كتابات

ماجد الغرباوي: هاتف الفجر

خرجتُ مسرعاً بعد لقاء قصيرٍ، تداولتُ فيه مع صديقٍ حميمٍ حديثاً ودياً، حتى إذا خطوت عدة خطوات تبارت سهامٌ تقذفُني، فلما أخطأتني كدتُ أفقد صوابي .. تشبّثتُ بأهداب الليل أستجير بظلمته. ما هي إلا برهة حتى استقر سهم في قلبي، فتبددت أحلامي، واستسلم دمي، فرحت أتلمّس نبضي .. أتابعه كيف يعلو يعانق السماء ثم ينحني مع الأرض في دورانها .. تارة أرمقه أهيم برشاقته، وأخرى أُهادنه حينما يتحدى غروري. فمسّني طائف من الجن .. لم أستعذ منه إلا به، رحت أتوسّل إليه، لم يبال وتمادى يغور في أعماق قلبي .. قلبي الذي لم تخطفه السهام، يترنحُ الآن تحت وطأته، لم يكن طائشاً فطال سُهادي. فكرتُ أن أنتزعه لحظة، أتفقد جُرحي، وأمسح فوق روحي التي ترنّحت، تستغيث بعزيمتي الخاوية، فلم تستجب إرادتي.

تحركت أناملي تتلمس موضع السهم، أين استقر؟ .. هل سيتحكّم بنبضي أو يُمسك شراييني؟ .. هل سيستبيح أسراري ومشاعري؟ هل سأفقد صوابي وهو يعبث في أخاديده؟ قلبي الذي استوعب الناس جميعا، كيف تتمزق أنسجته، ويمتلئ سُحباً داكنة؟ ماذا لو جفاني وحطّم مشاعري؟. رحِت أُطيل النظر، أستعيد حياتي، ما إن طِفتُ فوق السحاب، أو أتخذت من البحر مركبا إلا وتدفّقت تتطاير شرراً، تُلاحق أنفاسي، وترهق لهاثي، فأتوارى أتدثّر بدثار الخيبة، ثم أفيق، أستيعد أنفاسي، أُيمم وجهي صوب ناصية القدر الأزلي، أرى الحياة مشهد بؤس، أو حطام ألم، لا يفقه لغتها سوى حكيم اعتزلها، أو عاشق هام في أرجائها. ليست الحياة أنا وأنت، هي قلبي حينما يصغي لآهات المتعبين، ويواصل رحلته من أجل المعذّبين .. الحياة عتمة حينما ينطفئ نور قلبي، قاحلة يغزوها المتسوّلون. كم أرهقنا أنفسنا بحثاً عن معنى يشدنا إليها، متى ندرك أنها وَهمٌ ما لم تفض قلوبنا حباً. كم أخاف على قلبي، أخاف على نبضه المتدفق حيوية .. ماذا سيفعل به ذلك السهم الذي باغتني؟

على غير هدى تحرّشت به، فشعرت بألم لذيذ، يراقص قلبي لتنساب نوباته المتعبة فوق أوردتي، تحمل أكداس آهات اللحظة الأخيرة، تلك اللحظة التي تحطّم فوقها غروري، فما عاد جميلا بما يكفي.

كيف أستجمع قواي لأسترد أنفاسي، وأستعيد أملي الذي تبخّر مع حرارة السهم؟ .. كيف أحتفظ بقلبي الذي تسكن إليه نجوم السماء .. أخذني الذهول حيث يشتهي فلم أعد أعرف سوى الصمت، مذهولاً تعصف بي الأوهام، فسمعت هاتفا يقول: (الصمت أبلغ من أي كلام)، فهدأت روحي، غير أن عيني لم تفارقه وهو يغور بعيداً في أحشائي، حتى إذا اختفى يأستُ مستسلماً، لولا بارقة حينما شَعرتُ به يَتَلبَسُني، ينسجُ من الفجر طيفاً ثملاً، وينثر الروح ياسميناً، ندىً فوق ذاكرتي. لا يشبه العشق .. لا يدانيه الحب .. عرفت كل ذلك عندما خانني قلبي وأفشى إليه بسرّي.

 ***

ماجد الغرباوي

4 - 10 - 2015