أقلام حرة

قيمة الكتابة ومحنة الرتابة!!

صادق السامرائي"ن والقلم وما يسطرون" القلم 1

"أم عندهم الغيب فهم يكتبون" الطور 41

الكتابة حرفة أو صنعة بواسطتها يتمكن الكاتب من بناء ما يريد التعبير عنه بالكلمات، التي تحمل القدرة على توضيح الأفكار وتبسيطها وتحقيق حالة الحياة الناجمة عنها.

ولا يجوز أن نسمي الكلام المسطور كتابة إذا تجرد من قدرات التعبير الواضح والدقيق عن جوهر الغايات والأهداف، التي يسعى إليها الكاتب بإستخدام مفردات لغته لتحقيق صنعته وإبداع حرفته.

والقلم هو آلة الكتابة و رمز عقل الكاتب ولسان حاله، الذي يتدفق بالأفكار والعبارات اللازمة للكتابة.

ولا يمكن لشخص أن يكون كاتبا إذا لم يتوفر عنده معين من مفردات اللغة التي يكتب بها وخبرة عملية بقواعدها، وأصول ترابط عباراتها وإنسجامها مع بعضها، لكي يمنح أفكاره أعلى درجات صياغتها وتأثيرها.

فالكتابة لها  أصولها وقواعدها ومناهجها وأدواتها وتمارينها، وقد تكون رغبة الكتابة قائمة لكن أدواتها غير متوفرة، ولكي يكون الشخص كاتبا لا بد له أن يستكمل شروط الإنتساب إلى حرفة الكتابة ويقدّر قيمة الكلمة ويضعها في موضعها، لكي تؤدي غرضها وتعبّر عن رسالتها.

وفي عالمنا العربي عموما لم ندرس كيف نكتب، ولم نتعلم قوانين وأصول الكتابة، ولا توجد حصص دراسية تعلمنا فن الكتابة، بينما في العالم المتقدم يكون لهذه الحصة أهمية كبيرة، وهي ترافق التلاميذ من المراحل الإبتدائية وحتى الجامعية، لأن مهارات الكتابة ضرورية للتقدم وبناء الحياة المتطورة والقوية.

والكتابة حرفة حضارية ترتقي على الكثير من الحِرَف، لأنها جهد فكري وبحثي متواصل ومتفاعل.

ولفقدان هذه المهارة الحضارية الهامة عندنا، فأن منهج كتاباتنا في معظمه نمطي وسلبي في وصفه وإقترابه من الموضوعات، التي يتناولها وتكون أدواته قاصرة وغير قادرة على الوصول إلى جوهر الظاهرة، التي يتصدى لها لتحديد أسبابها ومعالجاتها والوسائل الكفيلة بتجاوزها.

وهو بإختصار شديد منهج نواحي (من النواح)  يسعى إلى تكريس ما يبحثه والندب والبكاء عليه، ويتأكد في تفاعلاتنا والعديد من الكتابات التي نقرأها في الصفحات المختلفة.

وهذا الأسلوب في التفكير والإقتراب قد خيم على حياتنا ومنذ نهايات القرن التاسع عشر، ولم نتجاوزه في كل ما أعطيناه وقدمناه من رؤى وأفكار وتفاعلات على جميع المستويات، فخلاصة ما ننتهي إليه من تصدياتنا الفكرية والسياسية وغيرها، هو النواح والبكاء على الأطلال، وجلد الذات بأقسى الأدوات وأبشع الوسائل وأشرس المهارات، وقد إنعكس ذلك بوضوح في الحالة العراقية وعلى مدى العقود الماضية.

إنه منهج تفكيرنا الذي يستنزفنا ويدفعنا إلى حفرة "مضى وما إنقضى"، ويتلخص في أننا نتناول الموضوعات بسطحية فائقة، ونصب ما فينا من إنفعالات وعواطف على سفوحها، ونستخلص ما نستخلصه من جولاتنا في وهادها ووديانها، ونقول ما نريد قوله لتأكيد ما في نفوسنا وعقدنا الكامنة، ونبقى نهوّل ما جئنا به من جولاتنا الإنزلاقية على سفوح المشكلة أو الظاهرة، التي نتناولها ونحسب أننا خبرناها وأصبحنا أعلاما بها.

فمنهجنا عبارة عن تناول مبسط لأعراض الحالة دون الوصول إلى جذورها ومسبباتها والعوامل المتنوعة المساهمة في تحقيقها، ونكتب عن ذلك كثيرا ونسهب طويلا، ونتوقف عند هذا الحد ولا نمتلك القدرات الحضارية المعاصرة، التي تؤهلنا للوصول إلى رؤية العلامات المبكرة والمتأخرة ووسائل تشخيصها وعلاجها.

وفي هذا يتميز منهج التفكير في العالم المتأخر عنه في العالم المتقدم.

العالم المتأخر لا يمكنه أن يتجاوز ما يرى، بل ويؤكده وينوح عليه ويمعن في تأكيده وتعقيده، ولو تأملنا أية مشكلة في حياتنا وعلى مدى القرن العشرين وإلى الآن، لرأينا بأننا لم نجد حلا لأي منها وإنما حولناها إلى مآسي معقدة تتباكى عليها الأجيال، فتحسب أن البارحة أحسن من اليوم لحلها.

ويمكن لأي واحد منا أن ينظر في أية مشكلة سياسية أو فكرية أو إجتماعية من حوله، ويتفحص منهج تفكيرنا النُواحي وآليات اللطم القائمة في أدمغتنا حتى على مستوى الحياة الشخصية والعائلية.

فالعالم المتأخر يمضي في الوصف السطحي للظواهر ولا يتجاوزها ولا يعرف التفكير بسواها، وقد أكدت هذا الاقتراب البكائي التأبيني كتابات إجتماعية للعديد من الكتاب في القرن العشرين.

