كتابات

ماجد الغرباوي: الحركات الإسلامية والقتل المقدس

الجهاد وفق المنطق القرآني عمل لا يضاهيه عمل متى اكتملت شروطه الموضوعية، لانه تضحية بالمال والنفس من اجل القيم والمبادئ وحماية الوطن والدين. وقد جعل الله تعالى للمجاهدين درجة سامية، لا ترقى لها الاعمال. كما ان الجهاد اقصر الطرق الى الجنة، واقربها الى مرضاة الله تعالى. وقد حثت النصوص على الجهاد، وأنبـّت القاعدين والمتقاعسين ورمتهم بشتى الاوصاف. بل نسبت بعض النصوص الذل والانحطاط الى ترك الجهاد، (فمن ترك الجهاد ألبسه الله ذلا وفقرا في معيشته ومحقا في دينه)[1]. ويكفي ان الله فضل المجاهدين درجة ورضا عنهم وارضاهم (انظر آيات الجهاد). ولا شك في كل ذلك، ولا نقاش في منزلته وهو كما مر من مصاديق القوة المشروعة، للدفاع عن النفس. ولكن المشكلة في صدقية الجهاد مع عدم اكتمال شروطه الموضوعية. فالجهاد ليس واجبا كالصلاة والصوم يجب على الانسان القيام به على كل حال، وانما حالة استثنائية تتطلبها الضرورة ومن ثم تعود الحياة الى طبيعتها. مما يعني ان الجهاد متوقف على فعلية موضوعه المتوقفة فعليته على مجموعة قيود وشرائط. وسيأتي ان شاء الله تعالى تفصيل ذلك. وليس الامر مقتصرا على الاسلام، فروح الجهاد التي هي الدفاع عن النفس والمال والوطن، امر لا يختلف فيه اثناء، وتفرضه كل القيم والقوانين والانظمة والدول.

وقد اختلف المسلمون في تحديد موضوع الجهاد، هل هو مطلق الكافر او الكافر المحارب، وهل هو مطلق المشرك او المشرك المحارب. وسيأتي تفصيلات الموضوع في الفصل المختص، لكن نشير هنا الى دور مفهوم الجهاد في تطرف بعض الحركات الاسلامية. وهي الحركات التي اتخذت من فريضة الجهاد ذريعة لشن حرب على عدد من حكومات دول مسلمة (بل وشعوب مسلمة كما يفعل المتطرفون بالشعب العراقي اليوم تحت ذرائع واهية لا تمت الى الدين والانسانية والاخلاق )، اما اعلان الجهاد ضد حكومات بلدان مسلمة فلان السلطات فيها (بنظر هذه الحركات) لا تحكم بما انزل الله، ومن لم يحكم بما انزل الله فاولئك هم الكافرون، الظالمون، الفاسقون. وعنوان الكفر يكفي وفقا لاراء هذه الحركات في تنجـّز وفعلية فريضة الجهاد. كما ان الغرب كافر، بل وبعضه يصدق انه محارب، فيجوز شن هجمات مسلحة ضده. واما بعض الشعوب المسلمة كما بالنسبة الى الشعب العراقي فلانه ساعد على اسقاط الطاغية، ولانه يختلف مذهبيا مع تلك الحركات!. اذن فحكم الجهاد بنظر هذه الحركات فعلي لفعلية موضوعه بسبب الكفر الواقعي او بسبب عدم الحكم بما انزل الله.

وظل الجهاد امنية تداعب احلام الحركات الاسلامية، وهدف تطمح الى تحقيقه بأي ثمن. الا ان موقفها اختلف، تبعا للرأي الفقيهي الذي تتبناه كل واحدة منها، فهناك من يرى فعلية الجهاد على كل حال، وهناك من يلتزم بتوفر شروطه الموضوعية. لكن المؤكد ان جميع الحركات الاسلامية تطمح في تفعيل الجهاد لاستثماره في تعبئة طاقات الامة وتوظيفها باتجاه الاهداف التي تؤمن بها، فهي حركات ايديولوجية ترتكز الى المشاعر والاحاسيس اكثر من العقل والعقلانية، واذا لم يصدق هذا الحكم راهنا على بعضها فهو بلا شك يصدق على اغلبها في الزمن الماضي. فللجهاد خصوصيته في ثراء المخيال الحركي وقدرته على دفع العاملين نحو العمل والتضحية والتخلي عن النقد والمخالفة والتمرد. وهو ما تريده الحركات الاسلامية لضمان استمرارها وتحقيق اهدافها. لذا كان الجهاد حاضرا باستمرار في احاديث وادبيات ومنتديات الحركات الاسلامية، فالهب مشاعرها واجج احاسيسها، الى درجة بات طموحا لكل فرد بحد ذاته، وليس مجرد وسيلة لتحقيق غايات اكبر من القتل. وقد تشكلت حركات اسلامية على قاعدة وجوب الجهاد، وكردة فعل على تقاعس الحركات والمسلمين عنه. كما بالنسبة الى حركة الجهاد المصرية.

