أقلام حرة

المثقف العراقي والموقف من إيران

ميثم الجنابيهذا مقال وجداني وعقلي بقدر واحد من أجل ألا يكون المثقف العراقي اسيرا للجهل السياسي! فالجهل أرذل من الارتزاق زمن المعارك الكبرى!

إن الرؤية الاستراتيجية والمستقبلية هي تلك التي تنفي في رؤيتها النقدية كل معالم الاعوجاج الطبيعي، والخطأ العابر، والخطيئة المفتعلة، وضيق الأفق، ووجدان اللحظات المؤلمة، وحماسة الرعونة الخفية، وكثر غيرهما مما يغلق على الرؤية النقدية تأمل ما في هذا التداخل الذي لا مفر في مجرى تاريخ الأمم الحية وتطورها المتعرج في طريق الاستقامة المنطقية، أي في طريق الرؤية البعيدة المدى، التي ترى في الآفاق واقعها المستقبلي. فهي الرؤية الوحيدة التي تتجاوز حماقة الجهل، وبهيمية أزلام السلطة، وضيق الرؤية الحزبية، وتحزب العنف السياسي وكثير غيرها مما يندرج ضمن سياق ما ندعوه بالنفس الغضبية وليس قوة العقل الباصرة. وليس مصادفة أن تقول العرب في احدى مأثوراتها الحكيمة، بأن العمى اقرب إلى السلامة من بصيرة حولاء! فالأعمى يتكأ على عصاه لعبور الطريق، بينا البصيرة الحولاء ترى الأمور المستقيمة عوجاء مشوهة فتحكم بها على ما تراه. وهذا هو حال اغلب ما يكتب عن ايران من جانب أولئك اللمثقفين العراقيين الذين لا اشك بوطنيتهم وإخلاصهم العميق للعراق وتفانيهم من اجله. غير إن هذا لا يكفي. وذلك لأن محك ومعيار الوطنية الحقيقة والإخلاص لها لا يقوم في العداء لإيران، بل بالاقتراب من النفس والعمل بموجب الحق الحقيقة والرؤية المستقبلية المشار إليها أعلاه.

فالخلاف والاختلاف صفة حية لوجود الأحياء. والإنسان السليم والقويم والحقيقي هو الذي يعيش في خلاف عميق وخلاّق مع نفسه أولا وقبل كل شيئ. ومن ثم لا سوءة في الخلاف والاختلاف مع السياسية الإيرانية في هذا المرحلة أو تلك وتجاه هذه القضية أو تلك من اجل التقويم والبحث عن بدائل مستقبلية مشتركة، وليس من خلال دفعها صوب الغل الداخلي وتحويل الخلاف إلى عقدة "ثقافية" أو "تاريخية" أو "أبدية". فهو أسلوب يتعارض مع التاريخ والواقع والمنطق والثقافة والمستقبل. كما انه يتعارض، وهذا هو الأكثر جوهرية بالنسبة للعراق، مع حقيقة الأسس الذاتية ومصادر التأسيس الفعلية للثقافة العربية الإسلامية، اي لمصدر هويتنا الثقافية والوطنية والقومية. إذ ليس هناك من قوى ساهمت في إرساء أسس الثقافة العربية الإسلامية الكلاسيكية والكونية الكبرى أكثر من اهل "عراق العرب" و"عراق العجم"، إي العراق وإيران. وكل ما عداه إضافة جزئية أو جزء منه. والفكرة النقدية الواقعية والمستقبلية ينبغي أن تضع على الدوام أمام بصرها وبصيرتها هذه الحقيقة بوصفها أيضا بوصلة الرؤية السياسية.

فقبل فترة وجيزة كنت اتصفح، بعد رجاء احد الأصدقاء، لمعرفة موقفي مما يكتب على صفحات التواصل الاجتماعي  بصدد الموقف من إيران. إذ انني لا اتابعها ولا اشترك بها وفيها، انطلاقا من اعتقادي بأنها في الاغلب هوسة وهلوسة ومقاهي البلادة المتبجحة بذاتها. لكنني بالفعل اصبت بقدر كبيرة من "المفاجأة". لقد انكشف امامي عالم مجهول وجاهل بقدر واحد. خرافة وسخافة وتسطيح وكسل فكري وهبوط عقلي يكتفي بعبارة كما لو انها حصيلة الحكمة التاريخية والسياسية والعقلية. بينما هي مجرد هفوات في اغلبها غبية. اضافة إلى ما في اغلبها من هبوط أخلاقي ومعنوي.