وعندما نتصفح تلك الكتابات نراها ذات إقتراب غير علمي ولا معاصر، وهي كتابات ترسيخية ورصدية للظاهرة التي تتناولها، وتحسبها بصمة ختام لا يمكن تجاوزها أو علاجها، ولهذا فهي تكتفي بوصفها وقد وضعت العديد من النظريات والتصورات، التي ما أغنت من سلب ولا جلبت إيجابا.

أما منهج التفكير في العالم المتقدم فهو منهج تشخيص وتحليل وعلاج، أي أنه يتجاوز أسلوب التفكير في العالم المتأخر بكثير جدا.

فالعالم المتقدم لا ينوح، وعندما يتصدى لظاهرة ما فأنه يريد جوابا لأسئلة عديدة، أهمها ما هي الحلول وما هو العمل، أي أن البحث والدراسة والتحليل لا تعني شيئا إن لم تقدم أجوبة وحلولا ممكنة التطبيق، وتجيب على سؤال "ما هو الحل".

ولهذا فأن مناهج التصدي للظواهر وفقا للعقل المتقدم تكون مكتملة، ووفقا للعقل المتأخر تكون مبتورة وناقصة وتساهم في ترسيخ المشكلة وتعقيدها وعدم حلها.

فما قيمة أن يقول الطبيب للمريض أنك تعاني من التهاب الزائدة الدودية ويمعن بشرحها، ويترك المريض على حاله أو يعطيه بعض العقاقير المضادة للألم.

إن في ذلك ضرر كبير وجريمة لأن المريض سيموت حتما، وهو الذي جاء من أجل العلاج وليس الوصف أو التشخيص وحسب.

وكأننا فيما نتناوله من موضوعات مثل هذا الطبيب.

إن الإقتراب من أية ظاهرة ودراسة أي موضوع لا يكون صحيحا ومفيدا إذا لم يتم تقديم المعالجات الممكنة من قبل الشخص الذي يتصدى له، ولا يعني ما توصل إليه هو الحل الأوحد بل أنه أحد الحلول الممكنة، أما أن نبقى نكتب بأسلوب متأخر فأننا نكرس الظواهر ونعقدها.

أنظروا إلى كتاباتنا على مدى الأعوام الماضية، كم منها قد قدمت حلا وشاركت في تغيير الواقع وتأهيل الناس؟

أ ليس القليل جدا منها فعل ذلك، وأن معظمها كتابات تكريسية ونظرية، وليست كتابات علاجية وذات قيمة عملية وواقعية في الحياة.

إن ما نكتبه يكرس ما هو قائم ولا يعالجه، لأنه يمنحه طاقات عاطفية وإنفعالية لثباته وتناميه،  وهذا من أهم الأسباب التي تجعل المتقدم الذي ينظر إلى ما يجري في عالمنا المتأخر محفوفا بالدهشة وعدم الفهم، لأنه يفكر بالعلاجات والحلول ونحن ننزلق على سفوح مشاكلنا وننظر وندعي ما ندعي من تصورات وعندما نأتي إلى المعالجات، فلا ترانا نمتلك القدرة على النبس ببنت شفة.

فمنهجنا منهج نظري وليس  تطبيقيا وعمليا، وهذا ينطبق على معظم المقالات التي نقرأها، وإبداع النظريات المجردة هو علامة من علامات العجز الحضاري.

ولو أخذنا الدين مثلا لرأينا أن فهمنا للدين - إن وجد- يكون نظريا وليس عمليا "الدين العمل" ولكن ديننا ليس عملا وإنما أقوالا وإدّعاءات .

الدين العمل أن تكون نظرية الدين واقعا معاشا ومعبرا عنها في سلوكنا، فالدين العمل والفكر العمل وكل شيئ يتجسد بالعمل، ومن غير عمل لا نفكر ولا نقول ولا نكتب، لأن الحياة تكون وتتغير وتتطور بالعمل لا بالأقوال والنظريات المجردة من العمل.

ولهذا فأن بعض الأخوة يرى عدم جدوى الكتابة لأنها قد إرتقت إلى "مجرد كلام" وليست كتابات عمل ومعالجات وحلول متفقة مع دواعي العصر.

ومما يدعو إلى التساؤل، تناولنا للموضوعات النفسية والإجتماعية بأسلوب إنشائي لا يساهم بتحقيق أية إضافة إيجابية، أو تقديم المساعدة للوصول إلى مخرج من صندوق الويلات والأوجاع المغلق، بل نحن نتباهى بما نكتب ونتوهم بأننا قد إكتشفنا شيئا وأشرنا إليه ولكن لتأكيده وتعقيده وحسب.

ويبدو أننا نجيد كتابة البكائيات ولا نجيد البحث والكتابة العلمية ذات التأثيرات الفعالة في حياة المجتمعات، وتلك مصيبة العالم المتأخر الذي عليه أن يتنبه إليها ويستيقظ من غفلته لكي يلحق بالعالم المتقدم، وإلا ستدوسه سنابك الوثوب العلمي الحضاري التي تتحرك بسرعة فائقة لم تعهدها البشرية من قبل.

فلا بد من تغيير مناهج تفكيرنا لكي نتقدم، وأن يكون إقترابنا من الموضوعات التي نتناولها بناءً إيجابيا وموضوعيا، وأقرب ما يكون إلى العلمية والمعاصرة، أما أن نبقى ندور في حلقة البكاء المفرغة فلن نتقدم لأننا نفكر بدموعنا لا بعقولنا!!

فهل من عقل عملي منير؟!!

 

د. صادق السامرائي

2\2\2006

 

في المثقف اليوم