كتابات

ماجد الغرباوي: اللاعب المخادع

كان منذ نعومة اظفاره يهوى الموسيقى، يعشقها، يذوب بسحرها، تجتاحه متعة عارمة، تطرب لها روحه وجوارحه، وطالما تمنى ان يكون عازفا شهيرا. كانت الموسيقى حلمه الذي لا يفارقه، وقد حاول في صغره ان يصنع من علب السكائر آلة يعزف عليها، بعد ان يثبت فوقها بضع خيوط، واستمر يحلم حتى اذا بلغ الخامسة عشر دخل معهدا لتعلّم الموسيقى، حقق فيه نجاحا اثار اعجاب معلمه.

كان المعلم لطيفا حليما، يحب طلابه، فاحبوه، بل ان عليا كان يعشق معلمه لدماثة خلقه، وسعة حلمه. وكان يصغي له ويتودد له. ويوما بعد يوم توطدت العلاقة، وصار علي بمنزلة الولد البار لوالده.

اتسم المعلم بلباقة كبيرة، ونوايا سليمة، ولياقة بدنية عالية. كان محبا للفقراء، يتعاطف مع المحرومين، يتألم لمشاهد البؤس والحرمان. ولا يتوانى عن تقديم يد المساعدة. ومما زاد في تعلق علي به، كان يرى في معلمه غموضا يدهشه، لا يعرف حقيقته، ويتمنى لو يكتشفه يوما ما. فتارة يعتقد وراء هذه الشخصية عبقرية فذة. ومرة يتصوره شخصاً يكتنفه الغموض، لكنه سرعان ما يتراجع ويوبخ نفسه، ما هذه الشكوك الشيطانية؟ هل هناك رجل مثله في اخلاقه وسلوكه؟ وهكذا تحول المعلم الى لغز يتمنى علي ان يحله يوما ما، ويتعرف على حقيقته.

وذات يوم قرر المعلم فجأة ان يكون لاعب سيرك، معتمدا على لياقاته الجسدية، وخفة حركاته. وعندما فاتح علي بالامر استغرب من قرار معلمه، واندهش مما زاد في حيرته، فما علاقة السيرك بالموسيقى؟ غير ان المعلم وما يتمتع به من لباقة اقنع علي بالفكرة، على ان يعملا معا، يقوم الملعم بدور لاعب السيرك، وعلى يعزف الحانا موسيقية تتناسب مع حركات اللاعب، كي يشد انتباه الجمهور، ويمكن اللاعب من تمرير حركاته البهلوانية ببراعة.

ورغم عدم قناعته بالموضوع وافق علي معلمه، واستعد للعمل بعد ان تمرن طويلا، وضبط ايقاع الحركات. وكان المعلم بعد التمرن على مشاهد السيرك وحركاته، يحدّث عليا يوميا عن مستقبل عملهما، وما سيحققانه من النجاح، من اجل مشاريعهما الانسانية. وكان احدهما يحث الاخر على نكران الذات، والتضحية، ونسيان المصالح الشخصية.

حتى اذا بدأ العرض الاول حقق السيرك نجاحا كبيرا، وارباحا عالية، مما شجع المعلم على مضاعفة العمل من اجل تقديم استعراضات اخرى، اكثر جاذبية. اما علي فكان حريصا على تقديم معزوفات موسيقية متناسقة مع حركات معلمه. غير ان المعلم فاجأ علي في الاستعراض الثاني بحركات غير متفق عليها، من اجل شد الجمهور، وما أربك علي عندما كرر المعلم تلك الحركات. حتى ذاع صيته في كل أرجاء المدينة، لكنها حركات لا تليق بالمعلم، لا اقل من وجهة نظر علي، الذي طالما اشاد بمبدئية معلمه امام اصدقائه، وكان يقول دائما: اذا كان هناك شي يفتخر به معلمنا فهو مبدئيته واستقامته. اذن كيف تصدر عنه هذه الحركات؟

المعلم ظل يتفنن في حركاته اكثر، حتى عمد مرة الى ابراز عورته، واحدث ضجة كبيرة داخل السرك، وعلا التصفيق والصياح، فصعق علي، ووقعت آلته الموسيقية من يده، مما اغضب المعلم، فوبخه بعد انتهاء العرض، وعنفه، لكن علي لم يسكت له هذه المرة واخذ يجادله، ويذكره بمبادئه وقيمه التي تربى عليها.

 -فرد عليه المعلم: انت لا تفهم شيئا، انا مضطر لذلك من اجل انجاح المشهد، وكسب ود الجماهير، والاستفادة من ريع استعراضاتنا لخدمة مبادئنا الانسانية.

-لكن هذا لا يبرر لجوئنا لهذا اللون من التصرفات، هكذا رد علي.

-نظر المعلم له نظرة استخفاف، ثم اردف: للاسف انك لا تعرف شي من ابجديات العمل.

يا ولدي السيرك كالسياسية، يعتمد على الخداع، والتشويش على تفكير الناس، وسرقة اعجابهم.واستغلال مشاعرهم.

- وماذا عن القيم الانسانية، وماذا عن الاخلاق؟ هكذا سأل علي ببراءة

- اجاب المعلم ستعلمك التجارب ان هناك مصالح تعلو على المبادئ والاخلاق، فلا تكن ساذجا. وان ما نجنيه من ريع عملنا سنخدم به شريحة واسعة من البؤساء والمعدومين.

قرر علي فورا مقاطعة العمل، والانصراف الى عمل اخر، ومن دون استئذان انسحب من ساحة العرض، وراح من ساعته يبحث عن عمل يسد نفقاته الحياتية. فعمل عامل استنساخ، في احد المكاتب، براتب بسيط، بالكاد يغطي نفقاته اليومية، لكنه كان يشعر بسعادة عارمة، لان موقفه كان مبدئيا، ومنسجما مع قيّمه.

ورغم ذلك كان يتمنى ان يعتذر له معلمه ويعيده للعمل، وظلت تراوده فكرة الاعتذار وهو يستعد لها، ويختار من الكلمات ما هو مناسب لرجل عصامي. وكان يقول من الضروري ان لا اقبل اعتذاره ببساطه، وعليّ ان اقاوم اغراءاته ولو لساعة، هذا احفظ لماء الوجه. ثم يقول: لا لا ربما تضيع الفرصة اذا تشدَدّْت اكثر، علي ان ابقي الباب مفتوحا ... هذه افضل طريقه لكسب ود معلمي من جديد..

وبينما هو جالسا ذات يوم توقفت سيارة فارهة، ونزل منها شاب عرفه ابن المعلم، ذلك الشاب الفقير الحافي، واذا به يستقل ارقى انواع السيارات، فاستعد له علي، بعد ان تيقن انه جاء ليعتذر له نيابة عن ابيه. ورغم ارتباكه بدى متوازنا، قويا، صارما. ورمق الشاب الواقف امامه بنظرة استغراب، مندهشا من منظره وطريقة كلامه، فبدد ابن المعلم الصمت، وسأل علي:

-ماذا تعمل يا علي؟

-عامل استنساخ والحمد لله

-فاطلق ابن المعلم ضحكة مدوية، باستخفاف كبير، وقال:

مبروك لك عملك الجديد!!!

*** 

 بقلم: ماجد الغرباوي

 السبت 29 /01 /2011