ما هي القضية التي اتناولها هنا؟ هي قضية الهجوم المشوه وغير العقلاني في الموقف من إيران والسياسة الإيرانية في العراق والموقف من بعض الشخصيات السياسية الكبيرة في إيران (خامنئي وسليماني). والآن فيما يبدو انهم يشعرون بقدر من الراحة والاطمئنان لتخلصهم من "عدو  لئيم" يعكس من حيث الجوهر لؤم "النقد السياسي".

فما هي أبعاد هذه القضية السياسية والأيديولوجية والدعائية؟ وما هي أبعادها الجيوسياسية والمستقبلية؟ وهي جوانب، كما يتضح مما شاهدت وقرأت (العشرات بل المئات مما جرى كتابته و"تغريده"!!!) لا تقلق ذهنية المثقف العراقي المنهمك في شحذ السكاكين المثلومة. بينما هي القضية الأكثر جوهرية. واعمل الآن على وضع كتاب، لا استطيع تحديد حجمه، يتعلق بآفاق ما ادعوه بالمثلث العربي الإيراني التركي ومشروع استراتيجية المستقبل، بوصفه احد الردود التأسيسية على هذه المشاكسة العابرة. مع انها ليست جوهرية بالنسبة للتأسيس العقلاني والاستراتيجي للمستقبل.

والسؤال الذي يظهر هنا ويطفو على سطح الملاحظة الأولية، هو لماذا اخذت بالظهور والبروز والنتوء المشوه في مواقف بعض المثقفين العراقيين، بما في ذلك عند من لا يمكن اتهام وطنيته العراقية، بالهجوم الشرس وغير العقلاني تجاه إيران، ومن خلاله تجاه الأحزاب الشيعية والحشد الشعبي والسيستاني وكثير غيرها؟ وهي قوى، شأن غيرها من القوى السياسية، لا تخلو من رذيلة وجهل وفساد.

فالمواقف التي ينتجها المثقف ومن خلاله يجري سريانها في المجتمع. ومن ثم ينبغي أن يضع على الدوام في حسابه هو أن تكون مواقفه وأحكامه محددة برؤية الغاية الأساسية.

ما هي ومن هي إيران الحالية؟ انها نتاج تاريخ عريق لا يضاهيه في المنطقة سوى تاريخ العراق. كما انهما تاريخ موحد في اغلب مراحله التاريخية. والصيرورة التاريخية لإيران وثقافتها القومية والإسلامية كانت في الأغلب تحت تأثير العراقيين القدماء والعرب المسلمين. وهي مأثرة يعتز بها اهل فارس وإيران. بل اننا نرى رمزية هذه العلاقة عندما اعتبر النبي محمد سلمان الفارسي منه وبه (من آل البيت). وليس محمد بن سلمان وأسلافه!

كيف ظهرت الجمهورية الإسلامية؟ هنا من يقول بأن الخميني سرق الثورة. وهذا جهل مرعب في تاريخ إيران القديم والحديث. إن تقاليد الثورة على النظام الشاهنشاهي في إيران كانت على الدوام من جانب علماء ورجال الدين الشيعة الكبار. والخميني واحد في هذه السلسلة، كما إن خامنئي هو حلقة فيها أيضا. ومن يعرف تاريخ وكتابات ائمة الفكر السياسي الايراني الشيعي على امتداد قرون من الزمن يدرك ضحالة وسخف هذه الاحكام. وأنا اتكلم هنا عن دراية واحتراف عميق في هذا المجال. إن كل ما في ابداعهم الفكري يكشف عن همومهم العميقة في البحث عن دولة مستقلة وطنية ومهمومة بقضايا العالم الإسلامي والمسلمين، بغض النظر عن مذاهبهم وطوائفهم وحتى افكارهم. وهي صفة لم توجد إلا في إيران من بين دولة العالم الإسلامي.

اما إيران ما بعد الثورة الإسلامية فقد كانت وما تزال ميدانا ملتهبا للصراع من اجل الهوية والحق. بينما كانت وما تزال القوى المعادية لإيران هي هي نفسها ما بعد الثورة: الولايات المتحدة وإسرائيل (والغرب عموما). والآن السعودية والبحرين ولاحقا الامارات. (عموما السعودية وإمارات الخليج، باستثناء عمان)، أي الدول والدويلات التي قادت وتقود كل المؤامرات والحروب الداخلية والخارجية ودفع ثمنها للقوى الامبريالية. وهذه حقائق، بل اقرب الى البديهية. وموقفها من العراق نفسه (الحصار والحرب وجعل اراضيها قاعدة للغزو الامريكي). وبالتالي، فمن اين هذا الاتهام البليد "لليد الطولى" لإيران في غزو العراق مع امريكا. الأمر بالنسبة لنا سيان فيما يتعلق بالنوايا، لكنه يصب في الخيانة للعراق والارتزاق لآل سعود. ومن خلالهم لإسرائيل وأمريكا. اي لألد الأعداء الفعليين للعراق والأمة العربية ومصالحهم الجوهرية.

