كتابات

ماجد الغرباوي: نحو فهم آخر لدور النص في ظهور التطرف الديني

لقد صار النص الديني ذخيرة حية في الصراعات السياسية، واخذ كل فريق يحشد ما لديه من نصوص وروايات لاثبات شرعيته او للطعن بمعارضه. العنف الذي مارسته الحركات الاسلامية كان تجسيدا لرؤى ومفاهيم دينية مثل: (الجهاد، الحاكمية، والجاهلية، وكفر او انحراف السلطات الحاكمة، بل والشعوب المسلمة على بعض الآراء)[1] تمت قراءتها وفقا لفهم هذه الحركات. ولكي نفهم اسباب ظهور العنف علينا دراسة هذه المفاهيم وتحديد مدى تأثيرها على الفكر الحركي للحركات الاسلامية، وتقصي الاسباب الاخرى التي كانت وراء ظهوره على نمط من السلوك من قبل جماعات كان يفترض ان تكون مثالا للتسامح والعفو والرحمة، لأنها وليدة قيم دينية اتسمت بانسانيتها العالية. لكن قبل ذلك نؤكد ان السبب الرئيس وراء العنف والتطرف الديني هو سبب عقائدي فكري، فتكون الاسباب الاخرى اسبابا مساعدة وثانوية، فنحن لا ننكر دور المستوى المعاشي لافراد الحركات الاسلامية - مثلا - في ممارسة العنف لكنه ليس دورا اساسيا، والا فان زعيم القاعدة، اقصد اسامة بن لادن كان مليارديرا معروفا. وينتمي اغلب افراد الحركات الاسلامية الى الطبقة الوسطى، والامر نفسه بالنسبة الى المستويات الدراسية، فرائد البنا الاردني الذي قاد تفجير مدينة الحلة العراقية – مثلا - كان خريج كلية الحقوق، مرفّها، وقد عاش فترة في امريكا[2]، كما ان عمر احمد عبد الله[3] الذي قاد تفجير مسرح في دولة قطر مهندسا الكترونيا ويتقاضى راتبا شهريا عاليا. وايضا ما تبقى من اسباب خارج دائرة الفكر والعقيد فانها اسباب ثانوية قياسا الى السبب الرئيس. وهذا الكلام تؤكده بيانات احصائية ودراسات ميدانية جرت على عينات مختلفة من افراد الحركات الاسلامية المتطرفة، وقد تبين منها ان افراد هذه الحركات يتمتعون بمستويات دراسية وعلمية جيدة، وقد حاز اغلبهم على شهادات اكاديمية تراوحت بين الاعدادية والدكتوراه. وهو مستوى يفترض انه يوفر قدرا لا بأس به من الوعي يحول دون اقتحام الموت والمخاطرة بالارواح، بينما الواقع خلاف ذلك فكثير من العمليات الانتحارية قام بها افراد حازوا على شهادات دراسية متقدمة ويتمتعون بمواقع وظيفية مميزة. مما يدفعنا للتنقيب عن اسباب اخرى لهذه الظاهرة. وينبغي دراسة الفهم العقدي الثاوي وراء اقتحام الموت والزهد بالحياة، رغم الرفاهية التي يتمتعون بها هؤلاء الشباب[4].

الاسباب الفكرية والعقدية

يتصف النص الديني بثرائه الدلالي ومرونته واستجابته لكل القراءات والتفسيرات، مما أغرى الاتجاهات الكلامية والسياسية بتوظيف النص لاثبات شرعيتها، او لنفي الآخر المخالف والمعارض، حتى تشابهت الادلة واستدل كل طرف بنفس الادلة التي استدل بها خصمه السياسي والفكري، بعد قراءتها وتفسيرها وفق توجهاته الفكرية والعقدية والسياسية. فحصلت الاختلافات والتباينات وظهرت الفرق والمذاهب الكلامية والفقهية. وعلى هذه الوتيرة استمرت القراءات والتفسيرات، فهي في كل عصر تقدم (او يفترض ان تقدم) فهما يستمد وجوده من ثقافة المجتمع وحاجاته الفكرية والعقدية. الا ان القراءات راهنا باتت في كثير من الاحيان مزيجا من التراث والحاضر، بل طغى الاول على الثاني، فاصبحت القراءة الجديدة نسخة مشابهة لقراءات تمت في ظرف يختلف زمانيا ومكانيا، وبذلك لم تستوف هذه القراءات شروطها الموضوعية فاحدثت خللا كبيرا في التفكير وانتاج المعرفة. فالقراءات التراثية الراهنة جردت النص من تاريخيته، ولم تراعي اسباب نزوله، ولا تحديد غاياته واهدافه، رغم اهمية كلا الامرين في فعلية وفهم تلك النصوص. فالنص مطلقا صار فعليا ويمارس دوره على كل حال، فنتج عن ذلك قدر كبير من الارتباك بل والشطط في سلوك المسلمين، سيما بعض الحركات الاسلامية التي تطرفت كثيرا في ممارسة العنف باسم الدين والاسلاموفقا لتلك القراءات.

