كتابات

ماجد الغرباوي: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والعنف المبطّن

الامر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة اسلامية متفق عليها، وقد تردد ذكرهما في عدد كبير من آيات الكتاب الحكيم. فهما مبدأ قرآني لا ريبة فيه. وقد امتدح الله تعالى الآمرين بالمعروف والناهيين عن المنكر في اكثر من آية واعتبرها صفة ملازمة للايمان. والمقصود بهما الأمر بما أمرت به الشريعة والنهي عما نهت عنه. واكدت النصوص اهمية هذه الفريضة وضرورة تعهدها والالتزام بها. كما حذرت من التخاذل والتقاعس في مسئوليتها. فولدت هذه النصوص شعورا لدى المؤمن الملتزم باهميتهما، التي تصل حد توقف قبول الاعمال عليها في احيان كثيرة. وليس الموقف واحدا على طول التاريخ فهناك من يبرر القتل في سبيلهما، في مقابل من لا يسمح بتعرض النفس الى الاذى المادي او المعنوي. أي انها تقف عند حدود عدم الحاق الاذى بسبب الامر بالمعروف او الناهي عن المنكر. وقد اشترط الفقهاء شروطا لهذه الفريضة. فهي فريضة منضبطة ولها مبرراتها، كما لها حد معين من التضحية، وليست مطلقة او متروكة لتقدير الشخص نفسه. لكن بعض الحركات الاسلامية اتخذت من فريضة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر اساسا لوجودها، وربطت نفسها بها ومن اجلها، حتى اصبحت مبررا لقيام دولة اسلامية، ولو بالقوة والعنف، اذا توقف العمل بهما عليها. وايضا صار الامر بالمعروف والنهي عن المنكر سببا ودافعا لنشوء وتأسيسي حركات اخرى، استجابة لقوله تعالى: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ٱلْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ [1] (. وبهذا الشكل تفاقمت الفريضة في حدودها وصلاحياتها ومسؤولياتها. بل استمدت بعض الحركات الاسلامية من فريضة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وجودها، ووجدت فيها ضالتها، فانطلقت تتحرك بصلاحيات مفتوحة تستمد شرعيتها من الفريضة نفسها. وقد ساعد على ذلك عدم وجود مفاهيم محدد للمعروف والمنكر، فهما بطبيعتهما فضفاضان يمكن تأويلهما وتوظيفهما وفقا لاجتهاد الاشخاص والحركات، فكانت مركزا للاجتهادات والتأويلات، واسهلها صياغة المصالح الحزبية موضوعات ناجزة لتفعيل الفريضة واتخاذها ذريعة لتحقيق اهدافهم السياسية.

لكن الصحيح ينبغي ان لا تترك هذه الفريضة لارادة الاشخاص، والا ففوضى وعدم استقرار، سيما اذا عرفنا ان سقف الامر بالمعروف والنهي عن المنكر يتمدد حسب المصلحة الاسلامية، وحينئذ من سيحدد هذه المصلحة؟ واساس المشكلة يكمن في تعدد القراءات والفهم بحسب الفقهاء وقبلياتهم وثقافاتهم وفهمهم للاحداث والقضايا الساخنة والمصيرية، ومدى استجابتهم لضرورات الزمان والمكان.

ان موضوع الامر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الاحكام الشرعية المنصوصة المتفق عليها بين المسلمين، والقيم الاخلاقية، وليس العقيدة او الدين، بل ولا الاحكام الاجتهادية. فموضوعهما القيم والاخلاق الاسلامية، التي هي اخلاق انسانية، وتأكيد الالتزام بالواجبات الالهية، والنهي عما حرم الله تعالى من افعال واعمال واخلاق ذميمة وقد اشترط الفقهاء لممارسة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر شروطا، لا تجب الفريضة في حالة اختلالها، فهي ليست وظيفة كيفية خاضعة لمزاج الافراد، وليست مطلقة في مصاديقها بل تبقى الآيات والاحكام الاخرى مقيدات ومحددات لها. كما انها واجب كفائي، أي اذا قام بها البعض سقطت عن الباقين. واما شروطها لدى الفقهاء فهي:                                    