وقد نظرت ادبيات الحركات الاسلامية للجهاد واجتهدت في سعة موضوعه ليشمل الانظمة والحكومات. فليس موضوع الجهاد عندها الكافر او المشرك المحارب، بل ولا مطلق الكافر او المشرك، وانما يشمل موضوع الجهاد الحكومات والانظمة الفاسدة ايضا. أي ان مكافحة الانظمة الظالمة والثورة ضدها ليست من مصاديق الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وانما من مصاديق الجهاد. والجهاد هو احد ادوات الدعوة الاسلامية لدى بعض الفقهاء، وليس هناك طولية بينه وبين الدعوة. خلافا للرأي الآخر  - كما سيأتي  - القائل بوجود طولية بين الجهاد والدعوة. وعليه لا يجوز وفقا للرأى الثاني القيام بالجهاد قبل الدعوة والانذار والتنبيه والنصح والمجادلة بالتي هي احسن. او بكلمة اخرى الجهاد هو المرحلة الاخيرة بعد نفاد الوسائل السلمية حينما يتعرض الامن الاسلامي للخطر. وليس الجهاد واجبا على كل حال. ولكي نطلع على رأي الحركات الاسلامية نعود ثانية الى كتاب معالم في الطريق، انجيل الحركات الاسلامية، لنقف على رأيها في الجهاد. فقد استهل سيد قطب فصل (الجهاد في سبيل الله) بملخص فقهي للامام ابن القيم الجوزية، في كتابه زاد المعاد[2]. وفيه يظهر الموقف النهائي للرسول (ص) من الآخر موقفا صارما عنيفا بلا رحمة ولا هوادة، وان الجهاد اداة الدعوة الى الله، سيما بعد آية السيف، دون ان يفصل في حيثيات القتال او يذكر اسبابه وخلفياته، ويبدو كأنه جهاد ابتدائي، وانه في نهاية المطاف وسيلة الاسلام الى الله، وموقفه الوحيد امام مخالفيه. وبهذا الشكل تتلاشى شروط الجهاد، ويصبح فعليا في كل زمان ومكان، وبهذه الاستعارة لرأي فقيه سني متشدد نحج سيد قطب في اقحام (الثورة ضد الحكام) في موضوع الجهاد. ولما كان الجهاد فعليا فالثورة على السلطات الحاكمة بغير ما انزل الله فعلي ايضا. يقول قطب: (الضبط التشريعي للعلاقة بين المجتمع المسلم وسائر المجتمعات الاخرى، على النحو الملحوظ في ذلك التلخيص الجيد الذي نقلناه عن زاد المعاد، وقيام ذلك الضبط على اساس ان الاسلام لله هو الاصل العالمي الذي على البشرية كلها ان تفيء اليه، او ان تسالمه بجملتها، فلا تقف لدعوته باي حائل من نظام سياسي، او قوة مادية، وان تخلي بينه وبين كل فرد، يختاره اولا يختاره بمطلق ارادته، ولكن لا يقاومه ولا يحاربه، فان فعل ذلك احد كان على الاسلام ان يقاتله حتى يقتله او حتى يعلن استسلامه.

ان هذا الدين اعلان عام لتحرير الانسان في الارض من العبودية للعباد، ومن العبودية لهواه ايضا، وهي من العبودية للعباد، وذلك باعلان ربوبية الله وحده للعالمين معناها: الثورة الشاملة على حاكمية البشر في كل صورها واشكالها وانظمتها واوضاعها، والتمرد الكامل على كل وضع في ارجاء الارض، الحكم فهيا للبشر بصورة من الصور .. او بتعبير آخر مرادف: الالوهية فيه للبشر في صورة من الصور.. وذلك ان الحكم الذي مرده فيه الى البشر، ومصدر السلطات فيه هم البشر، هو تأليه للبشر، يجعل بعضهم لبعض اربابا من دون الله. ان هذا الاعلان معناه انتزاع سلطان الله المغتصب ورده الى الله، وطرد المغتصبين له، الذين يحكمون الناس بشرائع من عند انفسهم، فيقومون مقام الارباب، ويقوم الناس منهم مكان العبيد ... ان معناه تحطيم مملكة البشر لاقامة مملكة الله في الارض.قيام مملكة الله في الارض، وازالة مملكة البشر وانتزاع السلطان من ايدي مغتصبيه من العباد ورده الى الله وحده .. وسيادة الشريعة الالهية وحدها والغاء القوانين البشرية ..  كل اولئك لا يتم بمجرد التبليغ والبيان، لان المتسلط على رقاب العباد، والمغتصبين لسلطان الله في الارض، لا يسلمون في سلطانهم بمجرد التبليغ والبيان، والا فما كان أيسر عمل الرسل في اقرار دين الله في الارض، وهذا عكس ما عرفه تاريخ الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، وتاريخ هذا الدين على ممر الاجيال)[3].

وبهذا الاسلوب التعبوي يواصل سيد قطب موضوع الجهاد، فلا يترك مجالا للتفكر او التردد، حتى انه يصف القائلين بالحرب الدفاعية بالمنهزمين، والخائفين الذين يخشون المستشرقين[4]. والكتاب لا يشتمل على استدلال علمي او فقهي، وانما مجرد خطابة ادبية تحريضية تلهب المشاعر والاحاسيس، ولا شك في مصداقية الرجل واخلاصه، الا ان للجهاد شروطه وموضوعه المحدد المعروف لدى الفقهاء. ثم ان مناسبات الحكم والموضوع واحكام الظروف الزمانية والمكانية تلعب دورا كبيرا في تحديد فعلية الحكم الشرعي. فمن قال ان الجهاد في ظل الراهن الاسلامي واجب، وبالشكل الذي يتصوره سيد قطب بحيث يعلن حربا على الجميع ولا يستثني احدا؟. فهناك فرق كبير بين ظروف الدعوة وظرفنا الحالي، اذ كان الرسول يدافع عن الدين الجديد وعن جماعة المؤمنين الذين يتربص بهم الاعداء في كل مكان. بينما تجد الدعوة الاسلامية الان وسائل اكثر تأثيرا وفاعلية لو احسنت استخدامها. فالجهاد مشروط باعلان الحرب على المسلمين. والا فالمسؤولية مناطة بالوسائل السلمية. وحتى الحرب ورفع السلاح لها شروطها، واولها التكافؤ من حيث القدرات القتالية. لكن سيد قطب لا يرتضى هذا النمط من التفكير، وانما يريدها حربا شاملة فـ (الذي يدرك طبيعة هذا الدين على النحو المتقدم يدرك معها حتمية الانطلاق الحركي للاسلام في صورة الجهاد بالسيف، الى جانب الجهاد بالبيان، ويدرك ان ذلك لم يكن حركة دفاعية، بالمعنى الضيق الذي يفهم اليوم من اصطلاح الحرب الدفاعية، كما يريد المهزومون امام ضغط الواقع الحاضر وامام هجوم المستشرقين الماكر ان يصوروا حركة الجهاد في الاسلام، اما كان حركة اندفاع وانطلاق لتحرير الانسان في الارض .. بوسائل مكافئة لكل جوانب الواقع البشري، وفي مراحل محددة لكل مرحلة منها وسائلها المتجددة...)[5].