وعندما نتحدث عن النص ذاته يجب عدم اهمال الاتجاهات السياسية ودورها في تطور ووجود القراءات المختلفة للنص الديني. اذ لعبت السياسة دورا وكرست النص لصالح السلطة الحاكمة، كما كان لها دور في اقصاء المعارضة السياسية وتهميشها والتنكيل بها، حتى صار النص مدار كل شيء، والملجأ في كل ازمة سياسية وغيرها. وحينما لا يستجيب النص بشكل كاف يخضع لعمليات تأويل وافتراء بغية تطويعه لصالح هدف ما، سياسي او غير سياسي. حتى اختلط الصحيح بغيره من الاحاديث، وتغلغل المفترى والموضوع والضعيف في وسط الاحاديث الموثقة، والتبس الامر حتى على اصحاب الاختصاص من ذوي الثقافة المحدودة، وصار النص مطلقا حجة شرعية وفقا لبعض الآراء الفقهية فسبب كارثة فكرية واخلاقية وسلوكية، ستبقى تداعياتها تتفاقم ما دامت تلك النصوص تشكل مساحة واسعة من العقل الاسلامي.

ويمكن رصد اول توظيف للنص في هذا المجال (أي مجال حسم الصراعات السياسية) هو احداث السقيفة، حيث روى ابو بكر عن الرسول (ص) قوله: (الائمة من قريش) ليسلب الانصار حقهم في الترشيح لمنصب خلافة المسلمين. ثم صادر ملكية فدك (وهي ارض ورثتها فاطمة الزهراء عن ابيها كما هو مشهور في الروايات التاريخية) برواية (نحن معاشر الانبياء لا نورث)، كما اكد الامام علي حقه بالخلافة بنصوص رويت عن الرسول، بينما انكر رجال السلطة ذلك، فهو مثال للاثبات والانكار بالنص. وبهذا الشكل صار النص الديني ذخيرة حية في الصراعات السياسية. واخذ كل فريق يحشد ما لديه من نصوص وروايات لاثبات شرعيته او للطعن بمعارضه. ولما آلت الخلافة الى معاوية بدأ النص يؤدي دورا جديدا، ليس فقط لتأكيد شرعية الحكم وانما لتزكية الحاكم، وتبرئته، وتجنيبه تداعيات المحاسبة الجماهيرية، وتخويله سلطة الفتك بالمعارضة بعد ملاحقتها وتوجيه التهم اليها. فقد رويت في معاوية روايات وضعته على مستوى رفيع في الدنيا والآخرة، كما رويت روايات تدين الامام علي الخصم السياسي الاول له. وانتشرت بين الناس احاديث لم تكن معروفة من قبل، فثبتت لمعاوية البشارة بالجنة، وكتابة الوحي، وصحبة الرسول، وانه من خيرة المؤمنين[5]..، بينما صار الامام علي يسب على منابر المسلمين وفقا لقرار اموي لمدة ستين عاما، ولم يترك سبه الا في عهد عمر بن عبد العزيز[6]. وكما أدى النص دورا وجوديا لتزكية السلطان المتمثل في معاوية ايضا مارس النص دورا عدميا ينفي ما كان للمعارضة المتمثلة بالحزب الهاشمي او الشيعي من صفات ايجابية. وليس الامر مقتصرا على زمن الامويين والعباسيين، بل ما زال النص فاعلا مؤثرا في المعادلات السياسية والاجتماعية والدينية، وما زال يلعب دورا في تأجيج نار الفتن، وشرعنة ممارسات واعمال ابعد ما تكون عن قيم الدين والانسانية.

