أستعيرُ حواسَكَ الموسِميّة،

ألامسُني ... بأناملكَ الطّيفِ

في فَجْرِ أنوثَةِ السّنابل.

انها ذكريات موجعة تقصّدت الشاعرة تسويقها برمزية باذخة، تعلم جيدا قوة ايقاعها في نفس الحبيب، وظلت تصعّد من نبرتها، لتعكس حالة الوجد التي ألهمت الشاعرة صوفية عفيفة، فوظّفت استعارات موفقة، للتعبير عن غليان الروح وذهولها، فهي تعي جيدا ان همس الحبيب ولثماته المستعرة بنار الشوق، كفيلة بتسكين جراح الغربة، لذا لا تتردد ان يعلو صوتها:

ألثِمُني ... بجمرِ شفةٍ تَسْكنُ حُلمَ المَوقدِ.

أهمسُ لي سيمفونيةَ البونِ

في مدِّها اللّجلاجِ ...

وأعاتبُ الوترَ

إنْ حادَ عن جَزْرِ الوَميض.

ورغم المحنة، محنة الفراق، تتشبث الشاعرة بكل وسيلة بما فيها السحر، ومصابيح الجن، وتسعيد كل تجارب الحب الطويلة، رغم تجهّم الليل ومحنته، فقد تبدو ناجحة وتحقق بعض امنياتها، لكن النتيجة التي اعترفت بها في آخر المطاف قاسية، حيث لا دواء سوى الصبر لقهر النزف المختال في مدار الجرح كما تقول:

سأفركُ كُلَّ مصَابيح الجنّ المنسِيّة

من سَالفِ الحبِّ

وغابرِ النّشوةِ والأنِين

مع تَغلغُلِ اللّيلِ الأيهَمِ في عهدِ الوعودِ،

فَلن يَقهرَ النّزفَ المختالَ في مَدارِ الجِراح

إلا تَمائمَ الصّبرِ على هَوْدجِ السّنين.

ايقاع العنوان

منذ الوهلة الأولى تنساب من خلال عنوان القصيدة (استعارة موسمية) موسيقا تبعث على الترقب، حيث استطاعت الشاعرة من خلال كلمتين بليغتين ان ترسم مشهدا يختزل قصيدة كاملة. فـ "الاستعارة" و"موسومية" يعزفان على ذات اللحن .. تعبيرا آخر عن التوجّس المضاعف، ولهما قوة جذب تؤسر القارئ، وتضطره لمتابعة الشاعرة وهي تعزف الحانها من خلال حوار ينطلق من اعماق النفس المشدودة لحيثيات المكان.

على بساطِي الخَمرِي ... يَختالُ

ذاكَ الضّياعُ المَنفِي.

يدخلُ جنّةَ ... ناري،

ينفخُ شهوةَ التّشردِ في لهيبِها الأسطوري،

بنية النص بلاغيا

اولا: الضياع والغربة والخوف من خسارة الحبيب وتبدد الحلم كان المحور الأساس لبنية النص حيث عبّرت الشاعرة عن هذه المفاهيم من خلال اصطفافات بلاغية لا تخلو من تشبيهات واستعارات، منها:

- الضّياعُ المَنفِي

- التّشردِ

- (تنزح هالة شمالك

إلى أقاليم النسيان)

- عهدِ الوعودِ

- النّزفَ المختالَ

كما ان الترادف كان سمة النص، حيث استخدمت الشاعرة كلمات تنتمي لذات الحقل الدلالي بمستويات متفاوتة فراحت ترسم صورا شعرية تتألق في فضاء القصيدة، وتبعث على التأمل، باستغراق وذهول يتوالد باستمرار وانت تصغي لموسيقا النص .

ثانيا: بدأت الشاعرة نصها بأفعال مضارعة كي تمنح المشهد الشعري ديناميكية وحيوية واستمراية تضع القارئ في مدارتاته، وتشده لمتابعته، مثلا:

- (يَختالُ ذاكَ الضّياعُ المَنفِي)، .. لاحظ كيف تصوّر الضياع في حركته، وطبيعة تحركه، فرغم كونه ضياعا منفيا الا انه يتباهى منتصرا، بل راح يصعّر خده عندما منحته الشاعرة حيوية أقوى بوصفه مختالا. انه ضياع مربك يختزل اليأس وشيئا من أمل متزلزل، لذا راح يختال ويتباهي معلنا انتصاره، في لحظة غياب الحبيب.