وقد نجحت ثقافة سيد قطب في وجود جيل من الاسلاميين المؤمنين بافكاره ونظرياته، وراحت تصر على ممارسة العنف كاسلوب وحيد لازالة الحكومات والانظمة السياسية في المنطقة، وقيام الدولة الدينية، ولمحاربة الفساد في العالم. ففي الوقت الذي تخلت فيه بعض الحركات الاسلامية عن منطق العنف، ازداد بعضها الآخر في تطرفه، فلم يجد سوى السيف وسيلة لتحقيق اهدافه الدعوية، اقتداء بمنطق سيد قطب في كتابه معالم في الطريق. ففي شريط تسيجيلي نسبته وكالات الانباء الى ايمن الظواهري الرجل الثاني في تنظيم (القاعدة) يستهزئ فيه بالاساليب السلمية، ويحث الاسلاميين على حمل السلاح في تحقيق اهدافهم السياسية والدينية، ويدعوهم الى ازاحة الحكام بالسيف، لا بالاساليب السلمية وانما بالسيف والجهاد فقط[6]. وليس الامر متوقف على حركة او شخص واحد، بل كل الحركات الاسلامية التي تتبنى الحاكمية كما يفهمها المودودي وسيد قطب، تفضي الى وجوب ممارسة العنف ضد الحكومات القائمة. أي (ينتج عن فكرة الحاكمية، تكفير النظام القائم، وتكفير الحاكم والخروج عليه، وجواز قتاله، واغتنام اموال الدولة، ومحاربة الجيش والبوليس، واعتبار الخدمة فيهما كفرا. فلا طاعة الا لامام، ويجب عصيان امارة الكفر والسفه والجاهلية. تؤدي فكرة الحاكمية اذن الى تقويض شرعية النظام القائم. الحاكمية في نقطة البداية والخروج على النظام هي النتيجة. وهو الاستدلال المتبع في الجماعات الجذرية التي ينقلب فيها الوعي الديني الى وعي سياسي، مثل جماعة الجهاد)[7].

وتعتبر حركة الجهاد في مصر اوفى الحركات الاسلامية لفكر سيد قطب في الجهاد. وقد تقدم في الفصل السابق لمحة موجزة عن تاريخ هذه الحركة. اذ قامت الحركة على احياء فريضة الجهاد بعد ان تخلى عنها المسلمون، من هنا سمى محمد عبد السلام فرج كتابه عن فرضية الجهاد: (الفريضة الغائبة). للتدليل على غياب الجهاد او تغييبه. ويعتبر كتاب الفريضة الغائبة زبور الحركة. وقد تأثر به اعضاء التنظيم رغم صغر حجمه.

يؤكد صاحب الكتاب على فعلية الجهاد، واستشهد لاقواله بنصوص من الكتاب الكريم واقوال الرسول (ص)، اضافة الى خزين التراث. والمتحصل من الكتاب ان الجهاد هو طريق الدعوة الى الاسلام، وهو اسلوب المجاهدين في تحرير البلدان الاسلامية من سلطة الحكومات التي لا تحكم بما انزل الله، وليس امام الحركة الاسلامية سوى الجهاد لتحقيق اهدافها في اقامة حكومة اسلامية. يقول محمد عبد السلام فرج: (اننا نهدف الى اقامة الدولة الاسلامية باسلوب الجهاد وبقوة السلاح)[8].

ويرد صاحب الكتاب على جميع الشبهات التي تريد تأجيل الجهاد، او تدعو الى اعتماد الاساليب السلمية في التغيير، ونستعرض هنا رده على تلك الآراء رغم طولها، ليتضح مدى اصرار الحركة على فريضة الجهاد، ورفضها لكل الاساليب السلمية، اذ يستعرض الكاتب في كل نقطة ملخصا للرأى الآخر في المسالة او الشبهة كما يسميها، ثم يبين رده عليها[9]. وفكر حركة الجهاد المصري، او فكر الفريضة الغائبة، باتت تتبناه كل الحركات الاسلامية المتطرفة سيما تنظيم القاعدة وما تشعب عنها من مجموعات وحركات وتنظيمات، كجماعة الزرقاوي (تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين)، وانصار السنة، وجند محمد، وغيره. أي اننا باستعراض ما جاء في كتاب الفريضة الغائبة سنلخص بالحقيقة فكر جميع الحركات المتطرفة، فهو يغنينا عن تتبع كل الحركات منفصلة بعضها عن البعض الاخر:

1 - لا يمكن اقامة الدولة الاسلامية عن طريق الجمعيات الخيرية خاصة وانها تحت اشراف سيطرة الدولة وتحت سيطرة السلطة. في رده على من يعتقد بامكانية اقامة الدولة الاسلامية انطلاقا من الجمعيات الخيرية التابعة للدولة والتي تحث الناس على اقامة الصلاة وايتاء الزكاة، وعلى فعل الخير فكلها اوامر من الله لا يمكن التفريط فيها. ففي رأي المؤلف: طريق مسدود، ولا مجال للتفكير بهذا الطريق[10].

2 - يمكن اقامة الدولة الاسلامية عن طريق طاعة الله وتربية المسلمين، وكلما اجتهد المسلمون في العبادة صفت سرائرهم، اذ كل ما يحيط بهم من شرور انما نتج عن ذنوبهم وسيئات اعمالهم، فمن جنس الاعمال سلط الله عليهم حكامهم.