فمن هي الدولة الإسلامية الوحيدة التي وقفت وتقف ضد السياسة الامريكية والصهيونية في المنطقة والعالم الإسلامي ككل؟ إيران فقط.

ومن يدعم المقاومة في لبنان وفلسطين؟ إيران فقط.

ومن هو الذي جعل من يوم القدس مهمة مقدسة؟ إيران فقط.

من هو الذي انقذ العراق من داعش الامريكية الصهيونية السعودية القطرية الإماراتية؟ إيران فقط والحشد الشعبي.

ومن هو الذي يتحدى هذه القوى استنادا إلى قواه الذاتية الخالصة؟ إيران فقط.

ومن هو الذي طور ويطور سلاحه من اجل الدفاع عن ذاته ووطنه والمشرق العربي؟ إيران فقط.

كل ذلك يجعل من الممكن القول، بأن إيران اكثر عربية وعروبة من اغلب العرب. بل لا عرب بالمعنى الدقيق للكلمة.

فالعرب والعربية والعروبة هي موقف متجانس في الدفاع عن الحقوق. فعن أية حقوق دافعت السعودية والخليج؟ وهل بإمكانها يا ترى الدفاع عن شيئ غير الخنوع والعبودية؟

وما هو الشيئ الذي "صدرته" لنا؟ مجرمون، وقتلة، ارهابيون دمويون، متفجرات والغام بالآلاف الذين دمروا مدن العراق وسوريا وليبيا واليمن. هل سمع احدكم بأن واحد منهم قاتل في فلسطين؟ ولأجل فلسطين؟ ولأجل سوريا والعراق واليمن وليبيا والجزائر والسودان؟ لأجل العالم العربي واستقلاله وازدهاره؟

كيف يمكن للمثقف العراقي، اي من ينبغي أن يجمع في ذاته حقيقة الثقافة والمعرفة والعلم والوطنية أن يكون أداة صغيرة وطيعة بيد القوى التي تناصب العداء الجوهري لوطنه وقوميته وأمته وثقافته وأسلافه ومستقبله؟

انني ارى هجمة شعواء غبية ومرتزقة مليئة بالصراخ ضد إيران ومن خلاله العراق وشيعته أولا وقبل كل شيئ ولا كلمة واحدة ضد امريكا وإسرائيل والسعودية ودويلات الخليج. كيف يمكنكم تفسير ذلك؟

إن حب العراق والوطنية العراقية هو أن ترى حقائق الأشياء كما هي لا ما تقدمه وسائل الإعلام المأجورة. فهو إعلام خاضع للسلطة ومرتزق مائة بالمائة. انه فاقد لمعنى الحرية والفكرة الوطنية والقومية. انه عبد مستلب للسلطة ورشوتها. انها دعاية البطون والأمعاء. وكل ما فيها هو خراء وفساء!

المثقف العراقي لا ينبغي ان يكون ضمن هذا الصف

يمكنك الاختلاف مع إيران وشيعتها وسياستها ولكن بمعايير الرؤية الوطنية. بينما الرؤية الوطنية تفترض الوقوف دوما إلى جانب الحق.

هاتوا الأدلة على انتهاك ايران للحق؟ وهاتوا الأدلة على دفاع امريكا وإسرائيل والسعودية عن الحق؟ اقصد الحق العراقي والعربي في سوريا ولبنان واليمن وليبيا وفلسطين.

إن فلسطين هي المحك الأساسي والجوهري. انهم يتسابقون من اجل الانبطاح والخنوع لأمريكا وإسرائيل. ولا نعرف لماذا وكيف يمكن أن يحدث ذلك لإنسان ودولة تعتبر نفسها عربية. وعموما لا يمكن اطلاق كلمة انسان على من يحب العبودية ويتمتع بها ويرقص لها.

إن العبودية ليست عربية. والعروبة لا عبودية فيها. إنها ليست في الدشداشة والعقال. وليس في حب الناقة والجِمال، والبعير والبغال، والرز والخرفان! إن أصالتها في الحرية والسؤدد والفروسية والمروءة. هاتوا ولو دليل واحد على وجود هذه القيم عندها.