وفي هذا الاتجاه، أي اتجاه تكريس شرعية سلطة الامويين، انبثق جدل كبير بين المسلمين حول فاعل الكبيرة وما هو الموقف الشرعي منه؟ هل هو مؤمن؟ ام كافر؟ فانتهى الجدل الى نشوء مذهب الارجاء الذي راح ينظـّر لنظرية ارجاء امر فاعل الكبيرة الى الله. واستطاعت هذه المفاهيم، التي هي نتاج قراءات متحيزة للنص الديني، نزع فتيل المعارضة والاحتجاج على ارتكاب الكبائر من قبل السلطان الاموي المعروف باسرافه الاخلاقي والادبي. ولم يقف الجدل عند حد فاعل الكبيرة وانما امتد الى مفاهيم اخرى تناولت حقيقة الايمان، صفات الباري، امكانية رؤية الله تعالى يوم القيامة، مسألة خلق القرآن. والاخطر كان مسألة الجبر والاختيار، عندما صيغت المسألة بسؤال: (هل الانسان مخير ام مسير ومجبر في اعماله وسلوكه). فاستطاع الاتجاه الاموي اثبات الجبر، وان الانسان مجبر في افعاله، ولما كان مجبرا فليس من العدل مؤاخذة او محاسبة عمل هو مجبر عليه، وما يصدر (وهذا هو اللازم المهم في المسألة) عن الخليفة والسلطان الحاكم، هو مجبر عليه، ولا حول ولا قوة له في رده، فليس من حق الرعية محاسبته. وربما ليس من حق الباري تعالى ايضا محاسبته، لانه انسان مجبر، وهو مجرد آلة تنفذ ما يصدر لها من اوامر. بل على العكس من ذلك ربما يؤجر على افعاله القبيحة وتجاوزاته باعتباره ينفذ الارادة الالهية الذي هو مجبور عليها. ولم ينته الجدل حول مسالة الجبر والاختيار الا بظهور فرقة الجبرية في مقابل فرقة المرجئة. فقالت الجبرية ان افعال العباد مقدرة ازلا وانها تصدر عن ارادة الهية لا يتدخل بها العبد، كما قالت القدرية بحرية الارادة وان الانسان خالق افعاله حتى يكون للجزاء الاخروي معنى وتعليل، وقد اطلقت الاخيرة على المعتزلة[7].وبهذا الشكل كانت القراءات والتفسيرات الكلامية للنص الديني تلعب دورا كبيرا في تكريس سلطة الحاكم السياسي وتبيح له ممارسة العنف مع المعارضة السياسية، وتسمح له بتعذيبهم ونفيهم وابعادهم وقتلهم.

والجدير بالذكر ان المسائل الكلامية المتقدمة كانت نواة تشكل الاتجاهات الكلامية في الاسلام، وعلى اساسها تكونت الفرق والمذاهب. فبالنسبة لمسالة مرتكب الكبيرة، التي قال فيها الاتجاه الاموي بالارجاء، ذهب الخوارج الى ان فاعل الكبيرة كافر، لان الايمان قول وعمل. بينما كانت المسألة ذاتها البداية لاعتزال المعتزلة والقول برأي ثالث هو ان فاعل الكبيرة منافق ومرتكب لكبيرة يستحق عليها العقاب بل الخلود في النار كما ذهب الى ذلك الخوارج، لكنه لا يخرج عن ربقة الاسلام، فلا ينفى الايمان عنه بسبب كبيرته، لكن ايضا لا ينفى العقاب الاخروي. وهكذا تشعبت الآراء والاتجاهات، وظهرت مفاهيم جديدة طالما اختلف حولها المسلمون، وعصفت بوحدتهم وفتت تماسكهم. وراح ضحية الجدل الكلامي في المسائل المتقدمة عدد كبير من المسلمين الذين هم ضحايا العنف السياسي والكلامي معا، او ضحايا الرأي والكلمة.