يقول: في الحقيقة هذا الطريق لا ينسخ طريق الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وطريق الجهاد. فالجهاد هو اعلى درجات الطاعة، وركن الاسلام الركين، وذروة سنام الاسلام، ومن ضمن الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر أي مواجهة الحكام وجها لوجه. ومن يرى ذلك الطريق قائما انه لا يفهم دولة الاسلام فاراد ان يستبدل بها فلسفات غربية او انه جبان لا يقف بصلابة مع الحق في مواجهة الباطل، ومع الله في مواجهة الحكام. ويذكر المؤلف الحكمة المأثورة عن مالك بن انس التي تدعم هذا الرأى وهي (انا الله ملك الملوك، قلوب الملوك بيدي فمن أطاعني جعلته عليه رحمة ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة فلا تشغلوا انفسكم بسبب الملوك ولكن توبوا الي أعطفهم عليكم) وحديث الرسول (من لم يغز او تحدث نفسه بالغزوات مات ميتة الجاهلية) وكذلك حديث (افضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)[11].

3 - اما قيام الحزب الاسلامي فليس طريقا لاقامة الدولة الاسلامية، فهو كالاحزاب السياسية الاخرى، يزايد على الجمعيات الخيرية في آرائها ومناهجها، وبالتالي فانه يساعد على تدعيمها وترسيخ قواعدها عن طريق الاشتراك في عضوية المجالس التشريعية التي تشرع بغير ما انزل ال[12]له.

4 - اما الاجتهاد من اجل الحصول على المناصب حتى تمتلئ الدولة بالطبيب المسلم والمهندس المسلم والقاضي المسلم والجندي المسلم... وبالتالي يسقط نظام الكفر من تلقاء نفسه دون جهد وتقدم دولة الاسلام فهو من ضرب الخيال او المزاحِ. فمهما بلغ الامر من تربية كوادر اسلامية للدولة الا انهم سيظلون عاملين فيها ومن نباتها، ولن يصل الامر الى ان تصل شخصية اسلامية أي منصب قيادي الا اذا كانت موالية للنظام فبدل من ان تبتلع الكوادر المسلمة الدولة، تنتهي الدولة الى ابتلاعهم[13].

5 - اما الدعوة من اجل تكوين قاعدة عريضة شعبية تستطيع ان تطالب بالاسلام نظاما وشريعة وكبديل عن الجهاد فانها لا تقيم الدولة الاسلامية، لان الذي سيقيمها هي القلة المؤمنة، الجيل القرآنى الجديد، الصفوة المصطفاة، والقرآن يدين الكثرة، ويؤثر الكيف على الكم. وكيف تنجح الدعوة وتحصل على هذه القاعدة العريضة واجهزة الاعلام في يد الدولة في حين ان الوثوب الى السلطة يمكن الدعاة من الدعوة الى الله وتكوين القاعدة العريضة من خلال السيطرة على اجهزة الدولة، فلا يجب انتظار ان يكون الناس مسلمين حتى تقام الدولة الاسلامية، لان الدولة الاسلامية هي الطريق الذي من خلاله يستطيع الناس ان يكونوا مسلمين. فالاسلام ليس دينا عاجزا او ناقصا بل هو دين عملي وصالح للتطبيق وقادر على قيادة المسلم والكافر والفاسق والصالح والعالم والجاهل. واذا كان الناس قادرين على يعيشوا تحت حكم الكفر والظلم فانهم يكونون أقدر على ان يعيشوا تحت حكم الايمان والعدل. ولا يعني ذلك التوقف عن الدعوة، دعوة الناس الى الاسلام لان الاساس هو اخذ الاسلام ككل، انما الحذر ممن يريدون اخذ جزء من الاسلام وهو الدعوة دون الجزء الآخر وهو الجهاد.

ويذكر المؤلف بعض آيات تؤيد الكيف على الكم مثل: (وقليل من عبادي الشكور)، (وان تتبع اكثر من في الارض يضلوك عن سبيل الله)، (وما اكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين)، (وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة باذن الله)، (ويوم حنين اذ اعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا، وضاقت عليكم الارض بما وجبت). وكذلك يذكر حديث الرسول: (ولينزعن الله الهيبة من قلوب اعدائكم وليقذفن في قلوبكم الوهن) فلما سئل: او من قلة نحن يومئذ يا رسول الله!؟ اجاب ( بل انتم يومئذ كثير، ولكن غثاء كغثاء السيل). ويستشهد على امكان قيام الدعوة بعد الحصول الى السلطة بسورة (اذا جاء نصر الله والفتح، ورأيت الناس يدخلون في دين الله افواجا). ولتحديد انواع الهجرة يستشهد المؤلف بالحديث المشهور (فمن كانت هجرته الى الله ورسوله كانت هجرته الى الله ورسوله، ومن كانت هجرته الى دنيا يصيبها او امرأة ينكحها فهجرته ال ما هاجر اليه). ويستشهد بوجوب القتال كطريق لاقامة الدولة الاسلامية بآيتين (كتب عليكم القتال وهو كره لكم، وعسى ان تكرهوا شيئا وهو خير لكم، وعسى ان تحبوا شيئا وهو شر لكم)، (قاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله)[14]

6 - اما الهجرة الى بلد آخر واقامة الدولة هناك ثم العودة مرة اخرى فاتحين، فان الاقرب ان يقيموا الدولة الاسلامية في بلدهم ثم يهاجروا الى غيرها غازين خارجين من بلدهم فاتحين. ان الهجرة من بلاد المسلمين غير شرعية لان الهجرة لغة هي ترك الشيء الى غيره. واصطلاحا ترك ما نهى الله عنه، والهجرة في الاسلام على نوعين: الاول، الانتقال من دار الخوف الى دار الامان، كهجرة المسلمين الى الحبشة وهجرتهم من مكة الى المدينة في بداية الاسلام. والثاني، الهجرة من دار الكفر الى دار الايمان مثل استقرار الرسول في المدينة وهجرة المسلمين اليه وهو النموذج الذي اخذه البعض (التكفير والهجرة) بالهجرة الى الجبل ثم العودة الى الوادي وكلقاء فرعون كما التقى به موسى من قبل ثم يخسف الله بفرعون وجنوده الارض، وكلها شطحات ناتجة عن ترك الاسلوب الصحيح لاقامة الدولة الاسلامية وهو اسلوب القتال[15].