1 - معرفة المعروف والمنكر، ليأمن الغلط في الامر والانكار. اذ ربما ينهي الناهي عن عمل ليس محرما في الشريعة او ليس متفق على تحريمه، وربما يأتي ارتاكبه باعتباره مباحا في نظر من يفتي باباحته. ومثاله عندما جوز الامام الخميني لعب الشطرنج، خلافا للمشهور بين العلماء. فحينئذ لا يصدق النهي عن المنكر في مثال هذه اللعبة، لان اللاعب ربما يعمل وفقا لرأي من يرى جوازه. وامثلة اخرى كثيرة. لهذا نضع قيد الاتفاق على المحرم المنهي عنه في الشريعة، وهو ما نص على حرمته. بل ربما يصبح النهي في هذا المثال خرقا للحرية الشخصية التي يعاقب عليها القانون. كما لا يصح نهي غير المسلم عن عمل حلال في شريعته، بل يصبح تدخلا في شؤونه الخاصة الممنوعة قانونا. لكن يجوز النهي من اجل سلامة المجتمع، وحينئذ يجب تحويل القضية الى دعوى قانونية، اذا رغب المجتمع في ذلك. فيأتي ارتكابه للمحرم بنظر المسلمين وبشكل علني يضر بسلامة المجتمع مخالفة قانونية، تأخذ مجراها في الدوائر المختصة دون تدخل الافراد. او أي جهة اخرى غير مخولة قانونا.

2 – احتمال التأثير، فلو غلب على ظنه، أو علم أنه لا يؤثر، لا يجب. فكثير من الناس لا يؤثر فيهم الامر ولا يرتدعون بالنهي.

3 - اصرار واستمرار الفاعل على فعل المنكر. فلو لاح منه ما يدل على الامتناع أو أقل سقط الانكار. مما يعني انها ليست قضية ارهابية او مقصودة بذاتها وانما من اجل اصلاح الفرد والمجتمع فاذا حصلت أي علامة على المطلوب سقط الواجب، واما الاستمرار بالنهي الى عمل سلبي مضر.

4 - الا يكون في الانكار مفسدة، او تداعيات جانبية. فلو ظن توجه الضرر إليه أو إلى ماله، أو إلى أحد من المسلمين، سقط الوجوب[2].

5 - لا يلجأ الى الضرب الا بعد فشل سائر الاساليب. والحد الاعلى للضرب ان يبقى ما دون الكسر والجروح، فان توقف الردع على الكسر او الجرح او القتل وجب كونه باذن الامام او نائبه الخاص، وربما العام، الفقيه العادل الذي بيده ادارة الموضوع بالنحو الذي لا يسيء للنظام العام، ويوصله بعد الدرس والتأمل الى النتائج المطلوبة المناسبة للمصلحة الاسلامية العليا التي تفترض التحرك نحو مواقع الفساد، وذلك كما في حالة الثورة على الحاكم الظالم والنظام الجائر التي يمكن الوصول بها الى قتله او جرحه، او قتل اعوانه او جرحهم، تمهيدا لاسقاطه[3].

ثم للانكار مراتب تبدأ من القلب ثم اللسان واخيرا اليد[4]. فاذا تحقق المطلوب في مرتبة اللسان لا يجوز الانتقال الى مرتبة اليد. لكن بعضا يلجأ فورا الى اسلوب العنف والاكراه بشكل فج. مما يؤلب الآخرين على الدين والرسالة، ويعكس عنهما صورة سوداوية مشوهة.

وتارة يكون المخاطب في هذه الفريضة هو الفرد، فيكون موضوعها المفردات التي تصادفه في حياته داخل محيطه (العائلة/ المدرسة/ العمل/ الجمعية/ النادي/ ...). أي جزء او شريحة صغيره من المجتمع. فممارسته لهذه الفريضة مراعيا لكل شروطها الفقهية، لا شك انه سيزيد من تقويم الناس ودفعهم نحو الفضيلة والخير، من خلال الالتزام باوامر الله تعالى والانتهاء عن نواهيه. وفي هذه الحدود يكون الفرد الملتزم دينيا محددا بمستويين من الفعل، هما القلب والسان. بأن يمارس النهي عن المنكر من خلال الانكار بقلبه اولا، ومن ثم باللسان، والكلام والحوار، فتأتي آيات اخرى لتعرفنا بكيفية الحوار وشروطه، وهو الحوار بالحسنى والموعظة، وتحاشي نفور الناس من الدين بسبب الاساليب الخاطئة التي يعتمدها الفرد خلال ممارسته لهذه الفريضة. فينقلب عمله الى فعل سلبي يكون ضرره اكثر من نفعه. كما لا يصار الى المرحلة الاخيرة، وهي التغيير باليد الا بشروط، فلا يسمح معها للفرد بهذا اللون من التغيير ما لم تتم الموافقة عليه مسبقا من قبل الفقيه او الحاكم الشرعي، الواعي، غير المسكون بالعمل الثوري[5]، ويضمن النتيجة وعدم الضرر، وجملة شروط اخرى يذكرها الفقهاء في محلهم[6].