إن ايران الإسلامية تتمتع بكل هذه الصفات. ومرآة ذلك في كراهية وحقد وحنق ومؤامرات الغرب عليها. وأمريكا وإسرائيل وعبيدها في الجزيرة شبه العربية. لقد حولوا شبه الجزيرة العربية إلى جزيرة شبه عربية في كل شيئ، باستثناء نفسية وذهنية الاعراب التي أدانها محمد والقرآن والإسلام والثقافة العربية الإسلامية الكونية. وهم اشد فسقا وخيانة منذ أن وصفهم القرآن ولحد الآن. هاتوا الدليل على أن الامر ليس كذلك؟

خلاصة واستشراف

إن الحرب العراقية الإيرانية كانت مقدمة وسبب الخراب والانهيار العراقي.

إنها ادخلته في متاهة استراتيجية بدأت بغزو الكويت وانتهت بغزو الولايات المتحدة إياه. وهي خطة امريكية منذ البداية، واستمرار للسياسة البريطانية القديمة.

وقد اعترف صدام حسين لاحقا بأنه وقع ضحية حبكة غربية. بل إن صدام المهوس بالمخابرات والاستخبارات وقع ضحية هذه المؤامرة! وهو من اطلق عليها هذا الوصف. واعترف لاحقا بسماحة ايران الإسلامية وإخلاصها وصدقها. فصدام لم يقاتل الشاه. والسعودية والخليج لم يحاربوا الشاه، بل كانوا اصدقاءه وشركاءه في الخضوع للولايات المتحدة وإسرائيل. وجميعهم بدءوا بالحرب على إيران الجمهورية الإسلامية؟ لماذا؟ لأنهم أرادوا الحصول على صك غفران للدخول في جنة الولايات المتحدة، وهم اغنى منها!!!  فالسعودية والخليج الذين ادخلوا ودفعوا للاقتتال العراقي الإيراني (وهو باعتراف صدام نفسه) اوقعوه حالما انتهت الحرب بمصيدة جديدة.

ماذا تريدون با مثقفو العراق "الوطنيون". ان يدخل العراق في صراع وحرب مع إيران؟ ولأجل من؟

هل تريدون إيران شاهشاهية امريكية صهيونية؟

هل تريدون إيران معادية للعراق والعرب والإسلام؟

إن ايران لا يمكنها الحياد عن هويتها الوطنية والإسلامية. وهو مصدر قوتها. والأفضل التعلم منها والوفاق ومعها، والاتحاد بها.

إنها الدولة الإسلامية الوحيدة التي استطاعت في ظل حروب عليها وحصار لا مثيل له (باستثناء كوبا) أن تطور نفسها وزيادة إنتاجها عشرات المرات. وهي الدولة الإسلامية الوحيدة التي تعتمد على نفسها مائة بالمائة في كل شيئ، بما في ذلك تطوير أهم مفاصل العلم والصناعة والتكنولوجيا. وتجاوزت في اغلب مفاصل الاقتصاد والعلم التكنولوجيا عشرات المرات ما بلغته ايران زمن الشاه. بينما لم يستطع العراق ولا دول الخليج ولا السعودية لحد الآن انتاج ملابسهم التي يلبسونها. إن كل ما عندهم هو بيع الثروة الطبيعية وشراء ما يقابلها من ابهة خارجية وظاهرية فارغة. وكل ما فيها يمكن أن ينهار في سويعات. بينما لا يمكن أن تنهار ايران ولو اجتمعوا كلهم وعملوا المستحيل لقرن من الزمن. وهذا فارق ينبغي أن يكون مفهوما لمن تلزمه كلمة الثقافة والمثقف والعلم، أي أن يتعظ على الأقل بحدها الأدنى. فإذا لا تكفيك الوطنية الحقيقة، فليكفيك على الأقل الواقع بأبسط صوره. وإذا كان هذا لا يكفيك فعلى الأقل كف عن السب والشتيمة والشماتة. فهذه ليست من صفات رجال المعرفة وأهلها.

إن مهمة المثقف تقوم في البحث النقدي العميق والتأسيس المستقبلي للتكامل والتوحيد. وهي مهمة شاقة بمئات المرات من الوقوع في "خنادق" القتال التي لا تعمل إلا على قتل الحاضر والمستقبل.

ملاحظة اخيرة: هذا مقال وجداني عقلي لا علاقة له بالأفراد، بل بالفكرة. وسوف استكمله، حالما يسمح الوقت، بمقال تأسيسي علمي سياسي.

***

ا. د. ميثم الجنابي

 

في المثقف اليوم