7 - والانشغال بطلب العلم كطريق لاقامة الدولة الاسلامية، فالعلم اساس الجهاد ولا يمكن الجهاد على غير علم، والعلم فريضة على آية حال لا يعني ترك امر شرعي من اجل امر شرعي آخر، فالجهاد كالعلم، كلاهما امران شرعيان، وكيف يمكن ترك فرض العين وهو الجهاد من اجل فرض الكفاية وهو العلم؟ وكيف يمكن التمسك بالسنن او الدعوة اليها وترك فرض الجهاد؟ وكيف لا يدرك من يتعمق في العلم فريضة الجهاد وعقوبة تأخيره او التقصير فيه؟ لا يمكن ان يكون العلم جهادا بديلا عن الجهاد لان الجهاد هو القتال بل يمكن ان يتم الجهاد دون علم وتفقه اذا ما نوى الانسان الشهادة واستشهد قبل ان تتاح له الفرصة ويسنح له الوقت للعلم. ولما كان العلم يقتضي العمل فانه لا يمكن العلم بفريضة الجهاد دون العمل بها كالعلم بالصلاة يقتضى الصلاة، والعلم بالصيام يقتضي الصيام. وليست احكام الجهاد صعبة الفهم لان كل احكام الاسلام سهلة المنال ومنها احكام الجهاد، والعلم بها ممكن في وقت قصير، ومن اراد ان يزداد فله ما اراد، العلم متاح للجميع في أي وقت يشاء العالم. اما الجهاد فلا يحتاج الى تأخير بحجة طلب العلم، فالعلم لا مدة له، وتأخير الجهاد بحجة طلب العلم هو في حد ذاته جهل، لم يكن المجاهدون الاوائل الذين فتحوا البلاد علماء، ولم يحتجوا بطلب العلم على تأخير الجهاد ولكن العلم لديهم علم الحديث وعلم الفقه وأصوله، ولقد انتصر الاسلام على ايديهم ولم ينتصر على ايدي علماء الازهر، حملة العلم يوم ان دخل نابليون وجنوده صحن الازهر وداسه بالخيل والنعال ولم يستطع علماء العلم امام ذلك شيئا. فالعلم ليس هو السلاح الذي يواجه به المسلمون الكفار بل القتال. وذلك لا يعني تحقير العلم بل يعني انه لا يمكن استبدال القتال به، والقتال في الاسلام تنفيذ لشرع الله، فقد كان العذاب ينزل على الامم السابقة مباشرة من الله في حين انه ينزل على الكفار بقتال المسلمين لهم دون ان يتدخل الله في السنن الكونية كما كان الحال قبل الاسلام. والقتال ضد الكفار، والامام الكافر اولى بالقتال، فالكفر هذا يعني المعصية، والا فانه لا ينعقد لكافر ولو طرأ على الامام الكفر وجب عزله، وكذلك لو ترك اقامة الصلوات او الدعاء اليها (لو طرأ عليه كفر او تغير للشرع او بدعة خرج عن حكم الولاية وسقطت طاعته، ووجب على المسلمين القيام عليه وخلعه وتنصيب امام عادل ان امكنهم. ويستشهد المؤلف لاثبات القتال كفريضة بآية (كتب عليكم القتال)، وكذلك (قاتلوهم يعذبهم الله بايديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين). كما يستشهد على وجوب الخروج على الحاكم بحديث (ان تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهانا وبواحا). ويستشهد برأي القاضي عياض في قوله باجماع العلماء على ان الامامة لا تنعقد لكافر. وينتهي بنص لابن تيمية مؤداه ان كل طائفة خرجت عن شريعة من شرائع الاسلام الظاهر المتواترة فانه يجب قتلها باتفاق ائمة المسلمين وان تكلمت بالشهادتين[16].

8 - اما تحديد ميدان الجهاد ببقعة معينة يحتلها العدو مثل القدس كارض مقدسة فهو في حقيقة الامر صحيح، لان تحرير الاراضي المقدسة امر شرعي واجب على كل مسلم ومسلمة. ولكن لما كان المؤمن (كيسا فطنا) طبقا لحديث الرسول ويعلم ما ينفعه وما يضره فان تحرير بقعة من الارض تحت اقدام العدو لا يكون الحل الجذري لتحرير اراضي المسلمين لثلاثة اسباب: الاول، ان قتال العدو القريب اولى من قتال العدو البعيد، (وكأن قتال الحكام العرب اولى من قتال اسرائيل!). والثاني، ان النصر الذي سيدفع ثمنه من دماء المسلمين لن يكون لصالح الدولة الاسلامية، التي لم تقم بعد بل لمصالح حكام الكفر وتثبيت لاركان دولتهم الخارجة عن شرع الله. بل ينتهز الحكام اتجاهات المسلمين وعواطفهم الوطنية لتحقيق اغراضهم غير الاسلامية وان كان ظاهرها الاسلام. فالقتال يجب ان يكون تحت راية مسلمة وقيادة مسلمة وبهدف اسلامي. والثالث، ان هؤلاء الحكام هم السبب في وجود الاستعمار في البلاد، وان القضاء على الاستعمار قضاء جذريا انما يتطلب القضاء على اعوانه في الداخل. وهذا لن يتم الا بقيام الدولة الاسلامية، وتطبيق الشرع الاسلامي، وجعل كلمة الله هي العليا. فميدان الجهاد ليس اذن تحرير الارض المحتلة والقدس بل (اقتلاع تلك القيادات واستبدالها بالنظام الاسلامي الكامل ومن هنا تكون الانطلاقة). وكأن تحرير العرب اولا هو الطريق الى تحرير فلسطين[17].