- (يدخلُ جنّةَ ... ناري،)، ..استخدام آخر للفعل المضارع، يجسّد حيوية "دخول" يلهب مشاعر القارئ، خاصة وان الشاعرة أتت بتضاد صاعق، رغم إلفته في النصوص الشعرية بل واستهلاكه، الا انه بدى حيويا فاعلا ضمن اشتغالات النص ولغته العامرة ..

كيف تكون النار جنة؟ انه انزياح بديع، صوّر حجم المحنة النفسية والألم، فكانت النار جنة مقارنة بجحيم الفراق والبعد والشوق الملتهب.

(ينفخُ شهوةَ التّشردِ في لهيبِها الأسطوري)، .. في هذا المقطع كان للفعل المضارع دوره ايضا في اضفاء حيوية على المشهد الشعري، من خلال استمرارية النفخ .. فهو لا يتوقف، نفخ يؤجج الشرود والذهول، تشرّد عصي على الوصف .. انه اسطوري.

فأي لهيب في أعماق الشاعرة حتى تعذّر عليها وصفه، ولم تجد له ما يناسبه من الصفات سوى الاسطورية؟ .. انها كلمة تضع السامع في مدارات قصية، هكذا شاءت الشاعرة ان تصوّر لهفتها.

(يتسلّلُ من ظِلِّ قوسِ النّصرِ مَيْساني،)، وهذا فعل رابع، ضمن مجموعة الأفعال المضارعة في القصيدة، حيث ارادت الشاعرة التدرج في تسلل نيسانها / حبيبها، كي تُبقى (ولو أثرا منه) لا شعوريا. فهي تصوّر مشهدا في غاية الألم، تصف فيه كيف يتسلل حبيبها، بعد حضور عقدت عليه آمالها، ثم يذوي ويبتعد بشكل متدرج.

ثالثا: رغم ترميز النص وثرائه الدلالي، الا ان المنحى التأويلي فيه ضل متوازنا لا يتطلب جهدا تؤيليا كبيرا. وهذا ليس نقصا بل ضرورة فرضتها معمارية النص وميكانيكية اللغة. فمثلا من السهل على القارئ فهم السياقاتات اللغوية والبلاغية لعبارة: "قوس النصر" رغم ما تحمل في ثناياها من خزين تأويليي، إذ اتضح من استخدام قوس النصر، مكانة الحبيب، حتى كان هدفا للتنافس بما يتصف من خصائص وسمات تدعو لذلك. فهنا لا بد من التأويل لكنه ليس منغلقا ولا صعبا ولا عصيا على الفهم.

ورغم ان عبارة: "فَجْرِ أنوثَةِ السّنابل"، تستفز الشعور التأويلي للقارئِ، لكن بقليل من التأمل في دلالات اللغة وسياقات النص تفهم، ان مشاعر الأنثى في أول بلوغها مرهفة، تفعل بها اللمسات الرومانسية فعالها، وتضعها في مدار خيال خصب.

رابعا: نقطة اخيرة، ان كثافة الترميز برأيي اقتضتها صعوبة المشهد، مشهد غياب الحبيب / الأحبة / الوطن في ظل غربة قاتلة، وللضرورات أحكامها، وليس هناك أي خلل بنائي بسبب الكثافة الرمزية.

يبقى للنقاد من السيدات والسادة رأيهم النقدي المحترم، وهذه مجرد وجهة نظر وملاحطات اولية لنص باذخ في مشهده الشعري.

شكر وتقدير للجهد الادبي الباذخ الذي صاغ النص، حتى فرض نفسه علينا، فكانت هذه قراءة انطباعية أولية مغامرة. تحياتي للشاعرة الفاضلة الاستاذة ميادة ابو شنب التي نجحت في نصها تصوير الغربة والبعد عن الأحبة والأهل والأوطان، وهي حالة لا يشعر بها سوى مغترب أكتوى بنار الغربة.

***

ماجد الغرباوي