واخرى يكون الخطاب موجها للجماعة وليس الفرد، فيكون موضوعها المفردات التي يتعذر على الفرد معالجتها. وهنا يمكن تصور العمل الجماعي ضمن اطر متعددة، فيمكن للجماعة ان تعمل ضمن مؤسسة او حزب او جمعية، او أي تشكيل آخر، لكن في جميع الاحوال تستمد مرجعيتها من هذه الفريضة بالذات. وحينما تكون بشكل منظم فأنها ستندرج في اطار مؤسسات المجتمع المدني. والشرط الاول في هذه المؤسسات هو العمل ضمن القانون، فحينما تجد مؤسسات الامر بالمعروف والنهي عن المنكر تصادما بين الفريضة والقانون عليها حل التعارض والتصادم في اطار القانون والاساليب المتبعة في الانظمة الديمقراطية. واما اذا تصورنا ان المجتمع ليس مجتمعا مدنيا وان الحكومة غير منتخبة بشكل صحيح ودستوري، فالكلام آنئذ يختلف كليا. لكن كما هو المفترض اننا نعمل في اطار مجتمع مدني وقوانين تستمد شرعيتها من ارادة الافراد بشكل مباشر او غير مباشر والحكومة منتخبة بشكل دستوري.

واللافت في آيات الامر بالمعروف والنهي عن المنكر انها تثني على الامرين بالمعروف والناهيين عن المنكر، لكنها توجه الامر الى الجماعة والامة: (ولتكن مّنكم أمّة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون[7](. حتى ان الفقهاء اختلفوا في دليل الوجوب (بعد ان اعتبروا وجبوهما على الفرد مفروغا عنه باجماع الامة كما يعبرون) هل هو عقلي فيكون ما ورد في الكتاب والسنة ارشادات لحكم العقل، ام الوجوب شرعي؟. وعمدة الدليل الشرعي روايات عن الرسول (ص). واما الآيات فقد خصت هذا الامر بالجماعة دون الفرد[8]. ومهما يكن فهل اختصاص الامر بالجماعة دون الفرد هدفه السيطرة والتقنين وابعاد الفرد بما هو فرد عن هذه الوظيفة الحساسة؟ ربما باعتبارها وظيفة لا يمكن السيطرة عليها اذا خضعت للاجتهادات الشخصية والخطابات الايديولوجية. فلا تؤدي وظيفتها، فوضعت في عهدة الجماعة المنظمة التي تأخذ على عاتقها دراسة الموضوع والظروف المحيطة به ومدى صلاحية ممارسة النهي اذا كان منكرا او الامر اذا كان معروفا، فيحد هذا العمل المنظم من السلبيات التي قد تتلاشى اذا حظيت بدرجة عالية من الحيطة والتخطيط ورعاية مصالح الوطن والمسلمين.[9].

***

 ماجد الغرباوي

باحث بالفكر الديني

2018-02-28

..................

* بحث مستل من كتاب: تحديات العنف، ماجد الغرباوي، العارف للمطبوعات، بيروت لبنان والحضارة للأبحاث، بغداد – العراق، ط 2008، ص296 – 301.

 هوامش

[1] - سورة آل عمران، الآية: 104

[2]- انظر: المحقق الحلي (676هـ)، شرائع الاسلام، تحقيق: صادق الشيرازي، طهران، الاستقلال، ط3، 1409هـ، ج1 ص 258. والشروط متفق عليها بين الفقهاء تقريبا. انظر الكتب الفقهية التي تعرضت للموضوع بالاخص الرسائل العملية للفقهاء.

[3] - فضل الله، السيد محمد حسين، فقه الشريعة، بيروت، دار الملاك، 1420هـ - 1990م، ج1، ص 630.

[4] - المحقق الحلي، مصدر سابق..

[5]- الفقيه المسكون بالعمل الثوري مثله مثل الطبيب الجراح، الذي يعالج جميع الامراض بالعملية الجراحية لادنى احتمال، وهو على العكس من الطبيب الاخصائي الذي يحاول معالجة المرض بالادوية والعلاج الطبيعي، والفقهاء هنا كالاطباء مع الفارق.

[6]- انظر: فضل الله، مصدر سابق، ج1 ص633.

[7] - سورة آل عمران، الآية: 104

[8]- انظر على سبيل المثال: شرح اللمعة الدمشقية، الشهيد الثاني، تحقيق: باشراف محمد كلانتر، 1410هـ، قم، الامير، ج2 ص409.

[9] - انظر للكاتب: التسامح ومنابع اللاتسامح .. فرص التعايش بين الاديان والثقافات، مركز دراسات فلسفة الدين، 2006م، بغداد.