9 - اما القول بان الجهاد في الاسلام للدفاع فقط وان الاسلام لم ينتشر بالسيف فهو قول باطل ترد عليه آيات القرآن واحاديث الرسول. القتال في الاسلام لرفع كلمة الله في الارض سواء هجوما او دفاعا. وقد انتشر الاسلام بالسيف ولكن في مواجهة انظمة الكفر وحكام الجاهلية دون ان يكره احدا. فواجب المسلمين رفع السيوف في وجه كل من يحجب الحق ويظهر الباطل حتى يصل الحق للناس. وفي هذا المعنى كتب الرسول رسائل لحكام عصره وملوكه كما هو معروف في تاريخ الدعوة الاولى وفي عصر الفتوح. لذلك نسخت آية السيف آيات الدعوة حتى لم يبق لاحد من المشركين عهد ولا ذمة منذ ان نزلت سورة براءة. نسخت آية السيف كل آية في القرآن فيها ذكر الاعراض والصبر على أذى الاعداء، واصبحت كل هذه الآيات منسوخة بآية السيف وبالتالي لا يمكن الاستدلال بها على ترك القتال والجهاد. وعلى هذا أجمع فقهاء المسلمين ولم يشذ عنهم الا الامام السيوطي. وتعطيل الجهاد بحجة النسأ ليس ايقافا للغزو فقط بل لنية الغزو وهو معارض لآيات القرآن واحاديث الرسول. والامر المتفق عليه ان الجهاد الذي يتطلب الاخذ باسباب القوة. واستشهد المؤلف بجملة نصوص من بينها كتب الرسول الى الملوك والامراء[18]

10 - اما القول بان جيوش المسلمين على مر العصور كانت قليلة العدد والعدة، وواجهت جيوشا باضعاف حجمها وبان ذلك كان خصوصية الرسول وصحابته وليس لغيره او لغيرهم، حادثة فريدة في التاريخ لا تتكرر، فانه انكار لقوانين التاريخ وبوعد الله النصر للمؤمنين، وطالما انتصر المسلمون في تاريخهم بالكيف لا بالكم. فالجهاد قائم، والنصر قادم طالما اخذ المسلمون باسباب القوة، واعدوا العدة ولا يصلح هذه الامة الا ما صلح به اولها[19].

11 - اما القول بأننا اليوم نعيش في مجتمع مكي أي في بداية الدعوة فان المقصود بهذا القول ترك الجهاد في سبيل الله، ويعني هذا القول ايضا لو كان المقصود به اسقاط الجهاد كفريضة وترك الصوم والصلاة والتعامل بالربا فان كل هذه التشريعات انما سنت في المدينة. وقد اكتمل الدين (اليوم اكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الاسلام دينا). ولا يمكن ان نبدأ من جديد كما بدأ الاسلام في مكة والمسلمون ضعفاء. انما نأخذ الان بما انتهى اليه الشرع فنحن لسنا في مجتمع مكي او في مجتمع مدني بل في مجتمع مسلم يحكمه مسلمون لا يحكمون بشرع الله، وبالتالي يكون حكمه حكم دار الكفر[20].

12 - اما القول بان الفرض هو الصلاة والصيام والحج الى آخر الفروض دون الجهاد، فذلك ايضا مخالف لنص القرآن الذي قال (كتب عليكم الصيام) كما قال (كتب عليكم القتال). ان الجهاد فرض كالصلاة والصيام سواء بسواء. الجهاد فرض بنص من القرآن، والقتال يعني المواجهة والدم. وهو فرض عين وليس فرض كفاية، يتعين في ثلاثة مواضع: الاول، اذا التقى الزحفان، وتقابل الصفان، حرم الانصراف على المسلمين، والتراجع عن القتال، فالقتال فرض عليهم المواجهة. والثاني، اذا نزل الكفار ببلد تعين على اهله قتالهم، وهو القتال ضد الاعتداء، والغزو الاجنبي. والثالث، اذا ما استنفر الامام القوم للقتال، واعد العدة واستباح ديارهم واحتلهم بل واصبح يملك زمام الامور من خلال حكام المسلمين الذين انتزعوا القيادة منهم، وبالتالي فجهادهم فرض عين، بعد له كل مسلم ومسلمة بكل حبة عرق. ولا حاجة لاستئذان الوالدين فيه لان مثله كالصوم والصلاة[21].

13 - اما القول بان الجهاد مراحل ابتداء من جهاد النفس الى جهاد الشيطان ثم جهاد الكفار والمنافقين في النهاية اعتمادا على تقسيم ابن القيم فهذا جهل بالدين او جبن وخوف في الدنيا. فابن القيم قسم الجهاد الى مراتب او انواع وليس الى مراحل، والا توقفنا عن مجاهدة الشيطان حتى ننتهي من مجاهدة النفس. والحقيقة ان هذه المراتب الثلاث تسير في خطوط متوازية مع العلم بان مجاهدة النفس ومجاهدة الشيطان تجعلنا اكثر ثباتا في الجهاد مع العدو. وعندما كان يؤذن للجهاد، كان المسلمون جميعا يخرجون بمن فيهم مرتكب الكبيرة وحديث العهد بالاسلام. اما الحديث المشهور (رجعنا من الجهاد الاصغر الى الجهاد الاكبر) فانه حديث موضوع كما نبه الى ذلك رشيد رضا وحسن البنا وسيد قطب الغرض منه ابعاد المسلمين عن قتال الكفار[22].

14 - اما خشية الفشل أي ان تقام الدولة ثم يحدث بعد يوم او يومين رد فعل مضاد يقتضي عليها فلا اساس له لان المهم هو قيام الدولة الاسلامية تنفيذا لامر الله بصرف النظر عن النتائج، والهدف من هذا التخوف هو تثبيط المسلمين عن تأدية واجبهم الشرعي واقامة شريعة الله على الارض دون العلم بان قيام الدولة الاسلامية مستحيل. وقوانين الاسلام قادرة على القضاء على كل مفسدة، وان قوانين الاسلام وكلها عدل تجد ترحيبا عاما بها من غير المسلمين قبل المسلمين.