لسنا بصدد كتابة تاريخ الفكر الكلامي عند المسلمين او تقصي المذاهب الكلامية والاتجاهات الفكرية، وانما نهدف الى بيان دور الفكر والعقيدة في ظهور الحركات الاسلامية المتطرفة فاقتضى ذلك العودة السريعة الى الوراء للتعرف على خلفية المسألة تاريخيا. اذ تبين ان تداعيات الخلافات الكلامية والمذهبية بين المسلمين ما زالت حية فاعلة بمستويات مختلفة. وما زال امتداد تلك الافكار يتحكم بالفعل السياسي حاضرا ويوجهه بنفس الاتجاه. وليس هناك دليل ادل من سلوك المسلمين اليوم الذي يتسم بالعداء والكراهية وبغض الآخر وتكفيره والاستهانة به وتهميشه. وهي الطريقة ذاتها في تعامل الفرق والمذاهب الاسلامية فيما بينها في القرون الخمسة الاولى. ولا نجداستثناء الا لدى الليبراليين الذين تخلوا عن قيم الفرقة الناجية، وقيم احتكار الحقيقة. واما عامة المسلمين سيما الحركات الاسلامية فهي اشد ظلامية وسوداوية. والمفارقة ان ادبيات هذه الحركات، سيما الحركات التي تمثل الوعي الديني، مليئة بمفاهيم الوحدة الاسلامية وعدم التفرقة بين المسلمين الا ان عملهاخلاف ذلك، فبعض الحركات الاسلامية تستبيح دماء المسلمين لا لشيء سوى انهم يعتنقون مذهبا آخر في الفقه والعقيدة. لذا نؤكد ثانية ثمة مفاهيم ورؤى فكرية وعقدية ثاوية في لا وعي الحركات الاسلامية التي تشبعت بكراهية الآخر والحقد عليه وتكفيره والتخطيط للاطاحة به وتدميره واغتياله. ولولا تلك المفاهيم والبنى لا يتحرك الانسان باتجاه الموت بهذا القدر من الاستهانة بالحياة وعدم التفكير بتداعيات الفعل الارهابي على مستقبل المسلمين والعقيدة الدينية. من هنا علينا متابعة تلك المفاهيم في هذا الاطار وتقصي مدياتها وطاقتها وقدراتها الفعلية. فمن تلك المفاهيم التي ما زالت فاعلة ومؤثرة، مفهوم الحاكمية، مفهوم الجاهلية، مفهوم النهي عن المنكر، مفهوم المرتد، مفهوم الفرقة الناجية، مفهوم الجهاد، و....

***

ماجد الغرباوي - كاتب وباحث

...............................

[1] - تحديات العنف، ماجد الغرباوي، 2009م، دار العارف، بيروت – لبنان، والحضارية للابحاث، بغداد – العراق، ص270-282.

[2]- انظر صحيفة الشرق الاوسط في 13/ 3/ 2005.

[3]- المصدر نفسه 23/3/2005.

[4]- ابراهيم، د. سعد الدين، مصدر سابق، ص 400. حيث يقول عن افراد الحركات الاسلامية المصرية:

اولا: انهم شبان، فحوالي 90% من الذين شاركوا في تلك الاحداث العنيفة[4] كانوا في العشرينات والثلاثينات من اعمارهم.

ثانيا: انهم ممن تلقوا تعليما عاليا. فحوالي 80% من هؤلاء المتطرفين كانوا اما طلبة جامعة او خريجي جامعة.

ثالثا: انهم متفوقون دراسيا ولديهم دوافع قوية. فاكثر من نصف هؤلاء كانوا طلبة او متخرجين من الكليات ومجالات التخصص الراقية في الجامعات المصرية مثل الطب والهندسة والصيدلة والكلية الفنية العسكرية. ومن المعروف ان مثل هذه الكليات لا يدخلها الا الطلبة المتفوقون في امتحانات الثانوية العامة في مصر.

رابعا: انهم ينتمون الى الطبقة الوسطى الدنيا. فاكثر من 70% منهم ينحدرون من اصول اجتماعية متواضعة، وان لم تكن فقيرة. كما ان معظمهم يمثلون اول جيل يتلقى تعليما جامعيا في اسرهم.

خامسا: انهم ينتمون الى اصول ريفية او من المدن الصغيرة في الاقاليم، الا انهم حين اصبحوا متطرفين كانوا يعيشون في المدن المصرية الكبرى حيث توجد هذه الجماعات المتطرفة.

[5]- كرواية: «الأمناء ثلاثة انا وجبريل ومعاوية»، انظر: نور الدين عتر، منهج النقد في علوم الحديث، ص 302.

[6]- كما في رواية الاعمش. قال: لما قدم ابو هريرة العراق مع معاوية عام الجماعة جاء إلى مسجد الكوفة، فلما رأى كثر من استقبله من الناس جثا على ركبتيه ثم ضرب صلعته مراراً وقال: يا اهل العراق أتزعمون اني اكذب على الله ورسوله واحرق نفسي بالنار؟ والله قد سمعت رسول الله يقول: «ان لكل نبي حرماً وان المدينة حرمي، فمن احدث فيها حدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس اجمعين». قال: واشهد ان علياً احدث فيها؟؟. فلما بلغ معاوية قوله اجازه واكرمه وولاّه امارة المدينة. انظر: شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد المعتزلي، ج4، ص 67 «فصل في ذكر الاحاديث الموضوعة في الإمام علي».

والروايتان مجرد امثلة لروايات كثيرة وظفت لتكريس السلطة او نفي المعارضة.

[7]- ابو ريان، د. محمد علي، تاريخ الفكر الفلسفي في الاسلام، بيروت، دار النهضة العربية، ط 2، ص 45.