كتابات

ماجد الغرباوي: ذهول

أدمنت قارعة الطريق، اتصفح وجوها كالحة، ترمق السماء تارة، وأخرى تنظر منكسرة، حتى إذا هبط الليل أو يكاد، رأيت مذهولاً يسابق الناس، كمجنون يستفزهم بهذيانه. استهوتني متابعته، فرحت أعدو خلفه، كان يباعد بين خطواته، يتلفّت مرعوباً .. خفت أنْ يسلك طرقاً وعرة أو مجهولة لا أعرفها، فقررت العودة، وجدت نفسي مشدوداً إليه، كان غريباً في أطواره، حركاته، نظراته. كاد لشدة ذهوله أنْ يرتطم بجدار فصرخت في جوفي لولا أنْ يفيق فيتحاشى صدمة عنيفة.

 واصل مسيره والليل يلتهم ما تبقى من خيوط النهار، حتى بدا شبحاً، وأنا اقتفي أثره بصعوبة فائقة، كي لا أضل، أو أنزلق في منحدر أو نهر، يمنعني من اللحاق به.

تسلقنا جبلاً، هبطنا وادياً .. انعطفنا يميناً وشمالاً .. هو في ذهوله، وأنا أتلظّى غضباً او ندماً، مع كل مشهد يواجهني ..

***

كم مضى من الليل؟ .. سألت نفسي.

لا ادري، وصار الفجر أمنية تراودني. تمنيت لو يتمهّل أو ينظر لي كي أتحرى وجهته، لكن دون جدوى بعد أنْ شدّ من عزمه وراح يطوي المسافات ملهوفاً، حتى لاحت شجرة عالية، أغصانها كشراع يتماوج في يوم عاصف، فتهلل وجهي بعد أنْ أخذ التعب مني مآخذاً لعلنا نستريح، أو نهجع قليلاُ. أو ربّما أحظى بشربة ماء أطفئ بها لهيب عطشي. فلمّا اقتربنا، سمعت حفيف شجر كثيفٍ، وأصوات طيورٍ باغتها خوف قضّ مضاجعها، فاطمأن قلبي، لولا رعب تملكني عندما اكتشفت أنها غابة وحوش ضارية، فترددت في اقتحامها، وتمنيت لو أن بي قوة فآوي الى كهف، أو أعود أدراجي.

في لحظة ذهولٍ توارى عن ناظري، فتحيّرت .. ماذا أفعل؟ أردت أنْ أصرخ .. تجمّد صوتي فوق شفتَي، وصدر مني ما يشبه غمغمات متكسّرة. ولمّا لاح لي، هدأتْ سريرتي، وتابعته حذراً، خشية أنْ يختفي ثانية.

عاد مهرولاً كأنه وجد ضالته، رمق السماء بعينه، ثم تصفّح الأشجار واحدة واحدة .. ضبط عددها، كأنه يعرفها أو يبحث عن شيء ما، ثم راح ينظر ملياّ وهو يضرب بقدمه .. اجتاحته رهبة وهو يشير الى جهة اليمين، ثم انعطف شمالاً ليطوف حول شجرتين صغيرتين، وبصره ظل يلاحق شيئاً ما لا آراه لكنه يشعر به، لا يزيغ عنه .. ركّزت نظري جيداً .. ما هذا؟ كأنه يكلّمه او يوحي له، فسمعت نواحاً لا أعرف مصدره، أو خُيل لي.

 ربما فقدت صوابي، لا أدري ..

 أو شطحت مخيلتي، أو خالطني مسّ من الجنون ....

التقط عوداً ورسم بين الشجرتين الصغيرتين، كان يحرص أنْ يكون دقيقاً في تحديد أبعاد ما رسم .. أدهشني وهو منكب على عمله.

ما حلّ به؟

بدا غريباً .. يتزلزل .. انهمرت دموعه، وراح يصدر عنه ما يشبه البكاء، وأخذ يندب، ويشكو، ثم أفترش الأرض. سمعت صدى نشيجه يتردد في صدري، فتكسّرت عبرتي، تمنيت لو أقدر على شيء، لكن وجدتني عاجزاً، مذهولاً، ينتابني غثيان يخطف وعيي.

 وضعت رأسي بين ركبتي لاتماسك، وأنا أصغي اليه، يرفع صوته .. يصرخ  .. يصرخ حتى يتلاشى، ويبقى ما يشبه الأنين. 

عدت أنظر إليه هالني حزنه وبكاءه، كان يحتضن لوحة تُزيّنها زخرفات وبعض كلمات .. سقط على وجهه سمعت دويّه يتردد في أرجائي .. اقشعر بدني، وأُغشي عليّ.

فقت صباحا تذكرت ما جرى، عاودني الحزن، وفغرت فمي عندما عرفت:

 أن المرمّل كان:

.

.

.

قلبي

*** 

ماجد الغرباوي

 2014-04-27