فلا يتخوف من ذلك الا المنافقون. وواضح ان التفاؤل هو الذي يسود دون مراعاة القوى المعارضة والفساد في التاريخ. ويستشهد المؤلف في ذلك بآية من سورة الحشر (الم تر الى الذين نافقوا يقولون لاخوانهم الذين كفروا من اهل الكتاب لئن خرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم ابدا وان قوتلتم لننصرنكم، ولئن نصروهم ليولون الادبار ثم لا ينصرون) وكذلك آية (ان تنصروا الله ينصركم ويثبت اقدامكم)[23].

15 - اما غياب القيادة الاسلامية لعملية الجهاد وعدم وجود امير يقود الناس فانه قول يردده من بيدهم السلطة الذين ضيعوا القيادة ثم يبكون عليها بعد ان او اوقفوا مسيرة الجهاد. صحيح ان الرسول قد اوصى بضرورة الامارة ولكنه جعلها بايدي المسلمين دون غيرهم. ثم ياخذ في تفصيل الموضوع[24].

16 - اما التخوف من الدخول في القتال بحجة ان اعداء المسلمين فيهم الكفار وفيهم المصلون واستحالة قتال المؤمنين ولان القاتل والمقتول في النار طبقا لحديث الرسول فقد افتى ابن تيمية في هؤلاء المتخوفين بأنهم اجهل الناس بدين الله. فقتال قتال الاعداء واجب وفرض حتى ولو كان فيهم المسلم والمؤمن، كما هو الحال في تترس الكفار بالمسلمين. واحتمال قتل المسلمين حماية لمجموعهم، ويكون المسلمون شهداء، فالمهم هو مصلحة الامة ودفع الضرر عنها، يبقون على نياتهم سواء كانوا مكرهين او لا اذ تصعب التفرقة. اما الممتنعون عن القتال فهم من البغاة المتأولين، انقسم فيهم العلماء، وهم في الحقيقة الامر من جنس الخوارج الذين يجب قتالهم. وللتمييز بين السرائر يذكر حديث الرسول (اما ظاهرك فكان علينا واما سريرتك فالى الله) ردا على عذر العباس يوم بدر انه خرج مكره[25].

هذه هي النقاط التي اثارها مؤلف كتاب الفريضة الغائبة بخصوص الجهاد، وقد رد عليها واحدة واحدة، واكد في كل منها على وجوب الجهاد وفعليته. غير ان الردود لم تتوفر على خصائص الاجوبة العلمية، وانما هي لون من الوان الخطاب الحماسي التعبوي، فلا تنطبق عليها مواصفات الرأي العلمي، ولا يمكن مقارنتها بادلة الفقهاء، الذين لهم ادلتهم في فعلية او عدم فعلية وجوب الجهاد، وليس الامر كما يتصوره صاحب كتاب الفريضة الغائبة، وسنأتي على ذكر الادلة وفقا للرأي الفقهي لاحقا. لكن يمكن توجيه النقد الى منهج الكتاب بشكل سريع ومكثف:

فالمؤلف كان انتقائيا في تعامله مع النصوص، اذ اختار منها ما يدعم توجهه الجهادي، بينما اهمل النصوص المعارضة والتي تدعو الى السلم، والصبر، والصلح.

ثانيا، اقام اراءه على احكام مسبقة، فآية السيف عنده نسخت كل احكام التسامح والعفو والرحمة، وابقت باب الجهاد فعليا في زمان ومكان. بينما هي مسألة خلافية، ولم يحسم الامر فيها بين الاولين والآخرين من الفقهاء.  واعتبر قيام دولة اسلامية امرا واجبا شرعا على جميع المسلمين، لذا وجب الجهاد من اجل اقامتها، وليس السعي الى قيام دولة اسلامية من القضايا المتفق عليها فقهيا، الا عند بعض الفقهاء. كما ان اقامتها حتى لدى القائلين بها، لا تنحصر باسلوب العنف واعلان الجهاد، وانما هناك طرق سلمية للوصول الى السلطة، لا تدعو الى اراقة الدماء واعلان الحرب والجهاد، وهي طرق باتت معروفة وواضحة، وسهلة وممكنة.

وفي بعض الفقرات نشاهد المؤلف يقيس الجهاد على الصوم، فكما كتب الله الصيام كتب الجهاد، وسكت عن الشروط التي ذكرتها آية الصوم، والجهاد ايضا  له شروطه الموضوعية، التي لا يكون فعليا قبل فعليتها. كما ان الجهاد ليس واجبا كالصلاة والصوم التي يجب على الانسان الاتيان بهما على كل حال لاسقاط الواجب المترتب عليه، وانما هو فعل تضطر له الامة المسلمة عندما تتعرض للخطر. واما في حالات السلم فلا مبرر لاعلان الجهاد. ثم ان شرط الجهاد، حتى مع فعليته، هو التكافؤ، وهذا القدر لا يتحقق لوجود نقص ذاتي. ثم من قال ان مطلق الكفر والشرك موضوع للجهاد، ومن قال ان تغيير الانظمة السياسية موضوعا للجهاد؟

وايضا فقد استدل على جواز بعض الفرق الاسلامية بنصوص فقهية قديمة، وهذا اشد خطر من الكفر والشرك، اذ فيه استباحة دماء معصومة. وغيرها من نقاط الضعف . وسنتناول الموضوع اكثر تفصيلا في الفقرات القادمة.

وثمة ملاحظة اساسية، ان المؤلف وظف جملة من النصوص الخام، ولم يعمل فيها القواعد والاصول المتبعة في علمي الدراية والرواية، ولم يقارن بينها، وانما رجح بعضها على البعض الآخر بلا مرجح او دليل او منهج علمي. كما استعان بفتاوى ابن تيمية وتلميذه ابن القيم التي صدرت في ظل ظروف اخرى. وهذا منهج خطأ وخطير، اذ لكل فتوى ظروفها الموضوعية التي تحدد اتجاهها ودرجة الزامها. ولا يجوز العمل بالفتاوى الصادرة في زمان غير زماننا، بل يجب على الفقهاء والعاملين الجد في استنباط فتاوى تتناسب والظرف الراهن من جميع الجهات. فما يصدق سابقا لا يصدق الان ضرورة، وبالعكس. كما لا يمكن العمل برأي فقيه لم يعرف شيئا عن زماننا، ولم يطلع على ظروفنا وحاجاتنا.

***

ماجد الغرباوي

باحث بالفكر الديني

2018-04-28

...................

* بحث مستل من كتاب: تحديات العنف، ماجد الغرباوي، العارف للمطبوعات، بيروت لبنان والحضارة للأبحاث، بغداد – العراق، ط 2008، ص302 – 321.

هوامش

[1] - الكليني، فروع الكافي، ج5، بابا فضل الجهاد، ص 2، الحديث رقم: 2.

[2]- لخص الامام ابن القيم سياق الجهاد في الاسلام في كتاب زاد المعاد في الفصل الذي عقده باسم : (فصل في ترتيب هديه مع الكفار والمنافقين من حين بعث الى حين لقي الله عز وجل)، يقول: اول ما اوحى به تبارك وتعالى، ان يقرأ باسم ربه الذي خلق، وذلك اولى نبوته، فأمره ان يقرأ في نفسه (فأنذر)، فنبأه بقوله: (اقرأ) وارسله بـ (يا ايه المدثر)، ثم امره ان ينذر عشيرته الاقربين، ثم انذر العرب قاطبة، ثم انذر العالمين. فاقام بضع عشرة سنة بعد نبوته ينذر بالدعوة بغير قتال ولا حزية، ويؤمر بالكف والصبر والصفح. ثم اذن له في الهجرة واذن له في القتال. ثم امره ان يقاتل من قاتله، ويكف عمن اعتزله ولم يقاتله، ثم امره ان يقابل المشركين حتى يكون الدين كله لله ... ثم كان الكفار معه بعد الامر بالجهاد ثلاثة اقسام: أهل صلح وهدنة، وأهل حرب، وأهل ذمة .. فأمر بان يتم لاهل العهد والصلح منهم عهدهم، وان يوفي لهم به ما استقاموا على العهد، فان خاف منهم خيانة نبذ اليهم عهدهم ولم يقاتلهم حتى يعلمهم بنقض العهد. وامر ان يقاتل من نقض عهده .... ولما نزلت سورة براءة نزلت ببيان حكم هذه الاقسام كلها، فامر ان يقاتل عدوه من اهل الكتاب حتى يعطوا الجزية، او يدخلوا في الاسلام، وامره فيها بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم فجاهد الكفار بالسيف والسنان، والمنافقين بالحجة واللسان، وامره  فيها بالبراءة من عهود الكفار ونبذ عهودهم اليهم .. وجعل اهل العهد في ذلك ثلاثة اقسام: قسما امره بقتالهم، وهم الذين نقضوا عهده، ولم يستقيموا له، فحاربهم وظهر عليهم. وقسما لهم عهد مؤقت لم ينقضوه ولم يظاهروا عليه. فامره ان يتم لهم عهدهم الى مدتهم. وقسما لم يكن لهم عهد ولم يحاربوه، او كان لهم عهد مطلق، فامر ان يؤجلهم اربعة اشهر، فاذا انسلخت قاتلهم ... فقتل الناقض لعهده، واجل من لا عهد له اوله عهد مطلق، اربعة اشهر. وامره ان يتم للموفي بعهده عهده الى مدته، فاسلم هؤلاء كلهم ولم يقيموا على كفرهم الى مدتهم. وضرب على اهل الذمة الجزية ... فاستقر امر الكفار معه بعد نزول براءة على ثلاثة اقسام: محاربين له، واهل عهد، واهل ذمة... ثم آلت حال أهل العهد والصلح الى الاسلام فصاروا معه قسمين: محاربين واهل ذمة، والمحاربون له خافون منه، فصار اهل الارض معه ثلاثة اقسام: مسلم مؤمن به، ومسلم له آمن، وخائف محارب... واما سيرته في المنافقين فانه امر ان يقبل منهم علانيتهم، ويكل سرائرهم الى الله. وان يجاهدهم بالعلم والحجة، وامر ان يعرض عنهم، ويغلظ عليهم، وان يبلغ بالقول والبليغ الى نفوسهم، ونهى ان يصلي عليهم، وان يقوم على قبورهم، واخير انه ان استغفر لهم فلن يغفر الله لهم ... فهذه سيرته في اعدائه من الكفار والمنافقين. عن كتاب معالم في الطريق، ص 55 و56.

[3]- معالم في الطريق، مصدر سابق، ص 58-61.

[4]- تردد هذا الوصف عدة مرات في فصل الجهاد من كتاب معالم في الطريق، انظر على سبيل المثال: ص 59و 81.

[5] - المصدر نفسه، ص 64.

[6] - وكالات الانباء، يوم 16/6/2005.

[7] - حنفي، د. حسن، الحركات المتطرفة، مصدر سابق، ص 114.

[8] - المصدر نفسه، ص 121.

[9] - نقلا عن المصدر نفسه، ص 169- 183.

[10] - المصدر نفسه، ص 169.

[11] - المصدر نفسه.

[12] - المصدر نفسه، ص 70.

[13] - المصدر نفسه.

[14] - المصدر نفسه، ص 171.

[15] - المصدر نفسه، ص 172.

[16] - المصدر نفسه، ص 173.

[17] - المصدر نفسه، ص 174.

[18] - المصدر نفسه، ص 175.

[19] - المصدر نفسه، ص 178.

[20] - المصدر نفسه، ص 178.

[21] - المصدر نفسه، ص 179.

[22] - المصدر نفسه.

[23] - المصدر نفسه، ص 180.

[24] - المصدر نفسه.

[25] - لمصدر نفسه، ص 182.